كما يصف القانون بعض الجرائم بأنها لا تسقط بالتقادم، فإنه في النظام المالي العالمي هناك مطالب لا تنتهي بمرور السنين.
وتعتبر قصة الديون الخارجية للإمبراطورية الروسية مثالاً على أن انقضاء عشرات الأعوام وتغير الأنظمة السياسية قد لا يمنع المستثمرين الأجانب من الحصول على أموالهم في النهاية.
اضطرابات ودماء
مع بداية القرن العشرين كانت الإمبراطورية الروسية آنذاك تشهد حالةً من الغليان الشديد بين معظم فئات الشعب؛ نتيجة للفقر وتراجع حجم الأراضي الزراعية والركود الصناعي والحروب الفاشلة التي أفرغت خزائن الدولة.
واعتمد النظام القيصري على الاقتراض الحاد من المؤسسات الأجنبية، في مسعى للإنفاق السخي على البنية التحتية وخاصة السكك الحديدية واللحاق بركب التقدم الغربي في هذا المجال.
ووقعت الكثير من الاحتجاجات الدامية في روسيا خلال الفترة بين عامي 1905 إلى 1907 والتي قلصت من حكم القيصر وأنتجت برلمانًا وانتشارًا للأفكار اليسارية.
وفي عام 1914 دخلت الإمبراطورية الروسية في خضم الحرب العالمية الأولى إلى جانب قوات الوفاق المتمثلة في فرنسا وبريطانيا، ما زاد من الأعباء الاقتصادية وأثار احتجاجات جديدة بين الشعب.
وبحلول ذلك العام، وصلت ديون روسيا لنحو 930 مليون إسترليني أو ما يعادل 50% من الدخل القومي، مع تشجيع الحكومة الفرنسية لرعاياها على الاستثمار بقوة في السندات الروسية والتي تمنح عائدًا مرتفعًا ولم تشهد أي تعثر في السداد سابقًا.
ووسط الحرب والاحتجاجات المتزايدة اضطر آخر القياصرة الروس "نيقولاي الثاني" للتنحي عن العرش في فبراير 1917، لتتسلم البلاد حكومة مؤقتة.
لكن بعد أشهر قليلة تمكن البلاشفة بقيادة "فيلاديمير لينين" و"ليون تروتسكي" من السيطرة على الحكم وإقصاء الحكومة المؤقتة وإعلان خروج روسيا من الحرب وعقد صلح منفرد من ألمانيا.
وبعد السيطرة على الحكم، أوفت الحكومة الاشتراكية الجديدة بوعودها السابقة بعدم سداد الدين الخارجي لروسيا والذي كان قد تجاوز سريعًا حاجز الـ3 مليارات إسترليني معظمها من فرنسا وبريطانيا.
ومع بداية عام 1918 أصدرت الحكومة السوفيتية قرارًا بتعليق سداد خدمة الديون الأجنبية، قبل أن تعلن بعد أيام إلغاء كل ديون الإمبراطورية القيصرية والحكومة المؤقتة التالية لها.
ولم تكتف الحكومة البلشفية بذلك، لكنها قامت بمصادرة كل ممتلكات الرأسماليين الأجانب في روسيا، وكان هذا القرار بمثابة أكبر عملية تعثّر عن سداد الديون في التاريخ حتى ذلك الوقت.
غضب رسمي وأمل شعبي
بررت الحكومة البلشفية رفضها سداد الديون الأجنبية بأن هذه الأموال تدفقت إلى القيصر وحاشيته ولم يستفد منها الشعب، وبالتالي لا يجب أن يلتزم الأخير بسدادها للدائنين.
وتعتبر هذه الفكرة ما يطلق عليها حاليًا "الديون البغيضة"، وهو الدين الذي تحصل عليه حكومة دولة ما بدون إذن الشعب وتستخدمه فيما لا ينفعه خاصة إذا كان الدائنون على معرفة بهذا الفعل، ليجادل البعض بأن هذه الديون لا يجب تمريرها إلى الحكومة التالية.
كما ذكرت الحكومة الروسية فرنسا والولايات المتحدة أنها أيضًا قامت بإلغاء ديونها الخارجية بعد الثورات التي اندلعت في كلا البلدين سابقاً.
لكن حكومات الدول الغربية وخاصة أكبر الدائنين لروسيا - فرنسا وبريطانيا – لم تتقبل هذه الحجج وأعلنت رفض تقديم أي قروض للحكومة البلشفية إلا بعد تسوية أزمة 1917، كما منعت تداول الذهب الروسي بين المستثمرين.
لكن بالنسبة لحكومة الثورة البلشفية آنذاك والتي كانت تواجه أزمات داخلية طاحنة تتراوح بين نقص الغذاء والحرب الأهلية، فإن فوائد إلغاء الديون ومدفوعاتها تبدو أكبر بكثير من خسائر عدم إمكانية الاقتراض مجددًا من الدول الغربية.
كما اكتشفت الحكومة الروسية أنها قادرة على جمع ضرائب أكثر والاعتماد على الاقتراض الداخلي رخيص التكلفة، ما يقلص الحاجة لأي قروض أجنبية.
وتشير البيانات إلى أن معدل الاستهلاك نسبة للناتج المحلي الإجمالي في روسيا تراجع بقوة من 81% في الفترة من 1903 إلى 1913 ليصل إلى 72% بداية من عام 1925 وحتى 1934، وبالتالي زادت حصيلة الضرائب والأموال المتاحة للإقراض الداخلي بنحو الضعف تقريبًا.
لكن في عام 1927 قامت روسيا بمحاولة خجولة لتسوية الأزمة مع حاملي السندات في فرنسا بعرض سداد 15% من قيمة السندات مقابل إتاحة الاقتراض أمامها، لكن العرض تم رفضه من الجانب الفرنسي.
وعلى الجانب الآخر، عرضت حكومتا فرنسا وبريطانيا تعويض مواطنيها عبر مبادلة السندات الروسية التي بحوزتهم بديون حكومية محلية، وهو العرض الذي لم يلق حماسة من معظم حاملي السندات؛ بسبب اختلاف معدل العائد بين السندات والذي كان أعلى بالطبع من الجانب الروسي.
وظل الكثير من الأسر الفرنسية يتوارثون أوراق الديون الروسية عبر الأجيال، على أمل استجابة روسيا وحصولهم على أموالهم.
وتداول الآلاف من الفرنسيين قصص أجدادهم حول فقدان مدخراتهم؛ بسبب الثورة البلشفية التي رفضت سداد أموالهم، مع نصائح بالحفاظ على ورق الدين أملاً في قيام موسكو يومًا ما بإعادة القروض لأصحابها.
تسوية غير مرضية
لكن نصائح الأجداد لم تكن بلا جدوى في النهاية، ففي عام 1991 انهار الاتحاد السوفيتي وتم إعلان قيام روسيا الاتحادية على أنقاض القوة العظمى السابقة.
ومع الأزمة الاقتصادية الحادة التي تلت تفكك الاتحاد السوفيتي والحاجة إلى الاقتراض الخارجي وإعادة هيكلة الديون بمساعدة نادي باريس، عادت قضية إلغاء الديون عام 1917 إلى ساحة المفاوضات مجددًا.
واعترفت روسيا الاتحادية في عام 1996 بتحملها مسؤولية ديون عصر الإمبراطورية القيصرية، قبل أن يعلن الرئيس "بوريس يلتسين" في العام التالي التوصل لاتفاق مع الحكومة الفرنسية لسداد ديون حاملي السندات، بعد سنوات من اتفاق مماثل مع بريطانيا.
واتفق الطرفان على سداد روسيا مبلغ 3 مليارات فرنك أو ما يعادل 400 مليون دولار أمريكي على مراحل انتهت في عام 2000.
وأقر الاتفاق بحق كل حامل للسندات بالحصول على حد أقصى يعادل 14 ألف دولار بصرف النظر عن قيمة ما يحمله من ديون قديمة ضد روسيا.
وبعد الاتفاق، سمحت الحكومة الفرنسية لمواطنيها بشراء السندات الروسية لأول مرة منذ عام 1918، لتتم أول عملية شراء لديون لأجل 10 أعوام في يونيو 1997.
لكن بالنسبة لعدد كبير من الفرنسيين من حاملي السندات الروسية، فإن الاتفاق يعتبر غير مرضٍ ولم يمنحهم ما كانوا يأملون فيه.
ويعتقد حاملو السندات أن ما حصلوا عليه لا يعادل 1% من حقوقهم بالنظر إلى القيمة الشرائية للأموال بعد مرور ما يزيد على 80 عامًا.
وقال "بيبر دي بونتبرياند" مؤسس الجمعية الفرنسية لحاملي السندات الروسية والتي بلغ عدد أعضائها في وقت الاتفاق نحو 15 ألف عضو إنه لم يقابل شخصًا واحدًا يشعر بالرضا عن صفقة تسوية الديون.
وتقدم بالفعل العديد من الفرنسيين بأكثر من دعوى قضائية ضد روسيا للمطالبة بتعويضات أكبر، لكن القضاء لم يقض بحقهم في ذلك.
ورغم حصول آلاف الفرنسيين على أموال كانت تعتبر في طي النسيان، فإن الأمل لا يزال يراود البعض في مزيد من المعجزات وبالتالي المزيد من الأموال.
المصادر: واشنطن بوست - شيكاغو تريبيون - انترناشيونال فيو بوينت
دراسة Regime change and debt default: The case of Russia
دراسة Russia’s Home Front, 1914-1922: The Economy
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}