في الهند، حكاية شهيرة يتداولها ويتناقلها الناس جيلا بعد جيل. والحكاية كالتالي: في إحدى القرى الصغيرة، كان هناك رجل يخرج صباح كل يوم من منزله نحو مكان معين في ساحة البلدة حاملاً معه علماً وبوقاً.
وعندما يصل إلى ذلك المكان، يبدأ في التلويح بالعلم والنفخ في البوق، قبل أن يعود منتشياً وفرحاً إلى منزله وعائلته.
يلاحظ أهل القرية ويلفت انتباههم ما يفعله هذا الرجل، ليأتي شيخ القرية ويسأله "يا فلان ماذا تفعل؟" يجيب الرجل قائلاً: "أنا أطرد الأفيال بعيداً". قبل أن يقاطعه شيخ القرية في استغراب قائلاً "ولكن لا توجد أفيال في قريتنا". يبتسم الرجل ثم يقول في ثقة: "إذن فأنا أقوم بعملي على نحو جيد."
بعضنا حين يسمع هذه القصة ربما يعتقد أن هذا الرجل لديه مشاكل تتعلق بصحته العقلية ولا يستطيع التمييز بين مفهومين مختلفين تماماً وهما: السببية "العِلّيّة" ((Causation والعلاقة الارتباطية (Correlation) غير أن الأمر في الحقيقة أعمق من ذلك بكثير.
ببساطة، اعتقاد الرجل بأن عدم وجود أفيال في القرية هو دليل على براعته وقدرته على السيطرة هو في الحقيقة نتاج تحيز سلوكي أطلقت عليه "إلين لانجر" أستاذة علم النفس بجامعة هارفارد "وهم السيطرة" (Illusion of Control) في دراسة نشرتها في العام 1975 في "مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي".
ضرورة فهمك لحدود سيطرتك
"وهم السيطرة" هو ميلنا إلى الاعتقاد بأننا يمكننا السيطرة على شيء أو على الأقل التأثير فيه على الرغم من أننا في حقيقة الأمر لا نملك أي سيطرة عليه مطلقا. بعبارة أخرى، أنت تقنع نفسك بأن العشوائية لا تنطبق عليك. وقد لا يتمكن الآخرون من التحكم في مصائرهم، ولكنك تعتقد أنك قادر على ذلك بطريقة ما.
لنضرب مثالاً آخر. كما تعلم نحن الآن في موسم البطيخ. لنفترض أنك ذهبت إلى المتجر لشراء ثمرة بطيخ لأسرتك. تدخل إلى المتجر وتبدأ في فحص المعروض من البطيخ وتمسك بالثمرة وتطرق عليها بيديك. أنت في الحقيقة لا تعرف لماذا تطرق عليها، أو ما الذي يجب أن تسمعه بالتحديد، غير أنك ترى من حولك يفعلون ذلك.
باختصار، اشتريت ثمرة البطيخ وعدت بها إلى أسرتك، لتقطعها وتكتشف أنها رائعة الطعم والمذاق. في تلك اللحظة يسيطر عليك شعور بالثقة، وتبدأ تحكي لزوجتك وأولادك كيف أنك كنت ثاقب الرؤية وبعيد النظر وقوي البصيرة حين اخترت هذه الثمرة بالتحديد من بين كل المعروض في المتجر.
في اليوم التالي، وتحت تأثير الشعور الزائف بالسيطرة تذهب إلى ذات المتجر بنية شراء البطيخ، ولكن هذه المرة قررت أن أقاربك يجب أن يستفيدوا من حنكتك وخبرتك في البطيخ، وعلى هذا الأساس قررت أن تشتري لك ولهم. تقوم بنفس الحركات، وتختار 5 ثمرات تعود بهم إلى منزلك قبل أن تكتشف أنها كلها "أبيض من الثلج". (لكل جواد كبوة).
ما حدث هنا هو أنك قمت بالخلط بين الحظ والمهارة. ففي اليوم الأول أنت افترضت أنك من ذوي المهارات العالية في اختيار البطيخ، غير أنك في واقع الأمر كنت محظوظاً فقط. ببساطة، ربما كان كل البطيخ المعروض في المتجر في ذلك اليوم جيد. أي أن اختيارك لم يؤثر في واقع الأمر على النتيجة التي حصلت عليها.
لكن المشكلة الآن ليست في البطيخ عديم الطعم الذي اخترته، وإنما المشكلة الأكبر هي أن شعورك الزائف بالسيطرة سيؤدي إلى إحساسك بالإحباط وربما الغضب. ستغضب وتلوم نفسك على النتيجة على الرغم من أنك لا تمتلك في الحقيقة أي سيطرة عليها.
لنتجاوز البطيخ ونقفز إلى سؤال هام جداً يطرح نفسه، وهو: من أين تأتي هذه النزعة السلوكية؟ يشير المتخصصون بعلم النفس إلى أن العجز عن التعامل مع المجهول يخلق ضغطاً إدراكياً على الدماغ البشري.
ولتجنب هذا الإجهاد، تحاول أدمغتنا التخلص من الضغط الذي تخلقه حالة عدم اليقين بأي شكل حتى لو كان ذلك من خلال الاستسلام للوهم. وهكذا، فإن "وهم السيطرة" هو في حقيقته حيلة من الدماغ تهدف للتخلص من الضغط المصاحب لحالة عدم اليقين.
هذا بالمناسبة يفسر لماذا يقوم البعض أحياناً بالتحدث في الهاتف أثناء قيادة السيارة على الطرق السريعة أو قيادتها رغم علمهم بأنه توجد مشكلة في المكابح وذلك على الرغم من إدراكهم التام لمدى خطورة ذلك.
ببساطة، من يقوم بذلك يعتقد أنه أكثر قدرة من أولئك الذين فقدوا حياتهم بسبب هذا الفعل في السيطرة على الأمور إن حدثت أي مشكلة.
لكن في الوقت نفسه يجب الإشارة إلى أن "وهم السيطرة" له تأثيرات إيجابية على حياتنا. فقد أظهرت العديد من الدراسات العلمية أن غياب "السيطرة المتصورة" يؤدي إلى الاكتئاب والتشاؤم والانسحاب والتقهقر إلى الخلف في المواقف الحياتية الصعبة. على النقيض، نجد أن امتلاك إحساس عام بالسيطرة يؤدي إلى احترام الذات والتفاؤل.
ألف ريال إذا صح توقعك
ما رأيك لو أجرينا تجربة نختبر فيها مدى تأثرنا كمستثمرين بـ"وهم السيطرة". التجربة أو بالأحرى اللعبة ستكون عبارة عن رهان بيننا، وهذا الرهان من الممكن أن يأخذ شكلاً من اثنين:
الشكل الأول: سأقوم أنا بشكل عشوائي باختيار أي سهم من الأسهم المتداولة بسوق الأسهم السعودي، وأنت عليك أن تخمن ما إذا كان ذلك السهم، سيرتفع أم سينخفض في تداولات الغد. إذا صح توقعك، فسأدفع لك ألف ريال، وإن خاب فسأحصل أنا على نفس المبلغ.
الشكل الثاني: سأقوم بشكل عشوائي باختيار سهم من الأسهم المتداولة بالسوق، ولكن هذه المرة عليك أن تخمن ما إذا كان ذلك السهم ارتفع أو انخفض في تداولات الخميس الماضي (أنت لا تعرف وأيضاً لن يسمح لك بالبحث عن السعر). إذا صح توقعك، فسأدفع لك ألف ريال، وإن خاب فسأحصل أنا على نفس المبلغ.
السؤال لك الآن، ما هو الرهان الذي تفضل الدخول فيه؟ في تجربة مماثلة في جامعة ستانفورد، اختار ثلثا المشاركين في التجربة الشكل الأول للرهان. ولكن لماذا؟ ففي نهاية الأمر احتمال ربحك أو خسارتك لأي الرهانين هي 50% مقابل 50%. ببساطة الأغلبية مالت إلى الخيار الأول لأن لديها شعورا زائفا بأن تخميناتها قادرة على التأثير في النتيجة المستقبلية التي لم تتحدد بعد.
وهذا هو نفس السبب الذي يدفع الأغلبية إلى القبول بالدخول في رهان على نتيجة لعبة "ملك أو كتابة" قبل أن يتم رمي العملة المعدنية في الهواء، وليس بعد أن يتم رميها ولا تزال النتيجة مخفية. هم يتصرفون كما لو أن اختياراتهم مهما كانت من الممكن أن تؤثر على طريقة دوران العملة في الهواء.
في دراسة نشرتها "مجلة علم النفس المهني والتنظيمي" في العام 2003 تحت عنوان "التداول تحت تأثير الأوهام: تصورات غير واقعية عن السيطرة والقدرة على التداول" درس الباحثون سلوك 107 متداولين ينتمون إلى عدد من البنوك الاستثمارية في لندن.
كان من بين المشاركين، 52 متداولا و40 من مديري التداول و15 من كبار المديرين (66% منهم كانوا حاصلين على درجة البكالوريوس و36% كانوا يحملون درجات علمية أعلى). باختصار، خلصت التجربة إلى وجود علاقة عكسية واضحة بين الأداء و"وهم السيطرة". فالمتداولون الأكثر تأثراً بوهم السيطرة كانوا هم الأقل أرباحاً.
"وهم السيطرة" يفسر أيضاً قيام بعض المستثمرين بشراء حيازات كبيرة من أسهم الشركات التي يشعرون بقدر من السيطرة عليها. ولكن الواقع دائماً ما يثبت أن سيطرتك أو تأثيرك كمستثمر على أداء شركة بعينها هو شعور وهمي، ويضر في نهاية المطاف بتوازن وتنويع المحفظة.
الكثير من المستثمرين يشعرون بثقة زائدة غير مبررة في اختياراتهم، وذلك نتيجة لمبالغتهم في قدراتهم المعرفية. لذلك يشير المتخصصون إلى أن "وهم السيطرة" هو أحد أكبر التحديات النفسية التي تواجه المستثمر بصفة يومية، ونجاحه على المدى الطويل يعتمد على مدى قدرته على تحجيم ذلك الشعور.
يجب على المستثمر أن يدرك أن الاستثمار الناجح ما هو إلا نشاط احتمالي. لمجرد أنك اشتريت سهم شركة معينة لا يعني أنك بالفعل تتحكم في مصير هذا السهم أو تضمن اتجاهه.
باختصار، إذا كنت ترغب في النجاح بسوق الأسهم، فيجب عليك أن تدرك أن الاستثمار عملية طويلة الأجل، والربح أو الخسارة في تلك العملية لا يتأثر بما تعتقده أنت أو غيرك بل عادة ما يكون نتيجة لعوامل لا يمكنك السيطرة عليها مثل أداء الشركات والظروف الاقتصادية العامة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}