الشيكات المرتجعة تتحدى تشديدات القوانين ولوائح البنوك
الشيكات المرتجعة ظاهرة قديمة جديدة تكاد لا تخلو منها أروقة المحاكم، والسجلات المصرفية، وازديادها ينبئ بأضرار تلحق بالعديد من أصحاب الحقوق.. وهذه القضية التي تتقلّص فترة جراء الإجراءات البنكية والقانونية المشددة، تعاود الظهور مجدداً، وباتت المحاكم تنظر العديد من الدعاوى المتعلقة بها، فضلاً عن تلقي الجهات الشرطية بلاغات متواصلة من متضررين، لم يستطيعوا الحصول على مستحقاتهم المالية، جراء عدم توفر أرصدة كافية، مقابل الشيكات التي حصلوا عليها من الدائنين، أو المشترين.
«الخليج» تبحث هذه القضية وتفتش في الأسباب التي تساهم في زيادة انتشارها، وإن كان ارتفاع مستوى المعيشة، وضعف الدخل المادي للبعض، يترأس هذه الأسباب، إلا أن هناك أسباب أخرى أيضاً. فهل التشدد من قبل البنوك حيال إصدار الشيكات يكفي للحد من الظاهرة؟ وما الانعكاسات السلبية على المستوى الاجتماعي والاقتصادي؟.
ارتفاع ملحوظ
بداية وعن واقع الشيكات المرتجعة في البنوك، قالت عائشة حبيب البلوشي، مديرة في أحد المصارف: تعتبر المصارف قطاعاً حيوياً ومهماً جداً للتنظيم المالي، وتقديم العديد من الخدمات المصرفية للمؤسسات والأفراد لتسهيل المعاملات، سواء البيع والشراء، وغير ذلك من الأمور المالية والمصرفية، ويعتبر دفتر الشيكات أحد المنتجات الذي تقدمه البنوك لتسهيل التعاملات، ويعد بمنزلة الخدمة المميزة التي يعتمد عليها كثير من الأفراد في التعاملات التجارية، والشخصية، لتسديد الالتزامات.
وقد لوحظ من خلال التقارير الأخيرة عن حدوث ارتفاع في إرجاع الشيكات بنسبة كبيرة تصل إلى حوالي 46% مقارنة بالأعوام الماضية، وذلك لأسباب متعددة ومختلفة، منها شيكات مرتجعة لاختلاف التوقيع، أو لعدم كفاية الرصيد، وخلافه، فيما يجب على الجميع التعامل بحذر حين التفكير في إصدار أو تلقي رصيد، حيث يجب حين إصدار شيكات التدقيق على جميع البيانات، والتأكد من كفاية الرصيد، وتجنب التلاعب بها بأية صورة، حيث الخطأ فيها قد يؤدي إلى المساءلة القانونية وغيره من الأمور التي لا تحمد عقباها.
ويجب التأكد من البيانات الموجودة على الشيك قبل إصداره من باب الالتزام والأمانة، كما يجب التدقيق وفرض رقابه على عمليه إصدار دفتر الشيكات لتجنب الكثير من المشاكل المتوقعة، والمصارف بشكل عام تغلق الحساب حال ارتجاع أربع شيكات بسوء نية، فيما أتمنى أن تزيد من فرض الرقابة للحد من هذه الظاهرة المتزايدة، التي تتوجب الدراسة من المسؤولين، لإيجاد الحلول المناسبة.
جريمة شائعة
وبالنسبة للموقف القانوني من الشيكات المرتجعة، قالت المحامية منوهة هاشم: باتت جرائم الشيكات المرتجعة تشكل خطراً كبيراً على المجتمع، لما تتسبب فيه من ضياع الحقوق، بما يضر العلاقات التجارية، والمتعاملين بها على اختلافهم حيث يقدم الشخص الشيك كضمانه لاستيفاء حق معين مستوجب منه، وعندما يسعى الطرف المستحق الحصول على حقه، يفاجأ بعدم وجود رصيد، أو أنه غير كاف، مما يدفعه للجوء إلى الطرق القانونية، كالتقاضي، أو فتح بلاغ جنائي بغية الحصول على قيمة الشيك المتضمن حقه المالي.
وقد جرم المشرع الإماراتي واقعة إعطاء (شيك) بسوء نية ليس له مقابل وفاء كاف قائم وقابل للسحب، وذلك في المادة (401) من قانون العقوبات وتعديلاته كما جرم استرداد مقابل الشيك كله، أو بعضه، بعد إعطاء الشيك بحيث لا يفي المتبقي بقيمة الشيك أو أمر المسحوب عليه الشيك بعدم صرفه أو تعمد تحريره أو توقيعه بصورة تمنع من صرفه.
ووفقاً لنص المادة (401) فالدعوى الجزائية في جريمة إعطاء صك بسوء نية تنقضي بالسداد، أو تنازل المجني عليه بعد وقوع الجريمة، وقبل الفصل فيها بحكم بات، أما إذا تم السداد أو التنازل بعد الإدانة بحكم بات فيوقف تنفيذ الحكم..
علما بأن البنوك العاملة في الدولة قامت باتخاذ إجراءات صارمة للحد من ظاهرة الشيكات المرتجعة، خصوصاً بعد زيادة عددها بصورة كبيرة، حيث ألزم المصرف المركزي البنوك باتخاذ عدد من التدابير ضد الذين اعتادوا إصدار الشيكات المرتجعة، أولها إغلاق الحساب المصرفي للعميل في حال إصداره أربعة شيكات وارتدادها لأسباب تتعلق بسوء النية، ومنها عدم كفاية الرصيد، فيما ألزم«المركزي» البنوك بإبلاغه بأسماء هؤلاء الأشخاص لإدراجهم على القائمة السوداء لجميع البنوك.
ونص قانون العقوبات على إلزام البنك الذي يمنح دفتر شيكات جديداً لمن صدر ضده حكم في قضية شيك مرتجع بدفع غرامة قدرها 100 ألف درهم، وذلك كمحاولة للحد من هذه المشكلة التي باتت تشكل خطراً كبيراً، رغم الحاجة التي تكون ماسة لإصدار الشيكات في بعض المعاملات للسرعة في الإجراء، ولكن في المقابل لابد من أخذ الحيطة والحذر، وتوفير الرصيد الكافي، أو إبلاغ الطرف الآخر المستحق قبل الإيداع، بعدم توفر رصيد لاتخاذ الإجراء البديل والمناسب منعاً للخلاف والحرج المستقبلي.
ولابد من توعية أفراد المجتمع بخطورة إصدار شيكات من دون رصيد حرصاً على المعاملات التجارية بين الأفراد الطبيعيين والمعنويين، لتفادي العقوبات القانونية التي قد لا تحمد عقباها، في حين ومن خلال الواقع العملي فالشيكات المرتجعة باتت جريمة منتشرة وشائعة، بما يترتب التشديد المتواصل للحد منها على المدى البعيد، وتغليظ العقوبة على من يصدر شيكات من دون رصيد لتتناسب مع حجم الجرم المرتكب.
شروط وأركان
وإضافة إلى ما سبق قال المحامي حميد الغفلي: أفرد المشرع لجريمة إصدار شيك بدون رصيد نصاً صريحاً بقانون العقوبات الاتحادي، بنص المادة (401/1) من قانون العقوبات: «يعاقب بالحبس أو بالغرامة من أعطى بسوء نية صكاً (شيكاً) ليس له مقابل وفاء كاف قائم وقابل للسحب».
ومن هذا المنطلق فالمشرع الحكيم جعل إصدار شيك بدون رصيد جريمة معاقب عليها قانوناً، من منطلق ضرورة وحتمية حماية حقوق الغير ممن صدر الشيك لصالحهم أو بمعنى آخر المستفيد من قيمة الشيك.
وكذلك فإن المتفق عليه وفق الثابت قانوناً أنه يشترط لتوافر تلك الجريمة عدة شروط أهمها أن يكون هذا الشيك قد صدر كأداة وفاء وليس أداة ضمان، لكون الشيك إن أصبح أداة ضمان لعمل ما أو لضمان فعل ما، فإنه يخرج عن نطاق العقوبة المنصوص عليها بنص المادة 401/1، من قانون العقوبات الاتحادي، وفي الوقت ذاته وضع المشرع إثبات حقيقة إصدار الشيك و تحديد معناه هل هو أداة وفاء أم ضمان، وفق ما يقتنع به القضاء مما يقدم إليها من إثبات تقتنع به المحكمة، حماية لأصحاب الحقوق، ومنعاً من قيام محرر الشيك بالتلاعب بالوقائع، لكي يتهرب مما عليه من التزام ثابت بالشيك الصادر عنه، فليس كل من يدعي بأن الشيك الصادر عنه هو في حقيقته ضمان يُجاب إلى طلبه و دفعه، بل لابد أن يقدم من الأدلة ما يكون كافياً لإقناع المحكمة، وكافياً للثبوت القانوني.
وبالتالي، فجريمة إصدار شيك بدون رصيد تستلزم شروطاً، وأركاناً لتوافرها، وقد نص عليها القانون صراحة، وتواترت عليه الأحكام القضائية الصادرة في هذا المنطلق، مثلاً كما هو واضح من اسم الجريمة أن يكون الشيك قد تم صدوره ممن أصدره مع علمه بعدم وجود رصيد كاف و قائم للوفاء بقيمة الشيك الذي أصدره، والنية هنا لمحرر الشيك تكون ثابتة عن طريق ارتجاع الشيك لعدم وجود رصيد كاف لما هو ثابت بالشيك من مبالغ.
والمشرع منح الشيك حماية قانونية كبيرة لما يمثله في الوسط التجاري، وما يمثله من أهمية كبيرة في عصرنا الحالي من كونه وسيلة بديلة للنقود التي يتم تسديدها في الحال نقداً، وتسييراً للمعاملات التجارية، و بالتالي فإنه وحماية لمن اعترف بقيمة الشيك القانونية، فالقانون قد جعل موقفه محمياً لضمان حقوقه ومنعاً من إلحاق الضرر به.
وفي الوقت نفسه أيضاً فإن المشرع يحمي من صدر عنه الشيك، إذا كان تحصيل المستفيد على هذا الشيك عن طريق إحدى جرائم خيانة الأمانة، أو الاحتيال، وهذا ثابت بنص المادة وفقاً لنص المادة (399) من قانون العقوبات والتي تنص على أنه يعاقب بالحبس أو بالغرامة كل من توصل إلى الاستيلاء لنفسه أو لغيره على مال منقول، أو سند، أو توقيع، أو إلغائه أو إتلافه أو تعديله، بطريقة احتيالية، أو باتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة... «ولكن يشترط فيمن يدعي ذلك وفق قاعدة الثبوت أن يتقدم بأدلة كافية، وثابتة، وقانونيه، تقتنع بها المحكمة التي تنظر موضوع جريمة الشيك من دون رصيد.
وفي العموم فإن المشرع أولى الشيك أهمية كبيرة لما يمثله في العصر الحالي من أهمية لسرعة تداوله، ودخوله في الحيز التجاري، وفي الوقت ذاته حمى مصالح كلاً من المستفيد الذي صدر الشيك لصالحه، و أيضاً حمى مصدر الشيك إذا أصدره على وجه الضمان، أو عن طريق فقده له، وتحصل المستفيد عليه بأي طريقه، أي أن يكون غير مستحق للمستفيد.
وبالتالي فقانون العقوبات الاتحادي جاء مانعاً للجريمة، وحامياً لأطراف الشيك، ورادعاً لكل من تسول له نفسه أن يُلحق الضرر بغيره عن طريق إصداره شيك مع علمه بأنه لن يقوم بالوفاء بقيمته، وأنه سيرتد من دون رصيد كاف للوفاء بقيمته.
تأثير اقتصادي
عن التأثير الاقتصادي السلبي للشيكات المرتجعة، قال الخبير الاقتصادي د. أحمد البنا: الشيكات المرتجعة تعني عدم القدرة على السداد، والوفاء بالالتزامات المالية، وبالتالي يقع عبء كبير على الطرف المستحق في تحصيل المبالغ الخاصة به، والتي تصبح ديوناً، وحال تراكمها تؤثر على القطاع المالي، والمصرفي، والتجاري الاقتصادي بشكل عام.
والدول المتقدمة وضعت الكثير من التشريعات لمعالجة قضية الشيكات المرتجعة، التي تعد جريمة، لتبعاتها السيئة، التي تؤثر سلباً مجتمعياً أيضاً، حيث عدم الوفاء بالدين يعني إخلال الشخص باتفاق معين، وبالتالي تتخذ نحوه الإجراءات القضائية، من سجنه، وفي ذلك تبعات اجتماعية سيئة، وشديدة الضرر.
تعديل القانون
قال المستشار القانوني حسن جمعة: مما لا شك فيه أن للشيكات أهمية كبيرة في المعاملات التجارية المختلفة، ولكن مع الأسف أصبح البعض من المستفيدين ممن حُررت الشيكات لصالحهم يسيئون استخدامها للإضرار بالآخرين، حيث يقوم البعض باستلام شيكات لتقديم خدمات معينة، ثم يماطلون في ذلك، وقد لا يقدمون الخدمة بتاتاً، وفي أحيان أخرى يتم تقديمها بصورة مخالفة لما تم الاتفاق عليه، وقد يقوم الشخص الذي لم يتقيد بالشروط، والاتفاقات التي تسلم بناء عليها الشيك، بتقديمه إلى مراكز الشرطة والنيابات، ويتم معاقبة الشخص الذي قام بتسليمه، بصرف النظر إن كان أدى ما عليه من التزامات من عدمه، تحت مقولة أن الشيك يقوم مقام النقود ولا عبرة بالبواعث وغيرها.
ورغم نظر المحاكم في الوقت الحاضر في بعض الدفوع القانونية التي يتقدم بها بعض المحامين في شأن قضايا الشيكات، إلا أنه يجب إعادة النظر في المادة (401) من قانون العقوبات المعمول به حالياً، وأن تندرج تحت مواد القانون المتعلقة بالنصب، والاحتيال، أو خيانة الأمانة، والتي تضمن حقوق طرفي الشيك.
ومن خلال متابعتنا لقضايا الشيكات نجد أنها تستهلك المال العام، و جهود الوزارات والمؤسسات المعنية بمتابعة قضايا الشيكات، فعلى سبيل المثال أدت الإجراءات المتخذة في قضايا الشيكات إلى تجميد العقول القانونية، وتقييد إبداعها في وضع ضمانات في العقود، والعلاقات التجارية والمدنية، حيث الاعتماد على جهود رجال الشرطة وميزانيتها في سبيل التصدي لهذه القضايا، سواء بتخصيص رجال أمن، وتدريبهم على أعلى مستويات، مع ما يشغلونه من مساحات لمباني الشرطة، إلى جانب تكلفة الآليات، وغيرها من الجهود والأموال التي يمكن توفيرها، إذا تم إعادة النظر في المادة (401) من قانون العقوبات، بالإضافة إلى الإجراءات المتخذة في قضايا الشيكات.
علماً أن هذه التكاليف والجهود تستقطع من ميزانيات، ووزارات، ومؤسسات أخرى معنية بهذا الأمر بالإضافة إلى الإفرازات السلبية الناتجة عن حبس المدانين في قضايا الشيكات، فيما هناك دول عديدة ومنها الدول التي أنشأت فكرة الشيكات، توقفت عن تجريم الشيك، وتركت ذلك للمحاكم التجارية و المدنية بحيث أصبح الشيك غير مجرم في تلك الدول، علاوة على أن بعضها يرفض التعاون الدولي من خلال «الإنتربول» في تسليم المجرمين المطلوبين في قضايا الشيكات، كونها غير مجرمة لديهم.
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}

تحليل التعليقات: