في تمام الخامسة و50 دقيقة صباحاً كان يتم إيقاظهم من نومهم يومياً من أجل ممارسة الرياضة ومن ثم الذهاب للاغتسال في الحمامات التي يجدون على جدرانها عبارات مكتوبة باللغتين الإنجليزية واليابانية. ولاحقاً يتناولون طعام الإفطار، قبل أن ينضموا لحضور سلسلة من المحاضرات.
هذا ما يحدث في المعسكرات التي تجمع فيها "سامسونج" أنبغ موظفيها الشباب لمدة 3 أشهر منذ أوائل التسعينيات من أجل تأهيلهم للسفر للخارج وتعلم أفضل ممارسات الشركات الأجنبية ومن ثم العودة بعد عام ونقل ما في حوزتهم من أفكار ومعلومات وخبرات إلى الشركة الكورية الجنوبية.
الرهان الكبير
الركود والعزلة.. هذان ربما اثنان من أهم الأسباب التي تقف وراء فشل الكثير من الشركات حول العالم. وبحلول أواخر ثمانينيات القرن الماضي بدأ "لي كون هي" رئيس عملاق الإلكترونيات الكوري الجنوبي "سامسونج" يشعر بأن شركته وقعت فريسة لهذه الثنائية القاتلة.
حينها كانت منتجات "سامسونج" منتشرة في كل مكان، ولكنها لم تكن مميزة أو ملهمة بأي شكل. وفي نفس الوقت كانت الشركة متأثرة بالثقافة الكونفوشيوسية التي تقدس الأقدمية والتسلسل الهرمي، وهو ما جعل "سامسونج" شركة ثابتة في مكانها غير قادرة على التطور.
في عام 1993 قاد "لي" ثورة داخل الشركة من خلال تقديم ما سماها "مبادرة الإدارة الجديدة"، والتي أعطت الموظفين الاستقلالية التي يتمتع بها نظراؤهم الغربيون، على أن تكون الترقيات والأجور بناءً على الجدارة وليس الأقدمية، إلى جانب التزام كبير من قبل الشركة بالإنفاق بشكل سخي على البحث والتطوير.
وفي الحقيقة كانت هذه المبادرة مغامرة جريئة لتحويل "سامسونج" إلى شركة تكنولوجية رائدة. ولحسن حظ كوريا الجنوبية، ربحت "سامسونج" هذه المغامرة بالفعل، وفي غضون عقد واحد من الزمان أصبحت الشركة الكورية الجنوبية واحدة من الأفضل في مجالها على مستوى العالم.
على سبيل المثال، تعد الآن جوالات "جالاكسي" الذكية وأجهزة سامسونج اللوحية هي المنافس الأبرز لمنتجات "أبل" الأمريكية كـ"آيفون" و"آي باد"، وهو ما أهّل الشركة الكورية الجنوبية لتصبح حالياً أكبر مصنع للجوالات الذكية في العالم متفوقة على الجميع.
أنبغ موظفيها الشباب
لكن رغم الأهمية الكبيرة لـ"مبادرة الإدارة الجديدة" إلا أنها لم تكن ذلك العامل المحوري الذي أدى إلى التحول الكبير الذي شهدته "سامسونج" في السنوات اللاحقة، بل كان الفضل في الحقيقة يعود لبرنامج آخر كان "لي" قد أطلقه في عام 1990.
هذا البرنامج كانت فكرته بسيطة جداً، وهي عبارة عن أخذ مجموعة من ألمع الموظفين الشباب بالشركة ومن ثم إرسالهم إلى الخارج للانغماس في ثقافات أخرى والتعرف عليها ومن ثم العودة إلى "سامسونج" بأفكار ومعلومات حول تلك الأسواق ومستهلكيها.
يقول "شي جين تشانج" الأستاذ بجامعة سنغافورة الوطنية ومؤلف كتاب "سوني مقابل سامسونج: القصة الداخلية لمعركة عمالقة الإلكترونيات": "إن قرار إطلاق هذا البرنامج كان محوريًا في تحويل شركة سامسونج إلى قوة عالمية".
وفي الحقيقة إن فكرة هذا البرنامج لم تكن جديدة. فهذا بالضبط ما كانت تفعله الشركات التجارية اليابانية في أواخر القرن التاسع عشر. ولكن مع حلول القرن العشرين تخلت معظم الشركات اليابانية عن هذه الاستراتيجية كونها باهظة التكاليف.
في البداية تعرض البرنامج لعدة تحديات أبرزها تذمر المسؤولين التنفيذيين في "سامسونج" من التكلفة الباهظة للبرنامج الذي كان يكلف الشركة حوالي 100 ألف دولار لكل موظف بالإضافة إلى راتبه والمزايا التي يحصل عليها، وتذمرهم أيضاً من حقيقة أن الشركة ستضطر للتخلي عن نجومها الشباب لمدة 15 شهراً.
أما أكبر مخاوفهم فكانت احتمال نجاح الشركات الأجنبية في اجتذاب هؤلاء وضمهم إلى صفوفها أثناء فترة إقامتهم هناك. لكن رئيس الشركة وابن مؤسسها "لي كون هي" تجاهل كل هذه المخاوف وأصر على إطلاق البرنامج ودعمه خلال الأوقات الجيدة والسيئة للشركة لمدة عقدين من الزمان.
في إحدى المنشآت الضخمة التابعة للشركة في كوريا الجنوبية ولمدة 3 أشهر كان يتم إعداد معسكر مغلق لألمع الموظفين الشباب الذين لا يحق لهم خلالها جلب أي فرد من أفراد عائلاتهم معهم. وخلال هذه الفترة يتم تعليمهم لغة وثقافة البلد المقرر إرسالهم إليها.
جني الثمار
في السنوات الأولى للبرنامج كان يتم إرسال أغلب المشاركين بالبرنامج إلى الولايات المتحدة وأوروبا، ولكن في السنوات الأخيرة بدأت الشركة في التركيز على الأسواق الناشئة.
أحد أوائل الموظفين الذين شاركوا في هذا البرنامج كان موظفا شابا يسمى "بارك كوانج مو"، والذي سرد تجربته بهذا البرنامج في مقال نشرته "وول ستريت جورنال" في عام 1992.
في ذلك المقال يروي "مو" كيف قضى عاماً مع الروس في الاتحاد السوفييتي يأكل ويشرب معهم ويتعرف على ثقافتهم وطريقة عيشهم واحتياجاتهم، قبل أن يدون كل المعلومات التي حصل عليها في تقرير مكون من 80 صفحة ويرسله إلى إدارة "سامسونج".
بعد مرور 20 عاماً تقريباً وتحديداً في عام 2003، أشادت "سامسونج" في تقريرها السنوي بجهود "مو" وزملائه في البرنامج الذين كان لهم الفضل في أن تصبح "سامسونج" هي العلامة التجارية الأكثر مبيعاً في كل من روسيا وفرنسا وأوكرانيا.
لاحقاً يتم إعادة هؤلاء الموظفين إلى الأسواق التي جمعوا عنها المعلومات وفهموا ممارسات الشركات فيها، ولكن هذه المرة كمديرين تنفيذيين لعمليات "سامسونج" هناك. ومن الآثار الواضحة لهذا البرنامج هو أن أغلب المديرين التنفيذيين لعمليات الشركة في جميع أنحاء العالم كوريون.
هذا النجاح الذي حققه برنامج "سامسونج" ألهم الكثير من الشركات في آسيا، مثل "ميتسوبيشي" و"شارب" و"هيونداي أويل بنك" والتي تحرص حالياً على إرسال أنبغ موظفيها الشباب إلى الخارج وخصوصاً إلى الدول الناشئة.
يشير "تارون خانا" الأستاذ بجامعة هارفارد إلى أن أكثر ما يذهله هو إصرار "سامسونج" على تمويل هذا البرنامج باهظ التكلفة -الذي اشترك فيه حوالي 4700 موظف حتى عام 2012- غير مكترثة بالربحية في المدى القصير حتى خلال أشد أزماتها المالية.
يتابع "خانا" قائلاً: "أشك في أنه كان باستطاعة أي أحد توقع الفوائد التي حققها برنامج سامسونج بالنظر إلى تكلفته الباهظة. ولكن يجب أن أقول: لقد كانت فكرة رائعة حقاً".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}