هل تمثل غابات الأمازون رئة الأرض كما اعتدنا أن نصفها أم أنها قلب الأرض، كما تصفها نظريات علمية حديثة ترى أن ملايين الأشجار فيها تعمل عمل "مضخة حيوية" كبيرة تطلق بخار الماء في الجو الذي يتجمع في "أنهار طائرة" تؤثر في توزيع المياه وحركة الرياح في الأرض؟
وما علاقة الصحراء الأفريقية الكبرى بغابات الأمازون التي تؤكد دراسة لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا أنها مصدر الخصوبة فيها والعامل المؤثر في تزويد الأرض بجزء كبير من الأكسجين الذي تنتجه طحالب صغيرة أحادية الخلية فيها؟
أسئلة توضح الأجابة عنها مدى أهمية غابات الأمازون المطيرة للتوازن البيئي والمناخي في كوكبنا. وتفسر لنا نواقيس الخطر التي قرعت في العالم مؤخرا مع تزايد حرائق الغابات في البرازيل، والتي دفعت قادة سبع دول صناعية كبرى اجتمعوا في فرنسا إلى حضها على الحاجة الملحة لوقف هذه الحرائق والتبرع بمبلغ 22 مليون دولار للمساعدة في مكافحة هذه الحرائق.
ولم يتوقف الأمر على الدول، بل هرع العديد من المشاهير وأصحاب الشركات الكبرى في العالم للتبرع للمساعدة في وقف هذه الحرائق، كما هي الحال مع نجم هوليوود الشهير ليوناردو دي كابريو الذي تبرع بخمسة ملايين دولار، والرئيس التنفيذي لشركة أبل تيم كوك الذي غرد عن تبرع شركته للحفاظ على التنوع الحيوي في غابات الأمازون المطيرة، من دون تحديد المبلغ.
نذر كارثة بيئية
وهذه القضية ليست جديدة، إذ يشير تقرير لمنظمة الحياة البرية العالمية إلى أن منطقة الأمازون فقدت أكثر من 17 في المئة من غاباتها خلال الخمسين سنة الأخيرة جراء عمليات قطع أشجار الغابات لتوفير مساحات لرعي وتربية قطعان الماشية.
كما ظل العلماء ونشطاء الدفاع عن البيئة يُحذرون من أن ترافق إزالة الغابات مع تأثيرات التغيير المناخي وارتفاع درجات الحرارة في منطقة الأمازون يهدد بكارثة بيئية وخلق مساحات واسعة من أراضي السافانا الجافة.
وتحذر المنظمة نفسها من أنه إذا تواصلت الوتيرة الحالية لإزالة الغابات فإن العالم سيفقد ما يصل الى 420 مليون فدان من الغابات في الفترة بين 2010 و2030، أي أكثر من 80 في المئة من الغابات في العالم.
وكان تقرير تحليلي لبي بي بي قد كشف عن ارتفاع مطرد في حجم حرائق الغابات في الأمازون بالتزامن مع الانخفاض الحاد في الغرامات التي كانت تفرض على الانتهاكات بحق البيئة، التي يتهم منتقدون للرئيس البرازيلي جاير بولسونارو إدارته بإعطاء الضوء الأخضر لعمليات تدمير منظمة لغابات البرازيل المطيرة.
رئة الأرض أم قلبها ؟
تمتد غابات الأمازون المطيرة على مساحة 5.5 مليون كيلومتر مربع، أي على مساحة أكبر من مساحة الاتحاد الأوروبي، ويحتوي نهر الأمازون الجاري فيها على نحو 20 في المئة من المياه العذبة الجارية في الأرض.
وعلى الرغم من أن منطقة الأمازون لا تغطي سوى 4 في المئة من سطح الأرض، إلا أنها تحتوي على ثلث عديد أنواع النباتات والحيوانات والحشرات وبقية الكائنات الحية التي على الأرض.
وتضم غابات الأمازون المطيرة نسبة 10 في المئة من كتلة الحياة على الأرض، وتشكل ما يشبه الاسفنجة الضخمة التي تمتص وتختزن كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون الذي تمتصه أشجارها لتنتج عبر عملية التركيب الضوئي نحو 20 في المئة من الأكسجين في كوكبنا.
لذا اعتاد العلماء على وصفها بأنها "رئة الأرض" لأنها تلعب دورا جوهريا في دورة الكاربون في الأرض التي تؤثر في مناخها، ويحذر العلماء من عمليات إزالة الغابات ستسبب في اطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الغلاف الجوي ما سيُسهم في التغيير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، بحسب مؤسسة الغابات المطيرة ومقرها النرويج.
بيد أن عددا من العلماء يقولون إن الأمازون تمثل أيضا "قلب الأرض" النابض، وفق ما تقترحه نظريات علمية حديثة، مستندين إلى أن ملايين الأشجار في هذه المنطقة تعمل معا أشبه بـ"مضخة حيوية" ضخمة تولد دورة حركة مياه عبر ما تضخه في الهواء من بخار ماء، تتحرك في ما يشبه "الأنهار الطائرة" التي تؤثر في طبيعة المناخ في كوكبنا.
وكان أول من طرح نظرية المضخة تلك، العالمان في معهد الفيزياء النووية في سانت بطرسبرغ، اناستاسيا ماكاريفا وفيكتور غروشكوف في عام 2007.
وتقلب هذه النظرية الاعتقاد السائد بأن الغابات المطيرة هي نتاج سقوط الأمطار الغزيرة، مشيرة بدلا من ذلك إلى أن هذه الغابات هي من يسهم فعليا في خلق الظروف المناسبة لسقوط الأمطار الغزيرة وليس العكس.
وتشير إلى أن عملية التكثيف الناجمة عن إنتاج بخار الماء جراء عملية "النتح" في الأشجار التي تحصل فوق الغابات الطبيعية وليس اختلاف درجات الحرارة هي ما يقود الى حركة الرياح ومن ثم سقوط الأمطار.
وتقول مؤسسة الغابات المطيرة إن هذه الغابات تنتج خمسين في المئة من كل الأمطار التي تسقط فوق منطقة الأمازون كما تؤثر على مسار وآلية سقوط الأمطار في قارة أمريكا الجنوبية وخارجها.
الأنهار الطائرة
استخدم مصطلح "الأنهار الطائرة" لأول مرة العالم في معهد بحوث الفضاء البرازيلي (آي أن بي إي) جوزيه مارينغو لوصف تيارات بخار الماء التي يحملها الهواء من غابات الأمازون باتجاه جبال الأنديز الشرقية وشمال الأرجنتين.
ووفقا لعالم المناخ البرازيلي، أنتونيو نوبري، تنقل الأنهار الطائرة كمية من المياه أكثر من نهر الأمازون. إذ يقول إن "الشجرة الكبيرة الواحدة تطرح ما مساحته 20 مترا مربعا من بخار الماء أي ما يصل إلى 300 لتر يوميا، أي أن نسبة البخار الناتج عن الغابات تزيد بـ 8 الى 10 مرات عن ما ينتجه المتر المربع الواحد من مياه المحيطات من البخار وهو متر مربع واحد.
ويضيف نوبري أن غابات الأمازون تنتج يوميا ما معدله 20 مليار طن متري من البخار أي أكثر مما يتدفق في نهر الأمازون إلى المحيط الأطلسي، وهو 17 مليون طن متري.
ويسقط على منطقة الأمازون سنويا 15.400 كيلومترا مكعبا من الأمطار وهو أعلى معدل لتساقط الأمطار في العالم، وهي ضعف ما يسقط على روسيا التي تليها في المرتبة الثانية بما معدله 7800 كيلومترا مكعبا سنويا.
وتسعى مجموعة من العلماء الذين أسسوا "مشروع الأنهار الطائرة" في عام 2007 إلى تقديم دراسة علمية دقيقة لهذه الظاهرة بأخذ نماذج من تيارات البخار في مناطق مختلفة ومتابعة تطورها وحركتها في مراحل زمنية مختلفة، فضلا عن لفت الانتباه إلى أهمية أشجار غابات الأمازون المطيرة في هذه الظاهرة وفي التوازن البيئي على كوكبنا.
وبقدر علماء هذا المشروع تدفق بخار الماء من منطقة الأمازون بـ 200 ألف متر مكعب في الثانية.
وتعمل عالمة المناخ، الدكتورة روزا ماريا دوس سانتوس، منذ نحو عشر سنوات على دراسة هذه الظاهرة وأهمية الغابات المطيرة لعالمنا.
وقد استخدمت روزا أطول برج بني في أمريكا الجنوبية وسط غابات الأمازون لدراستها ويدعى برج أوتو.
وبني البرج من الفولاذ بارتفاع 325 مترا (أطول بمتر من برج إيفل) وزود بأجهزة لقياس درجات الحرارة والتغييرات الكيميائية والغازات الدفيئة وبقية الظواهر المناخية.
بحر الخصوبة من أفريقيا إلى الأمازون
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: ماذا عن الأكسجين الذي تنتجه أشجار غابات الأمازون، وهل ستتغير نظرتنا إلى هذه المنطقة بعد هذه النظريات؟
وتنتج غابات الأمازون كميات من الأكسجين أكثر بعشرين مرة مما يستهلكه مجموع البشر على الأرض، ولكن العلماء يقولون إنه لا يخرج أي نفس منه خارج المنطقة نفسها ويستهلك كليا داخلها.
ويبررون ذلك بالحياة الحيوانية الهائلة التي تعيش في ظلال هذه الغابات والتي تستهلك كل ما تنتجه من أكسجين.
وتعيدنا النظريات العلمية هنا إلى دورة حياة جديدة قد تقودنا الى الصحراء الأفريقية. إذ خلصت دراسة علمية أجراها فريق بحثي تابع لوكالة الفضاء الأمريكية ناسا بالاستناد إلى رصد أقمارها الاصطناعية، ونشرت في فبراير/شباط عام 2015 دورية "جيوفيزيكس ريسيرج ليترز"، إلى وجود علاقة بين أكثر مناطق الأرض جفافا، أي الصحراء الأفريقية الكبرى مع أكثرها رطوبة وأمطارا استوائية، وهي منطقة الأمازون.
وتمكن علماء ناسا لأول مرة من بناء نموذج ثلاثي الأبعاد يوضح حركة الغبار القادمة من الصحراء عبر المحيط، وقياس كمية الغبار وسرعتها وكميات الفسفور فيها.
وترى الدراسة أن الحياة النباتية في الأمازون تعتمد على يحمله الغبار والأتربة القادمة من أفريقيا من مغذيات "Nutrients" لتربة الأمازون الفقيرة لهذه العناصر التي تمنح الأرض خصوبتها. إذ تتسبب سيول الأمطار الدائمة والأنهار بتجريف تربتها باستمرار، فيعيدها الغبار القادم من أفريقيا في دورة مستمرة.
ويقول البروفيسور، هونغبين يو، من جامعة ماريلاند والذي رأس فريق بحث ناسا، إن الكثير من الفسفور الذي يحمله الغبار مصدره حوض بحيرة جافة ضخمة في تشاد تدعى بوديليه وهي غنية بالأحجار المعدنية وتتكون تربتها من تراكم أطنان من الكائنات الدقيقة الميتة الغنية بالفسفور.
وتقدر الدراسة حجم ما يصل سنويا من الفسفور من الصحراء الأفريقية إلى الأمازون بنحو 22 ألف طن، وهي تعادل الكمية التي تفقدها تربة المنطقة بسبب السيول والأمطار.
وتقول الدراسة إن الريح تحمل ما معدله 182 مليون طن من الغبار والأتربة سنويا وتسير على مسافة 1600 ميلا عبر المحيط ، وتقدر ما يسقط منه في حوض الأمازون بـ 27.7 مليون طن، وتذهب 43 مليون طن أخرى لتستقر في منطقة البحر الكاريبي.
واعتمدت الدراسة على بيانات رصد الاقمار الاصطناعية لمدة خمس سنوات لحركة الرياح وما تحملة من أفريقيا إلى أمريكا الجنوبية.
من أين يأتي الأكسجين؟
وفي المسلسل الوثائقي العلمي الذي انتجته ناشنال جيوغرافيك تحت عنوان "هذه الصخرة الغريبة"، يصف رائد الفضاء كريس هادفيلد، الذي قضى 166 يوما في محطة الفضاء الدولية مشاهداته من الفضاء لهذه الظاهرة.
ويقول أنه كان يشاهد من تلك المحطة التي تبعد نحو مليون قدم عن سطح الأرض "نهرا من الغيوم يتدفق على امتداد أمريكا ويحجب كل شيء تحته حتى يصل إلى جدار حجري" يبلغ ارتفاعه نحو أربعة أميال والذي يعرف بجبال الأنديز.
وفوق هذه الجبال يتكثف البخار ليستحيل إلى حبات مطر تنحدر في سيول من جديد إلى حوض الأمازون جارفة ما يقف في طريقها من صخور وتربة، تنقلها مياه الأنهار إلى المحيط.
وفي المحيط تكون هناك تجمعات من الطحالب الدقيقة وحيدة الخلية تعرف بالدياتوم في انتظار ما تحمله المياه من صخور، إذ تعيش هذه الكائنات على استهلاك عنصر السليكون، الذي تحتاجه في تكوين غلافها (قشترتها)، من أكسيد السليكون.
توصف تلك الطحالب الدقيقة بأنها أرفع أربع مرات من شعرة إنسان، وتعد مصدرا سريا لتزويد الأرض بالأكسجين، الذي تنتجه بعملية التركيب الضوئي.
وتقدر دراسات علمية ما تنتجه تجمعات طحالب الدياتوم من الأكسجين بنحو 20 في المئة من كمية الأكسجين في الأرض.
وتعيش هذه الكائنات الدقيقة في البحار والمحيطات وفي مجاري المياه والأنهار وفي التربة وتصل أعدادها إلى ترليونات. وقد أظهرت صور التقطتها المحطة الفضائية الدولية حجم تجمعاتها الضخمة في المحيطات.
ويربط فريق البحث الذي أشرف على هذه الفيلم الوثائقي العلمي بين هذه الظواهر في دورة حياة واحدة : فالرياح التي تحمل الرمال والأتربة من قلب الصحراء الكبرى، تحمل معها أطنانا من الدياتوم الميتة من قاع البحيرات القديمة الجافة كبحيرة بوديليه، فتغذي تربة الأمازون بعناصر خصوبتها، وتشجع نمو الحياة النباتية فيها، فتنتج أشجارها كميات من الأكسجين وبخار الماء عبر عملية التركيب الضوئي، ويتكثف البخار في تيارات غيوم ضخمة تعرف بـ "الأنهار الطائرة" تتحول من جديد إلى أمطار على جبال الأنديز وتعود سيولا إلى حوض الأمازون تجرف الصخور والتربة التي ينقلها نهرها الكبير إلى المحيط، حيث تغذي تجمعات مستعمرات الدياتوم التي تستهلك السليكون الذي فيها لتكمل دورة الحياة وتنتج الأكسجين بدورها.
ويرى فريق البحث أن هذه الكائنات الدقيقة تساعدنا في إدامة حياتنا وهي حية عبر إنتاج الأكسجين أو وهي ميتة عبر تحولها إلى مصدر لخصوبة التربية وتغذية النباتات.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}