"الأرقام لا تكذب"، ربما سمعت أو قرأت هذه العبارة كثيراً على مدار سنوات من متابعتك لأخبار الاقتصاد والمال، في إطار توجه عام يدعو للثقة في البيانات المجردة.
لكن الواقع يشير إلى أن الأرقام الجامدة قد تقدم أحيانًا صورة مغايرة للواقع الفعلي، وهو ما يظهر بشكل واضح في طريقة قياس الثروات الوطنية عبر مؤشر الناتج المحلي الإجمالي.
ما هو الناتج المحلي؟
الناتج المحلي الإجمالي أو GDP هو كل ما يتم إنتاجه من سلع وخدمات في أي بلد خلال فترة زمنية غالباً ما تكون عامًا واحدًا.
ويتم قياس النمو الاقتصادي في أي دولة من خلال رصد التغير بالنسبة المئوية لإجمالي ما تنتجه البلد من سلع وخدمات في فترة ما مقارنة بنفس الفترة قبل عام.
وعادة ما يٌنسب الفضل لـ"سيمون كوزنتس" الحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد في استحداث مؤشر الناتج المحلي الإجمالي منذ محاولته لتقييم الدخل القومي للولايات المتحدة في عام 1932 لفهم المدى الكلي للكساد العظيم.
لكن الواقع يشير إلى أن التعريف الحديث للناتج المحلي الإجمالي تم تصميمه من قبل الاقتصادي الشهير "جون ماينارد كينز" خلال الحرب العالمية الثانية.
ففي عام 1940 وبعد أشهر قليلة من بداية الحرب العالمية الثانية، نشر "كينز" مقالاً يشكو فيه من عدم كفاية الإحصاءات الاقتصادية المتاحة لرصد ما يمكن للاقتصاد البريطاني أن ينتجه بالموارد المتاحة، معتبراً أن ندرة البيانات تجعل من الصعب تقدير إمكانات التعبئة خلال الصراع.
وأشار "كينز" إلى أن تقدير الدخل القومي يجب أن يتم عبر حساب مجموع الاستهلاك الخاص والاستثمار والإنفاق الحكومي، رافضاً رؤية "كوزنتس" التي كانت تتضمن الدخل الحكومي وليس الإنفاق.
ووجدت طريقة الاقتصادي البريطاني لحساب الناتج المحلي الإجمالي والتي تشمل الإنفاق الحكومي داخل الدولة والتي كانت مدفوعة آنذاك بضرورة الحرب قبولاً في جميع أنحاء العالم، وهو ما استمر حتى الآن.
ثغرات كبيرة للمؤشر
لكن مع حقيقة ظهور مقياس الناتج المحلي في فترة الحرب، فإن هذه الطريقة تجاهلت بعض الأمور التي قد لا يمكن رصدها في فترات السلم.
فمع رصد الناتج المحلي إجمالي قيمة السلع والخدمات المنتجة في الاقتصاد خلال فترة زمنية، فإن ذلك لا يقدم تقييمًا للآثار الإيجابية أو السلبية الناشئة عن عمليات الإنتاج.
وفي حين يرصد الناتج المحلي عدد السيارات أو المباني أو الطرق التي تم بناؤها خلال العام، فإنه لا يوضح الآثار الناتجة عن هذه العمليات على البيئة أو الصحة.
وكما قال "روبرت كينيدي" في خطاب شهير عام 1968، فإن الناتج المحلي الإجمالي يقيس كل شيء باختصار باستثناء ما يجعل الحياة ذات قيمة.
الأمر الآخر، أن الناتج المحلي الإجمالي يفشل أيضاً في رصد كيفية توزيع الدخل عبر المجتمع، فطريقة القياس تشير بشكل عام إلى حجم الاقتصاد والدخل المحقق بصرف النظر عما إذا كان التوزيع يتم بشكل متكافئ بين فئات المجتمع.
وفي اجتماع "دافوس" لعام 2016، أشار المشاركون إلى أنه رغم حقيقة نمو الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة بشكل متواصل باستثاء عام 2009، فإن معظم الأمريكيين أصبحوا في حالة أسوأ مما كانوا عليه قبل 30 عاماً مع استفادة الأثرياء فقط من معظم النمو المحقق.
وبالنسبة للفئات الأدنى من حيث الدخل، تراجعت الأجور الحقيقية المعدلة وفقاً للأسعار لتصبح أقل مما كانت عليه قبل 60 عاماً، ما يعني أن النظام الاقتصادي لا يعمل بكفاءة بالنسبة لمعظم الناس.
وتبدو قضية كيفية التوزيع ومدى عدالته أكثر إلحاحاً في الوقت الحالي، بالنظر إلى مشكلة ارتفاع عدم المساواة بين العالمين المتقدم والنامي وحتى داخل الاقتصاد الواحد.
النقطة الثالثة تتمثل في التغيرات المتسارعة حالياً تجاه التحول إلى اقتصاد الخدمات والتي تجعل الجودة تحل بدلاً من الحجم، ما يجعل مفهوم الناتج المحلي يبدو بعيداً عن الواقع.
والواقع أن مفهوم الناتج المحلي الإجمالي ظهر في عصر كان يهمين عليه التوجه نحو التصنيع، لكن الوضع تحول في السنوات الماضية لتسيطر الخدمات على معظم ما يتم إنتاجه في الاقتصادات المتقدمة.
وبالفعل، لا يقيس الناتج المحلي الإجمالي تطور الخدمات بشكل جيد مثلما هو الأمر بالنسبة للسلع الملموسة، فمثلا إذا تحسن الطعام في المطعم المفضل لك فإن ذلك لن يظهر على الإطلاق في تغير الناتج المحلي.
وأيضاً إذا تمكنت صناعة الطيران من تطوير خدماتها لتفادي وقوع حوادث تحطم فإن ذلك لن يمثل أي تغيير، بل على العكس ربما يفضل المهتمون بقياس الناتج المحلي وقوع حوادث حتى يتم بناء طائرات جديدة تضاف لما يتم إنتاجه في البلاد.
ومع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا والذي يظهر جلياً في خدمات الاقتصاد التشاركي والتجارة الإلكترونية وغيرها، تزداد صعوبة رصد قيمة الخدمات التي يحصل عليها المستهلكون والشركات.
النمو قد لا يعني الرفاهية
الناتج المحلي يقيس الأشياء التي نشتريها ونبيعها في فترة ما، لكن من الممكن للغاية أن يسير الناتج المحلي الإجمالي في اتجاه معاكس تماماً للرفاهية.
تخيل حدوث زلزال أو إعصار في دولة ما، ستضطر الحكومة والشركات الخاصة بالطبع لإنفاق مليارات الدولارات على جهود إعادة البناء، وهو ما سيدعم تسارع النمو الاقتصادي للبلاد حتى رغم حقيقة أن مئات وربما آلاف الأشخاص فقدوا وظائفهم ومنازلهم وربما حياتهم.
وبالتالي، بالنسبة للمواطنين العاديين فإن هذا الوضع يعتبر بمثابة كارثة ومأساة، لكن الاقتصاديين سيرون زيادة في الإنفاق والسلع المنتجة والمتبادلة في الدولة.
نفس الأمر يتكرر على المستوى الفردي، فعندما يتعرض شخص ما للمرض وينفق المال على الرعاية الصحية والذهاب إلى الطبيب وشراء الأدوية فإن ذلك سيتم احتسابه كجزء من الناتج المحلي.
ورغم أن المجتمع سيكون أفضل حالاً بدون وقوع الزلزال أو مرض الناس، فإن الناتج المحلي سيخالف هذا التوجه لأنه لا يمكنه الفصل بين "السيئ" و"الجيد" في الإنفاق.
رحلة البحث عن بدائل
اعتاد الاقتصاديون الذين يدركون سلبيات الناتج المحلي الإجمالي كطريقة لقياس الثروة، البحث عن بدائل تقدم صورة أفضل لرفاهية الدولة ومواطنيها.
ومن ضمن البدائل التي ظهرت في السنوات الماضية كان "مؤشر التقدم الحقيقي" أو GPI، وهو ما تم تصميمه ليرصد بشكل عام رفاهية الدولة من خلال دمج حجم الاقتصاد بالعوامل البيئية والاجتماعية
ويأخذ المؤشر في الاعتبار تكلفة الآثار السلبية المرتبطة بالنشاط الاقتصادي مثل الجريمة واستنفاد الموارد والبيئة وغيرهما.
كما ظهر مؤشر آخر وهو "السعادة القومية الإجمالية"، والذي يرصد مستويات المعيشة والصحة والحوكمة والراحة النفسية وغيرها من المؤشرات التي يتم رصدها عبر مسح عشوائي للآلاف من الأسر.
وتبرز طريقة أخرى بديلة للناتج المحلي وهي "مؤشر التنمية البشرية" أو HDI والذي يرصد الفرص والقدرة بدلاً من النمو الاقتصادي أو الاستدامة البيئية.
ويهتم هذا المؤشر بتقييم أمور مثل العمر المتوقع عند الولادة والصحة، والمعرفة عبر سنوات التعليم، والمستوى المعيشي للمواطنين عبر نصيب الفرد من الدخل القومي.
ومنظمة دول التعاون الاقتصادي والتنمية كان لها نصيب أيضاً من تطوير مؤشر بديل للناتج المحلي الإجمالي والذي تصفه بـ"الرقم الجامد الذي لا يكفي لرصد كل ما في الحياة".
ويرصد المؤشر الذي يحمل اسم "الحياة الأفضل" رفاهية الأفراد في الدول المختلفة عبر 11 موضوعاً أساسياً تتضمن الإسكان والدخل والوظائف والتعليم والبيئة والصحة والسلامة والتوازن بين الحياة والعمل.
لكن في النهاية ورغم هذه الجهود المتواصلة لتقديم صورة مختلفة، لا يزال الناتج المحلي الإجمالي هو المقياس الأكثر استخداماً لرصد تطور وأداء الاقتصادات حول العالم.
ورغم الاعتراف الواسع بأن الناتج المحلي قد لا يكون المؤشر الأفضل، فإنه يظل بمثابة الطريقة المعترف بها عالمياً عندما نرغب في مقارنة أداء اقتصاد دولة بباقي دول العالم.
المصادر: أرقام –المنتدى الاقتصادي العالمي –هارفارد بيزنس ريفيو – منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية -سي بي إس نيوز –ذاكونفيرسيشن
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}