هل يمكن أن تتسبب "رفرفة" من جناح فراشة تطير في أدغال الأمازون في دعم تيار هوائي صغير ليندمج بآخر أكثر قوة ليصنع بعد سلسلة من التطورات إعصارًا في مكان بعيد للغاية وليكن في سيبيريا؟ بحيث يمكن القول إن إعصار سيبيريا لم يكن ليحدث لولا رفرفة فراشة الأمازون؟
حسنًا ربما يكون في الأمر مبالغة من الناحية العلمية، ولكن هذه هي أساس النظرية التي تشير إلى أن التغيير البسيط في جزء واحد من نظام معقد، مثل رفرفة جناح فراشة، يمكن أن يؤدي إلى عواقب كبيرة وغير متوقعة في أجزاء أخرى من النظام، وهو ما يظهر كثيرًا في الاقتصاد والأسواق المالية.
عشوائية تامة؟
وصاغ "إدوارد لورينز" لأول مرة في عام 1961 تعبير "تأثير الفراشة" في المجال العام، أما في عالم أسواق الأسهم اعتبر كثيرون أن تنويع المحفظة هو من أهم وسائل التحوط لمثل هذا التأثير، بسبب تعدد المؤثرات أو "الفراشات" التي يمكن أن تسبب آثارًا واسعة في السوق.
ولهذا أثار الكاتب "بورتون مالكيل" ضجة كبيرة في الولايات المتحدة بنشره كتابه "السير عشوائيًا في وول ستريت"، في عام 1973.
وزعم مالكيل في كتابه أن سوق الأسهم يتسم بالعشوائية والفوضى التامة، وأن التنبؤ باتجاهاته أمر مستحيل، واستند مالكيل في نظريته، التي سماها "المشي العشوائي"، إلى تطوير نظريات رياضية ظهرت قبل قرن ونصف في فرنسا، وشبه مالكيل عمل المستثمرين في سوق الأسهم آنذاك بمجموعة من القرود تلعب لعبة رمي السهام.
فكما أن نتائج رمي القرود عشوائية تمامًا، فإن نتائج الاستثمار في سوق الأسهم عشوائية كذلك، ولا يمكن التنبؤ بها، ودعم مالكيل نظريته بحقيقة أن 80-90% من المتعاملين في سوق الأسهم يخسرون أموالهم، وبالتالي فإنه لو كان الاستثمار مبنيًا على العلم، كما يعتقد البعض، لما كانت نسبة الفشل مرتفعة بهذا الشكل.
وأكدت تجربة عملية بارزة صحة افتراضات مالكيل عام 1988، فقد أجرت صحيفة "وول ستريت جورنال" مقارنة بين أداء محرريها في سوق الأسهم وأداء المحترفين، لمعرفة ما إذا كان الخبراء حقًا أفضل في التنبؤ بحركة السوق.
وأظهرت النتائج أن الخبراء تفوقوا على المحررين (القرود) بشكل طفيف، حيث فازوا في 87 مسابقة من أصل 142، ومع ذلك، يرفض مالكيل إرجاع هذا التفوق لخبرة المحترفين، حيث يعتقد أن الخبراء يتمتعون بميزة نسبية فقط، وهي أن توقعاتهم أحيانًا تؤثر على السوق وتدفع الأسعار للارتفاع، وليس بالضرورة بسبب تحليلهم الأساسي السليم.
باختصار، يرى مالكيل أن الاستثمار في سوق الأسهم أشبه بلعبة الحظ، وأن التنبؤ بحركة السوق أمر مستحيل، بسبب تعدد المؤثرات عليه وإمكانية حدوث "غير المنتظر" طوال الوقت، أي أنه يمكن القول إنه يعتبر السوق مليئا بالفراشات التي تؤثر على حركته ويستحيل عمليًا حصرها.
غياب للمنطق
وفيما يتعلق بتأثير الفراشة أيضا يُحذر المحلل المالي الشهير "ديفيد كوهين" في كتابه "الأسواق والهلع والطمع" من أن أكثر من 90% من أزمات أسواق المال عبر التاريخ نشأت عن مخاوف أو أطماع غير منطقية، أي أن الفراشة هنا قد لا تكون "ملموسة" ولكنها اعتقاد يتسع بأن الأسواق إما لن ترتفع وإما لن تنخفض وفي كلا الحالتين يكون الاعتقاد خاطئا.
ويضيف "كوهين" أن مثل هذا الاعتقاد وشيوعه يجب أن يُمثل ذلك ناقوس خطر دائمًا يجب على المستثمرين وضعه نصب أعينهم ودراسته باستمرار، فعلى الرغم من إدراك العديد من المتعاملين لتاريخ أسواق الأسهم وخطورة الاستسلام للمخاوف أو الأطماع، فإنهم يجدون صعوبة في مقاومة تلك المشاعر.
يُشير كوهين إلى ذلك بقوله: "القواعد واضحة دائمًا، لكن المعضلة تكمن في قدرة الفرد على اتباعها بشكل سليم ودائم"، ولذلك تُظهر لنا الأحداث أن فقاعات الأسواق لا تتكرر بنفس الطريقة تمامًا خلال المائة عام الماضية، إلا أن لكل منها مقدماتها.
تأثير الفراشة عمليًا
فعلى سبيل المثال، أدت سياسة خفض أسعار الفائدة وتيسير القروض العقارية الأمريكية في عام 2003 إلى الأزمة المالية العالمية عام 2008، كما أدت المضاربات على السوق العقارية في اليابان في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، بدافع اعتقاد خاطئ بأن "العقار سعره لا ينخفض"، إلى انهيار أسعار العقارات بنسبة 95% في بداية التسعينيات.
ففي الأزمة المالية العالمية يمكن القول إن تأثير الفراشة كان في تيسير القروض العقارية، فهل يمكن القول إن هذا هو السبب الوحيد.. لا بالطبع ولكنه كان السبب الذي أحدث مجموعة من التفاعلات التي انتهت بإفلاس شركات ومتداولين وتعثر شركات كبيرة لسنوات.
ولذلك فبدلا من أن يقدم التاريخ درسًا محددًا في كل مرة، فإنه يُشير إلى أهمية الانتباه إلى العلامات التحذيرية المبكرة لتجنب الوقوع في فخ فقاعات الأسواق، حيث تختلف فقاعات الأسواق عن الأحداث الطبيعية مثل الأعاصير والأوبئة، حيث إنها لا تحدث بشكل عشوائي، بل لها تمهيدات يمكن رصدها وتجنبها.
تأثير الفراشة والمحفظة الاستثمارية
والشاهد هنا أن التحسب لـ"تأثير الفراشة" كثيرًا ما يجعل الظاهرة لا تتحقق، ومن ذلك القلق المستمر حول عملاق العقارات الصيني "إيفر جراند"، الذي بدأ منذ عام 2016 مع معاناة الشركة من صعوبات مالية، ثم تفاقم في 2018 وأصبحت الشركة على حافة الهاوية في 2021 قبل أن تعلن هونج كونج إفلاسها في 2024.
فالمخاوف كانت أن تتسبب ديون الشركة الصينية في إفلاسها ومن ثم التسبب في إفلاسات واسعة في القطاع العقاري الصيني، ثم التسبب في أزمة مالية عالمية، إلا أن إفلاسها لم يتسبب حتى في أزمة صينية نظرًا للتنبه الصيني والعالمي للأمر بما دعا البنوك الحكومية الصينية لعمل برامج احتواء تمويلية لتجنب توسع تأثير الفراشة بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
ووفقا لدراسة أجراها الخبير المالي "دي إن نوروكي" أنه يمكن أن يكون لتأثير الفراشة تأثير كبير على تحسين المحفظة الاستثمارية، حيث إن أي تغيير بسيط في الحالة الأولية للمحفظة يمكن أن يكون له تأثير كبير وغير متوقع على أدائها.
على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي تغيير بسيط في عمليات الشراء الأولية للمحفظة إلى تكوين مختلف للأسهم، أو إذا تم استثمار مبلغ مختلف من الأموال في كل سهم، مما قد يؤدي إلى نتيجة مختلفة جذريًا. وهذا يجعل تحسين المحفظة مهمة صعبة، حيث إنه من الصعب التنبؤ بكيفية تأثير تغيير بسيط في تكوينها الأساسي على أداء المحفظة ككل.
ولذلك، يقترح نوروكي أن تحسين المحفظة ينبغي أن يتم بحذر شديد، حيث إن التغيير البسيط يمكن أن يكون له تأثير لا يمكن التنبؤ به على أداء المحفظة.، ولهذا فإن المتداول الأشهر "وارين بافيت" يضع قرابة 85% من محفظته في 10 أسهم على الرغم من أنه يرى أن التنوع بمثابة تحوط ضد الجهل إلا أنه ما زال ينوع أصوله لكي يتلافى تأثير يصعب رصده يؤثر على أحد الأسهم التي يمتلكها.
والشاهد أن الخوف من تأثير الفراشة يتسبب في إرباك الكثير من المتداولين، حيث إن 70-85% منهم لا يستطيعون التفرقة بين المعلومات الهامة وتلك غير الهامة بسبب تلقفهم للعديد من الإشارات التي يعتبرونها –أو يعتبرها غيرهم- بمثابة حدث صغير لكن له ما يتبعه وبالتالي يجب إيلاؤه الاهتمام الخاص.
والحل الوحيد لهذه المعضلة أن يتنبه المتداول باستمرار للمعلومات ذات القيمة مبكرًا، ولا يتم ذلك إلا بقراءاته لتاريخ الأسواق في صعودها وانحدارها، ودراسة أساليب المتداولين الناجحين عبر التاريخ، مع ملاحظة أن الخسارة تبقى جزءا من التداول عليه تقبلها، لا سيما إذا كانت بسبب "فراشة" تتحرك بعيدًا ويصعب للغاية التكهن بتأثير حركتها عليه، ولكن الدراسة والتحليل المستمرين هما الوسيلة الرئيسية للربح في سوق الأسهم.
المصادر: أرقام- كتاب " Fear, Greed & Panic: The Psychology of the Stock Market"- فوربس- نيويورك تايمز- وول ستريت جورنال
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}