لم يعد مفهوم بيع الأوطان قاصرًا على تلك الصورة الدرامية الخيالية التي يخون فيها بعض العسكريين في الأزمان الغابرة شعوبهم وملوكهم بالسماح لجيوش الأعداء بالعبور ليلًا إلى داخل أسوار المدينة مقابل حفنة من الذهب، الآن إن كنت تملك المال فلن تحتاج لرشوة حارس البوابة أو خوض غمار معركة طاحنة، بكل سهولة يمكنك شراء حقوق المواطنة في دول ما والاستمتاع بكامل الحقوق التي يحظى بها مواطنوها، بحسب تقرير لـ"الإيكونوميست".
نعم، الأمر بهذه السهولة، أشبه بالتقدم بطلب لاستئجار عقار أو تقسيط سيارة جديدة، فالعملية برمتها تحولت إلى نشاط تجاري تستفيد بعض البلدان الصغيرة من عائده المادي بغض النظر عن المخاطر المنطوية عليه، والتي قد تشمل اجتذاب المجرمين والخارجين على القانون إلى هذه الدول.
عندما أطيح برئيس وزراء تايلاند السابق "تاكسين شيناواترا" عام 2006، عقب الانقلاب العسكري في البلاد، تم تجريده من جواز السفر الخاص به، لكن الرجل وجد ملاذًا له في الجبل الأسود التي أصبح أحد مواطنيها بفضل شرائه جزيرة صغيرة تابعة لها.
توسع وخوف
- يتزايد عدد المهاجرين بغرض الاستثمار، حيث يتم شراء الآلاف من جوازات السفر كل عام، وغالبًا ما تأتي عمليات الشراء من قبل الأثرياء، ويصل عدد تصاريح الإقامة الممنوحة بغرض استئناف الأنشطة التجارية إلى مئات الآلاف.
- إن صناعة ما يعرف بـ(المواطنة والإقامة مقابل الاستثمار) آخذة في الازدهار، وبات الاستشاريون المصرفيون والمحاسبون والقانونيون ووكلاء العقارات، مشغولين بتقديم المشورة للمستثمرين، الغاضبين من القيود المفروضة على كيفية الحصول على جنسية أخرى أو حتى تأشيرة إقامة طويلة الأجل.
- مع ذلك تخضع هذه الصناعة إلى المزيد والمزيد من الشكوك والانتقاد، إذ يشتبه كثيرون في أنها تسوق وتبيع الحقوق والامتيازات التي تحظى بقدسية لدى المواطنين للمحتالين والإرهابيين الذين يسعون إلى حياة أكثر سهولة وحرية.
- بالنسبة للاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، فإن القضية غاية في الحساسية، فالحصول على جواز سفر أحد البلدان الأعضاء يعني اكتساب حرية التنقل بين باقي الدول البالغ عددها 22 دولة، بفضل تأشيرة "شنغن".
سلعة المواطنة
- لتلبية الطلب على التأشيرات وجوازات السفر على المدى الطويل، تسعى البلدان على نحو متزايد للترويج لمناطق القوة والجذب، وهناك الآن نحو 100 دولة تقدم برامج "الإقامة مقابل الاستثمار".
- هناك 12 دولة تعرض حق المواطنة (الذي يعد أكثر عمقًا من مجرد حمل الجنسية) مقابل الاستثمار، منها خمس جزر كاريبية وجمهورية فانواتو في المحيط الهادئ والأردن وثلاثة بلدان من الاتحاد الأوروبي هي النمسا وقبرص ومالطا.
- يضاف إلى هذه المجموعة الجبل الأسود التي أعلنت عزمها إطلاق برنامجها الرسمي الجديد في أكتوبر/ تشرين الأول، أما آخر الوافدين إلى هذه القائمة فهي مولدوفا، التي وقعت عقدًا في يوليو/ تموز الماضي مع كونسورتيوم لتصميم مخطط المواطنة الاستثمارية.
- لا يحبذ اللاعبون في الصناعة حاليًا التحدث عن واحدة من التجارب الرائدة، والتي تعود لمملكة تونغا في جنوب المحيط الهادئ، والتي بدأت عام 1983 بيع جوازات السفر مقابل بضعة آلاف من الدولارات دون كثير من القيود.
- يعود أصل صناعة المواطنة والإقامة مقابل الاستثمار الحديثة إلى قانون صدر عام 1984 في سانت كيتس ونفيس وهي دولة اتحادية صغيرة في أمريكا الوسطى، بدأت في هذا التاريخ منح المواطنة للأجانب الذين ضخوا استثمارات كبيرة في البلاد، واليوم يبلغ عدد سكانها 50 ألف شخص نصفهم خارج البلاد يحملون جوازات سفر.
- الأهم من ذلك بالنسبة إلى حجم الصناعة، هو عندما أصدرت كندا عام 1986 برنامج الإقامة مقابل الاستثمار، والذي شكل عامل جذب لمواطني هونج كونج أثناء توتر العلاقات مع الحكومة الصينية عام 1997 على خلفية انتقال تابعية الجزيرة إلى بكين بعد عقود من الاحتلال البريطاني.
- تبعت بلدان أخرى كندا، بما في ذلك الولايات المتحدة عام 1990 عندما أطلقت تأشيرات "إي بي 5" التي تتطلب استثمار ما لا يقل عن مليون دولار، أو 500 ألف دولار شرط أن تكون في إحدى المناطق عالية البطالة.
- الحجم الإجمالي لأعمال هذه الصناعة غير معروف، لكن مجلس الهجرة من أجل الاستثمار، وهي جماعة ضغط، يقول إن 5 آلاف شخص يحصلون على المواطنة كل عام بهذه الطريقة، ويستثمرون نحو 3 مليارات دولار، لكن بالحديث عن حق الإقامة مقابل الاستثمار فهو أكبر بكثير، فأمريكا وحدها تصدر نحو 10 آلاف تأشيرة "إي بي 5" كل عام.
- تقول شركة الاستشارات المتعلقة بالمواطنة والإقامة "هينلي آند بارتنرز" إن الشركات العاملة في المجال استشارات، قدمت المشورة للحكومات (بما في ذلك مالطا ومولدوفا) والمهاجرين على حد سواء، وأنها سهلت تدفق ما يزيد على 7 مليارات دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
- الوجهتان الأكثر شعبية، هما البرنامج الفيدرالي الكندي والذي تم تعطيله قبل 4 سنوات، أما برنامج "إي بي 5" الأمريكي، فيحظى بقائمة انتظار لمقدمي الطلبات الصينيين، تمتد حتى 18 عامًا.
- الطلب آخذ في الارتفاع في أماكن أخرى مثل البرازيل والهند وروسيا وفيتنام، ويعتقد "تشاد ريتشارد" من شركة المحاماة الأمريكية المتخصصة في الهجرة "فراغومين"، أن المسار الاستثماري أصبح أكثر شعبية بسبب البيئة المقيدة التي تؤثر على الطرق الأخرى لتأمين الإقامة أو المواطنة في الخارج، مثل طلبات اللجوء وتأشيرات العمل.
واقع أليم
- تبقى الحقيقة المُرة أن بعض المسارعين في طوابير الانتماء للخارج هم من المحتالين والمطاردين، وهم أيضًا من يقودون زخم وشعبية هذه الصناعة، والسماح لهؤلاء بشراء حق الإقامة أو المواطنة هو فضيحة كما جاء في صحيفة "تايمز أوف لندن" قبل أشهر.
- لم يعد هناك مكان أكثر تراخيًا مما كانت عليه تونغا في الماضي، لكن الشكوك ما زالت تحوم حول هذه الأعمال، ومساعدتها للمراوغين والهاربين في التملص من قبضة العدالة.
- "لوو تايك جهو" والمعروف أيضًا باسم "جهو لوو" هو ممول ماليزي هارب من الملاحقات الأمنية على خلفية تورطه في فضيحة فساد كبرى مرتبطة بصندوق الثروة السيادي في البلاد، لكنه ينعم الآن بالسلام والهدوء كمواطن في سانت كيتس.
- "ميهول تشوكسي"، مثال آخر على مراوغة العدالة، وهو ملياردير هندي مطلوب أمنيًا على خلفية تورطه في عملية احتيال تقدر بملياري دولار، لكنه انتقل بداية هذا العام إلى أنتيغوا وبربودا التي يحظى فيها بحقوق المواطنة منذ أواخر 2017.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}