فى السياسة الدولية هناك مصطلح شهير يُسمى "سياسة الهاتف الأحمر"، ترجع التسمية إلى عام 1963 حين اندلعت أزمة الصواريخ الكوبية بين القوتين العظميين فى ذلك الوقت: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، وتصاعدت الأحداث لدرجة تشي بقرب اندلاع حرب عالمية نووية هائلة، لكن توصل مسؤولو حكومات البلدين إلى طريقة يمكن بها تسوية الملفات الحساسة ونزع فتيل أزمة عالمية مماثلة فى المستقبل عن طريق تأمين وسيلة اتصال مباشرة بين قادة البلدين عبر الهاتف وسيلة الإتصال الأسرع فى ذلك الوقت، وكان لون هذا الهاتف أحمر، لذلك سميت هذه السياسة بسياسة "الهاتف الأحمر".
عالم اليوم تغير وأصبحت الصين هى القوة العظمى المنافسة للولايات المتحدة بدلاً من الاتحاد السوفيتي الذي انهار وتفتت، والرئيس الأمريكي "جو بايدن" حتى أيام قليلة مضت لم يكن قد أجرى أي تواصل هاتفي مع نظيره الصيني "تشي جين بينج" سوى مرة واحدة بعد فوزه بالانتخابات.
ويمكن تسمية المكالمة التى جرت فى فبراير الماضي بأنها مكالمة بروتوكولية أكثر منها مكالمة حقيقية لمناقشة القضايا الأساسية، وذلك قبل أن يحدث اتصال ثانٍ بينهما الخميس الماضي دام لأكثر من 90 دقيقة ولم تكن مثل مكالمة فبراير، بل جاءت المكالمة منصبة مباشرة على المصالح المشتركة بين البلدين والموضوعات العميقة التى تجمعهماا.
لماذا تُعد مجرد مكالمة هاتفية أمراً مهمّاً؟ لأنها مكالمة تجمع رئيسَيْ أكبر قوتين فى الاقتصاد العالمي ومسرح السياسة الدولية، لم يعد هناك وجود للاتحاد السوفيتي وصعدت الصين مكانه فى السباق الدولي، وهذا هو السبب الأول لأهمية المكالمة.
السبب الثاني هو التوقيت، فالعالم هذه الفترة يمر بفترة عصيبة وشديدة التعقيد والحساسية ولم تعد جائحة كورونا هي الموضوع الرئيسي للنقاش العالمي بل ظهرت أزمات أخرى مثل الظواهر المناخية القاسية وأزمة أفغانستان والعلاقات مع روسيا وأوروبا، أما السبب الثالث والأخير فهو يتمثل في احتدام المنافسة بين "واشنطن" و"بكين" في الشهور الأخيرة بصورة توحي بخطر اشتعال عالمي فى أي لحظة.
كيف كانت التجارة بين البلدين بعد 7 أشهر في عهد بايدن؟ هذا السؤال يمكن قياسه بدءاً من شهر فبراير لأنه يجب الأخذ في الاعتبار أن الرئيس الأمريكي الجديد حتى وإن كان تولى السلطة رسمياً فى شهر يناير إلا أنه من المنطقي وجود حاجة لمزيد من الوقت للتأقلم مع الوضع الجديد وتشكيل فريق العمل.
كذلك تعيين المسؤولين التنفيذيين الرئيسيين للإدارات الفيدرالية المختلفة، لذا ستبدأ المقارنة من شهر فبراير 2021 لكن ستكون مع نفس الشهور من عام 2019 لقياس كيف كان الوضع حين كانت الأمور طبيعية قبل حدوث جائحة كورونا.
العجز فى الميزان التجاري الأمريكي مع الصين في عهد بايدن مقارنة بما قبل الجائحة 2019 - 2021 (مليار دولار) |
||
الشهر |
2021 |
2019 |
فبراير |
(24.6) |
(25.0) |
مارس |
(27.6) |
(20.6) |
أبريل |
(25.8) |
(26.7) |
مايو |
(26.3) |
(30.0) |
يونيو |
(27.8) |
(29.7) |
يوليو |
(28.6) |
(32.6) |
الإجمالي فى 6 أشهر |
(160.7) |
(164.6) |
بناءً على الأرقام فى الجدول السابق، يعتقد البعض في الإدارة الأمريكية الحالية أن الرسوم الجمركية المفروضة في عهد "ترامب" لم تؤد إلى التغييرات المرجوة في سلوك الصين، ومع مرور الوقت فقدت الرسوم تأثيرها المنتظر كوسيلة ضغط لإعادة بكين إلى طاولة المفاوضات أو الوفاء بالتزاماتها التي قطعتها على نفسها في اتفاق "المرحلة الأولى" ببن البلدين في العام الماضي.
في رأي "توم دونيلون"، وهو صديق قديم ومستشار للرئيس الأمريكي، فإن "بايدن" يقود تحولاً جوهرياً في السياسة الخارجية وسياسة الأمن القومي ويريد التحرك نحو سياسة تتجاوز حادث الحادي عشر من سبتمبر وهو الحادث الذي حدد السياسة الخارجية الأمريكية لعشرين عاماً، إنها إعادة توجيه أساسية لبوصلة الأمن القومي الأمريكي وكذلك لتحديات الاستثمار الأجنبي الداخل والخارج وليست فقط القضايا السياسية.
التغير فى تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بين البلدين في أعوام 2017,2018,2019,2020 "مليار دولار" |
||
العام |
الاستثمار الأمريكي في الصين |
الاستثمار الصيني في أمريكا |
2018 |
+2.4 |
+1.0 |
2019 |
+5.6 |
+4.2 |
2020 |
+10.7 |
(1.7) |
أثناء أحداث الحادي عشر من سبتمبر كان "بايدن" هو رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس الأمريكي وقاد جهوداً كبيرة لدعم التدخل العسكري الأمريكي في العراق وأفغانستان، أي أنه كان عنصراً رئيساً فى السياسة الخارجية الأمريكية التي يقوم الآن بالاستدارة لتجاوزها والمضي قدماً نحو سياسة جديدة تضع نصب أعينها الخصم والمنافس الآسيوي الشرس.
مقارنة المؤشرات الاقتصادية الأساسية بين الولايات المتحدة والصين في 2021 |
||
المؤشر |
الولايات المتحدة الأمريكية |
الصين |
الناتج المحلي الإجمالي (بنهاية 2020 – بالتريليون دولار) |
20.9 |
14.7 |
الدين الحكومي للناتج المحلي الإجمالي (بنهاية 2020 - %) |
108 |
66.8 |
نصيب الفرد من الناتج (بنهاية 2020 - بالدولار) |
53.750 |
8.400 |
معدل البطالة (أغسطس 2021 - %) |
5.2 |
5.1 |
سعر الصرف |
1.0 |
6.4 |
العائد على سندات 30 عاما (سبتمبر 2021 - %) |
1.9 |
3.4 |
النمو الربعي (الربع الثاني 2021 - %) |
6.6 |
7.9 |
معدل التضخم (أغسطس 2021 - %) |
5.4 |
0.8 |
سعر الفائدة (سبتمبر 2021 - %) |
0.25 |
3.8 |
الرسوم الجمركية
لا تزال حتى اللحظة تُفرض رسوم بمقدار 300 مليار دولار على البضائع الصينية المتدفقة للموانئ والأسواق الأمريكية، أي أن الصراع الاقتصادي بين البلدين لم يخمد في عهد بايدن ولم يتراجع، بل يستقر ويميل نحو التصاعد.
ممثلة التجارة الأمريكية "كاثرين تاي" تباحثت مع عدد من الخبراء والمستشارين بشأن تحديد دقيق للخسائر الناجمة عن الدعم الذي تقدمه الحكومة الصينية لشركاتها والتى تُغرق السوق الأمريكي بالبضائع، "تاي" تحتاج هذا التقييم للبناء عليه فى تحديد أي رد سيكون الأنسب تجاه الصين.
لكن ومع ذلك، فإن مصادر قريبة من صنع القرار قالت لـ "بلومبرغ" إن تحقيقاً بدأ ومراجعات تُجرى منذ فترة تحت القسم 301 من قانون التجارة الأمريكي الصادر عام 1974، وهو نفس القسم الذي جرى تحت مظلته فرض رسوم جمركية فى عهد "ترامب" ضد الصين.
لكن ماهية النتائج التي ستصدر عن هذه التحقيقات والبحوث الجارية هو أمر صعب التكهن به لأنه يتم حساب الرد الانتقامي من الصين والأضرار الجانبية على المزارعين والمصنعين الأمريكيين بشكل أكثر دقة من حسابات إدارة "ترامب" بحسب "بلومبرغ".
ماذا تريد الصين؟
منذ يوليو الماضي، أشار المسؤولون الصينيون مراراً وتكراراً إلى أن مطالبهم من الجانب الأمريكي تشمل رفع جميع العقوبات، وإلغاء التعريفات الجمركية العقابية، والغاء حظر التأشيرات، وإنهاء قيود تصدير التكنولوجيا الفائقة من الولايات المتحدة للصين، وسحب طلب تسليم "منغ وانتشو" المدير المالى لشركة هواوى تكنولوجيز.
يقول "شى ين هونغ" مدير مركز الدراسات الامريكية بجامعة رنمين في "بكين" والذي عمل مستشاراً لمجلس الدولة الصيني: "القمة نفسها ليست هامة- يقصد قمة المناخ القادمة آخر العام والتى من المحتمل أن تجمع قادة كلا البلدين- المهم هو مراقبة ما إذا كانت العلاقات بينهما تشهد بعض التحسن الملحوظ بعد أسابيع وأشهر- من عهد بايدن– ولكن أي مراقب ومُطلع على الأوضاع في هذا العالم ليس متفائلاً".
كثير من المشاجرات خلال 7 أشهر
ومنذ أول مكالمة بين "بايدن" و"تشي" في فبراير وأخر مكالمة الأسبوع الماضي، اشتبكت الدولتان مراراً حول حقوق الإنسان والأمن السيبراني والتحقيقات المستمرة والجدل الدائر حول أصول فيروس كورونا، كما شهدت علاقات بكين بالمعسكر الغربي الكثير من التدهور خاصة في العلاقات مع حلفاء الولايات المتحدة.
مثلا الخلاف الصيني مع كندا حول قضية "منغ-هواوي" ومع أستراليا حول تحقيقات الجائحة، ومع أوروبا حول مزاعم الإبادة الجماعية في "شينجيانغ" ، كل هذه الدراما والإثارة خلال سبعة أشهر فقط، ما الذي يمكن أن يحدث خلال 7 سنوات؟ لذا فإن "شي ين هونغ" له حق فى ألا يكون متفائلاً بآفاق العلاقات المستقبلية بين البلدين.
قمة أكتوبر تحمل الأمل
اجتماع وقمة على مستوى قادة البلدين ربما تكون أقرب فرصة لها وأكثر من أي وقت مضى، في قمة المناخ أواخر أكتوبر القادم فى روما الإيطالية، التى تجمع قادة دول مجموعة العشرين وغير واضح حتى الآن حضور أي منهما خاصة الرئيس الصيني الذي لم يخرج من بلاده طيلة الـ 600 يوم الفائتة، وهي أطول مدة بقاء بالوطن لأي من قادة دول العشرين.
يقول "تشانغ مونان"، وهو زميل في مركز أبحاث التبادل الاقتصادي الدولي والمدعوم حكومياً في بكين: "إن المكالمة الهاتفية قد تكون نقطة تحول تؤدي إلى محادثات تجارية أو استئناف حوار استراتيجي مُجمد منذ إدارة ترامب".
أما "جريج جيليجان" رئيس مجلس إدارة غرفة التجارة الأمريكية في الصين في مقابلة مع "بلومبرغ" فيقول: "توجد فجوة كبيرة بين البلدين والمسؤولين المعنيين، ولكن إذا اجتمع قادة البلدين واستعادوا عملية التواصل مجدداً، فسيكون ذلك أمراً جيداً".
إذن الأمل معقود الآن على استعادة وإعادة تشغيل "الهاتف الأحمر"، لأن ما يحدث حالياً لا يقل خطورة وإثارة عن أزمة الصواريخ الكوبية وصراعات الحرب الباردة الأمريكية – السوفيتية، بل إن الحرب الباردة الأمريكية – الصينية ستكون أكثر وأشد وطأة على العالم فى حال تطورت لنزاع دولي شامل وهو ما لا يرغب فيه أحد.
مصادر: أرقام – بلومبرغ – وول ستريت جورنال – سي إن بي سي – البنك الدولي – صندوق النقد الدولي.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}