كان "رولاند هيل" مديرا لإحدى المدارس، وليس له أي خبرة في مكاتب البريد سوى الاستخدام فقط أثناء ثلاثينيات القرن التاسع عشر، لكنه عكف من تلقاء نفسه على وضع مقترحات مفصلة كتبها في وقت فراغه للنهوض بخدمة البريد دون طلب من أي أحد، وفقا لتقرير نشرته "بي بي سي".
بعث "هيل" بالمقترحات إلى وزير الخزانة البريطاني واثقاً من أن فهم هذه المقترحات والخطط سوف يضمن اعتمادها من جانب الحكومة، لكنه كان ساذجا في هذا الظن، فقد تم تجاهلها تماماً.
إصرار على التطوير
- لعدم امتلاكه أي خبرة، علم "هيل" أنه دخيل على مجال البريد، لكنه شعر في قرارة نفسه أنها ميزة، فالعديد من القطاعات التي شهدت إصلاحات هامة تأثرت بشخصيات لم تكن على دراية كافية بالتفاصيل.
- قال "هيل" إن الشخصيات التي اكتشفت العيوب في منظومة أو قطاع لم يكونوا على دراية طويلة بهذا الأمر، لكن من يعملون داخل تلك المنظومة – غير الفاعلة – ربما يرحبون بمن يأتي من الخارج ويقول لهم يجب إصلاح هذا الخطأ وغيره وتحسين هذه النقاط.
- رغم ترحيب مدير إدارة البريد في ذلك الوقت بمقترحاته، فإن وزير الخزانة رفضها تماماً، وهو ما دفع "هيل" إلى طباعة وتوزيع مقترحاته مصراً على أن استيعابه للأمر يعني قدرته وأهليته التامة للمهمة.
- لم يكن "هيل" وحده الحانق على منظومة البريد في بريطانيا خلال تلك الفترة، بل إن من قرأوا مقترحاته ولم يكونوا موظفين بالبريد رأوا أنها ستحدث نقلة نوعية نحو التقدم.
- نجح "هيل" في التواصل مع إحدى المجلات الشهيرة للترويج لحملاته الإصلاحية في البريد بل تم إطلاق حملات للتوقيعات والعرائض المطالبة بالتنفيذ، وفي غضون ثلاث سنوات استجابت الحكومة للضغط الشعبي، وعينت "هيل" نفسه مديراً لهيئة البريد.
ما مشكلات البريد في ذلك الوقت؟
- تلخصت المشكلة التي قدمها "هيل" واقترح علاجها في أن المواطنين كانوا يرسلون الخطابات دون أي مقابل أو تكلفة لإرسالها، لكنهم كانوا يدفعون مقابل استقبالها، ورأى الرجل أن منظومة تسعير البريد معقدة وباهظة الثمن في الكثير من الأحيان.
- لو دق ساعي بريد على باب أحد المواطنين في "برمنجهام"، لم يكن ليسمح للشخص بقراءة الخطاب إلا بعد الحصول على قدر معين من المال لم يكن بعيدا عن المتوسط اليومي للأجور.
- كان أعضاء البرلمان البريطاني يرسلون الخطابات بالبريد دون أي تكلفة، وفي الكثير من الأحيان، كانوا يرسلون خطابات مجاملة لغيرهم من المواطنين دون تكلفة، والنتيجة، سوء استغلال واسع النطاق لهذه الخدمة.
- كانت هناك خدعة أخرى لعدم دفع مقابل لاستقبال الخطاب، وهو كتابة كلمات أو أسماء مشفرة ومختصرة بجانب العنوان، بحيث عندما يدق ساعي البريد على المنزل المراد، ويسأل عن شخص اسمه "تيم هارفورد"، يتفحص الشخص الخطاب ويقرأه ثم يقول إن الاسم المكتوب "تي هارفورد" وليس "تيم"، إنه لشخص آخر ويرفض دفع المقابل.
إصلاحات "هيل"
- عندما تولى "هيل" البريد، قرر تنفيذ منظومة إصلاحات جريئة اعتمدت على أن مُرسل الخطاب – وليس المستقبِل – سيدفع ثمن الخدمة، وحدد سعرا زهيداً لها "بنس واحد فقط" – مهما كانت المسافة – مقابل خطاب يزن 14 جراماً.
- رأى "هيل" أن حل مشكلة التكلفة سيحفز ما سماه "القوى الإنتاجية في البلاد" من خلال البدء بفرض التكلفة ودفع ثمن زهيد للخدمة من الجميع، وهو ما سيحفز المواطنين على إرسال المزيد والمزيد.
- منذ سنوات قليلة في عصرنا الحديث، تحدث اقتصادي بريطاني من أصول هندية "سي كيه براهالاد" عن إمكانية تحقيق ثروات عن طريق ما سماه "قاعدة الهرم" والمقصود بهم الطبقتان المتوسطة والفقيرة في العالم النامي، مشيرا إلى أنهم لا يمتلكون الكثير من الأموال، لكنها تصبح أموالا كثيرة عند وضعها معاً.
- بالرجوع إلى "رولاند هيل"، يتبين أن الرجل كان سابقاً لعصره بـ150 عاماً، فقد تحدث وقتها عن مدى المكاسب التي سيحققها البريد من جمع تكلفة زهيدة من الكثير من الأشخاص، خاصة الفقراء.
- خلص "هيل" إلى أنه كان يريد انخراط كافة الطبقات في المجتمع في استخدام خدمة البريد وعدم اقتصارها على من يملك المال، مشيراً إلى أن الطبقة الفقيرة بها أشخاص يريدون التواصل مع أصدقائهم، لكن مع التكلفة المرتفعة كان ذلك صعباً للغاية، ومن هنا، جاء إصلاح المنظومة.
الوصول للعالمية
- حققت إصلاحات "هيل" نجاحاً مبهراً، فبحلول 1840 – أول عام بعد تطبيق خدمة البريد مقابل "بنس" واحد فقط والتي سُميت "بيني بوست"– ارتفع عدد الخطابات المرسلة إلى أكثر من الضعف، وفي غضون عشر سنوات، تضاعف العدد مجددا.
- استغرق الأمر ثلاث سنوات فقط لظهور الفكرة في سويسرا والبرازيل ثم في أمريكا، وبحلول عام 1860، كان ما يقرب من تسعين دولة تستخدم إصلاحات "هيل" في بريدها.
- أسهم البريد رخيص التكلفة في المزيد من التواصل بين المجتمعات والشعوب، ولا يزال وسيلة هامة في عصرنا الحديث وإن اختلفت أشكال الوسيلة في ظل التقدم التكنولوجي الرهيب والسرعة في إرسال واستقبال الخطابات.
- أجرى خبراء دراسات وتحليلات لتجربة "هيل" في الولايات المتحدة وأكدوا على نجاحها وفاعلياتها ليس فقط في البريد بل أيضاً في قطاعات اخرى معتمدين على مبدأ "قاعدة الهرم".
- بعد نجاح إصلاحات "هيل" في البريد، تساءل محللون: أي من القطاعات حالياً تحتاج لمن يكتشف عيوبها ويقدم مقترحات لحلها أيضا؟ إذن نحتاج لـ"هيل" في الكثير من المجالات.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}