ببساطة ودون تعقيد .. ما الذي يحدث بالضبط في سوق النفط؟ وكيف أصبحت الأسعار بالسالب؟ وما قصة "برنت"؟
عرض مستمر استمرار الحياة! هكذا تتلاحق الأحداث والمفاجآت غير العادية منذ بداية عام 2020 الاستثنائي جدًا والذي رغم أن شهره الرابع لم ينته بعد إلا أن ما حفل به من تطورات حتى الآن كفيل بجعله محفورًا في الذاكرة لسنوات وربما لعقود قادمة.
بالأمس الموافق العشرين من أبريل كان هناك موعد مع حدث تاريخي غير مسبوق، حيث انهارت أسعار النفط وتحديدًا الخام الأمريكي إلى ما دون الصفر! سواء كان عمرك 100 عام أو 10 أعوام فأنت بالتأكيد تعايش هذا الوضع لأول مرة. فالنفط لم يهبط إلى ذلك المستوى حتى في الحرب العالمية الثانية.
حتى ساعات قليلة ماضية، لم يكن لدى كثير من المستثمرين، ناهيك عن العامة فكرة عن إمكانية هبوط سعر النفط إلى الصفر أو ما دونه، فبالنسبة لهم كان هذا شيئا مستحيلا عقلًا، وهذا لسببين: الأول أن الحديث هنا عن الذهب الأسود، السلعة التي من دونها تتعرض حياة الناس الطبيعية لشكل من أشكال الشلل، وبالتالي لا يمكن أن يكون بلا قيمة، أما الثاني فهو أن هذا لم يحدث من قبل.
وعلى إثر التطورات الأخيرة تتزاحم الأسئلة وتتقافز في رؤوس الكثيرين: ما الذي يحدث بالضبط في السوق؟ وكيف يعقل أن تصبح أسعار النفط بالسالب؟ وكيف يختلف وضع خام "برنت" عن الخام الأمريكي؟ ولماذا لا يغلق المنتجون ببساطة الآبار وينتظرون إلى حين ارتفاع الأسعار؟ هذه الأسئلة وأخرى غيرها سيحاول هذا التقرير الإجابة عنها.
كيف انقلب السوق؟ .. خذ النفط وخذ المال!
في السوق يتم تداول النفط إما من خلال العقود الفورية التي تقتضي التسليم الآني للكمية المتعاقد عليها، أو من خلال العقود الآجلة وهي بمثابة عقود تمنح لحاملها الحق في شراء أو بيع كمية معينة من النفط بسعر محدد مسبقًا على أن يتم التسليم في تاريخ لاحق محدد.
وفي سوق العقود الآجلة ينشط المضاربون والذين لا حاجة لهم في النفط كسلعة، وإنما يريدون فقط تحقيق الأرباح من خلال المراهنة على التقلبات السعرية للخام. فعلى سبيل المثال، قد يفترض المضارب أن أسعار العقود الآجلة للنفط المستحقة في أكتوبر القادم ستكون أقل من قيمة السعر الفوري النفط في السوق في ذلك التاريخ، وبالتالي يسارع إلى شراء تلك العقود أي يأخذ مركزا طويلا على أمل أن يستفيد من هذا الفارق، والعكس صحيح.
وفي غالبية المعاملات التي تتم على العقود الآجلة لا يستلم المضارب كميات النفط محل التعاقد بل يعمد إلى إنهاء تلك العقود من خلال أخذ مراكز عكسية. ولكن في النهاية وبعد حلول ميعاد الاستحقاق يتم تسليم النفط لحامل العقد الآجل من خلال إجراءات تنظمها البورصة. وفي حالة الخام الأمريكي يتم التسليم في مركز تسليم العقود الآجلة في مدينة كوشنج بولاية أوكلاهوما.
ما سبق كان مقدمة لا بد منها من أجل توضيح ما حدث في السوق في الساعات الأخيرة. في نهاية تداولات أمس الاثنين أغلقت العقود الآجلة للخام الأمريكي "نايمكس" تسليم مايو على انخفاض يتجاوز الـ300% ليصبح سعرها (- 37.63 دولار) للبرميل. هذا نظريًا معناه أن البائع على استعداد لأن يعطي المشتري 37.63 دولار لكي يأخذ النفط منه مجانًا.
كيف يمكن أن يحدث ذلك؟ ببساطة أراد المضاربون الذين يمتلكون عقود مايو والتي ستصبح مستحقة اعتبارًا من اليوم الثلاثاء أن يتخلصوا منها بأي ثمن لأن كل من يملك العقد عند حلول موعد استحقاقه ملزم قانونًا باستلام النفط المتعاقد عليه، وبالتالي عليه أن يبحث عن مكان ليخزنه فيه ويتحمل تكلفة التخزين. والمضارب عادة لا حاجة له في النفط وهو أصلًا لم يشتر ذلك العقد ليحصل عليه.
وبالمناسبة، يرجح المحللون أن كثيرا من المضاربين الذين ظلوا حاملين لعقود مايو حتى مساء أمس هم على الأغلب من ضعيفي الخبرة الذين يضاربون على تلك العقود دون أن يفهموا طبيعة الالتزامات المترتبة على حملها حتى موعد الاستحقاق، وهكذا وجدوا أنفسهم فجأة في ورطة وتصرفوا بعشوائية.
في العادة يكون لدى المضارب خيار من اثنين مع اقتراب موعد استحقاق العقد، فإما أن يبيعه في السوق لمضارب مثله وإما أن يبيعه لمصافي النفط التي تذهب لاستلام الكمية المنصوص عليها في العقد من مركز كوشنج. ولكن الوضع تغير في الأسابيع الأخيرة، فلن يشتري مضارب من آخر عقدا آجلا لكمية من النفط لن يستطيع بيعها لمصافي النفط التي تمتنع حاليًا عن الشراء في ظل الصدمة المزدوجة التي يعاني منها السوق على جانبي العرض والطلب.
ما بين مايو ويونيو
منذ بداية مارس الماضي يعيش سوق النفط العالمي واحدة من أسوأ فتراته على الإطلاق، وذلك على خلفية التداعيات المتسارعة لانتشار فيروس كورونا المستجد الذي تسبب في حالة من الشلل لدى أغلب الاقتصادات العالمية وأثر سلبًا على أبرز القطاعات والصناعات المستهلكة للوقود. وازداد الوضع تعقيدًا بعد ووقوع سلسلة الخلافات بين كبار المنتجين خلال الشهر الماضي قبل أن يتم تدارك الأمور ولو قليلًا من خلال اجتماع "أوبك +" الذي عقد في وقت سابق من الشهر الجاري.
هبوط سعر الخام الأمريكي إلى هذا المستوى لا يعني أن النفط أصبح بلا قيمة، بل على العكس سيظل للخام قيمة دائمًا ولكن الفكرة هي أنه لا أحد يريد الحصول عليه "الآن" في ظل انهيار الطلب وامتلاء الخزانات، وهذا يوضحه سعر النفط المقرر تسليمه في يونيو والذي أنهى تداولات أمس عند 20.43 دولار للبرميل.
هذا الفارق الكبير بين العقدين يعكس تفاؤل المستثمرين تجاه الأسعار المستقبلية للخام والتي يرجحون ارتفاعها في ظل احتمال بدء الكثير من الدول في تخفيف القيود الحالية على سير الحياة الطبيعية. ولكن في المقابل هناك احتمال بأن يتضاءل هذا الفارق لتنخفض أسعار عقود يونيو هي الأخرى إذا ما اقترب موعد استحقاقها ولم يكن هناك تغير إيجابي على جانبي العرض والطلب في السوق.
سوق النفط حاليًا في حالة ''كونتانجو'' أي أن أسعار العقود الآجلة أعلى من الأسعار الفورية، بعبارة أخرى عندما يدخل السوق في هذه الحالة تكون السلعة محل التعاقد أكثر قيمة في المستقبل منها في الوقت الحالي. وهذه الحالة عكس حالة "الميل إلى التراجع" التي تكون فيها الأسعار الفورية أعلى من أسعار العقود الآجلة.
في البر والبحر
المشكلة التي يعاني منها سوق النفط حاليًا مركبة ومعقدة بشكل غير مسبوق. فمن ناحية هناك انهيار في مستويات الطلب على خلفية التوقف شبه التام للنشاط الاقتصادي العالمي، ومن ناحية أخرى هناك تخمة في المعروض بسبب الخلافات الواقعة مؤخرًا بين كبار المنتجين حول كيفية الاستجابة للأزمة، ومن ناحية ثالثة هناك أزمة في التخزين في ظل اقتراب مواقع التخزين حول العالم من الوصول إلى طاقتها الاستيعابية الكاملة.
في التاسع من أبريل الجاري قال " محمد باركيندو"، الأمين العام لمنظمة الدول المصدرة للبترول "أوبك" إنه في ظل انهيار الطلب على النفط الخام ووجود فائض في المعروض خلال الربع الثاني قدره 14.3 مليون برميل يوميًا فإنه من المرجح أن يرتفع حجم المخزونات العالمية بواقع 1.3 مليار برميل وهو ما سيقود إلى استنفاد الطاقة التخزينية العالمية للخام خلال الشهر القادم.
أمام سواحل اسكتلندا وتكساس وأماكن أخرى تقف حاليًا العشرات من ناقلات النفط العملاقة، الواحدة منها تحمل ما يصل إلى 80 مليون جالون من النفط الخام بينما لا تجد مكانًا لتذهب إليه. هذه الناقلات تعمل الآن كخزانات عائمة في ظل عدم قدرة المنتجين على تصريف هذه الكميات. العالم ببساطة لا يحتاج حاليًا لكل هذا النفط.
إجمالًا، هناك الآن 160 مليون برميل من النفط مخزنة على متن ناقلات نفط ترسو أمام أكبر موانئ الشحن في العالم. آخر مرة وصلت فيها المخزونات العائمة إلى مستوى قريب من المستوى الحالي كانت في 2009 حين قام التجار بتخزين ما يقرب من 100 مليون برميل من النفط في البحر قبل أن يتم تفريغها مع بدء الاقتصاد العالمي في التعافي.
وفي ظل تزايد الطلب على الناقلات العملاقة – أمام سواحل سنغافورة والخليج الأمريكي تحديدًا – لاستخدامها كخزانات عائمة ارتفعت أسعار تأجيرها بأكثر من الضعف خلال الشهر الماضي لتصل إلى 350 ألف دولار في اليوم الواحد.
في الأسبوع الماضي، أشارت البيانات الصادرة عن إدارة معلومات الطاقة بالولايات المتحدة إلى ارتفاع المخزونات الأمريكية من النفط بنحو 19.2 مليون برميل، وتراجع نشاط التكرير إلى أدنى مستوياته منذ 2008، بينما ارتفعت مخزونات مركز كوشنج بواقع 5.361 مليون برميل.
وليس حجم الطاقة التخزينية المتاحة ما يقلق التجار وإنما سرعة استنفادها. فوفقًا لبيانات وزارة الطاقة الأمريكية، ارتفعت المخزونات بالمركز الرئيسي لتسليم عقود الخام الأمريكي في غضون أربعة أسابيع فقط من 50% إلى 69% من طاقته الاستيعابية البالغة نحو 76 مليون برميل اعتبارًا من سبتمبر الماضي.
ما الذي يميز برنت؟ ولماذا لا تغلق الآبار مؤقتًا؟
مشكلة التخزين الواضحة التي يعاني منها حاليًا الخام الأمريكي "نايمكس" أحد أسبابها الرئيسية هو أن أغلب الإنتاج الأمريكي من الخام يتركز في البر أو في أماكن غير ساحلية وهو ما يحول دون استفادته من مزايا التخزين العائم. يتركز إنتاج الخام الأمريكي في مناطق يفصلها عن الماء نحو 500 ميل.
في تداولات أمس، ورغم تراجعه بنحو 9% بدا خام "برنت" متماسكًا إلى حد كبير بالمقارنة مع الخام الأمريكي، وذلك قبل أن ينهي الجلسة عند 25.57 دولار للبرميل. ما السبب؟ على عكس الخام الأمريكي لا يجد خام برنت مشكلة في الوصول إلى خزانات النفط العائمة وذلك لأنه يتم تسعيره في جزيرة ببحر الشمال، ولذلك كان أقل تأثرًا بالمخاوف المتعلقة بالتخزين.
والجدير بالذكر هو أن النفط المستخرج من أوروبا وإفريقيا والشرق الأوسط بما في ذلك منطقة الخليج العربي يتم تسعيره استنادًا إلى سعر خام "برنت" بالإضافة لخامات محلية مثل خامي دبي وعمان.
السؤال المنطقي الذي ربما قفز إلى أذهان البعض في ظل الانهيار الحالي للأسعار هو: لماذا لا تغلق الشركات آبار النفط مؤقتًا وتحتفظ بنفطها في باطن الأرض إلى حين ارتداد الأسعار إلى مستويات معقولة؟ ببساطة هذا عمليًا غير ممكن، لأنه يعرض الآبار لخطر التلف، وهو ما يعني هدر الاحتياطيات المتبقية داخل البئر فضلًا عن تكاليف تطويره. ولذلك يفضل المنتجون الاستمرار في تشغيل البئر ولو بخسارة إلى أن ترتد الأسعار.
وهذا ما يفسر رفض المديرين التنفيذيين لشركات النفط الأمريكية اقتراح "ترامب" عليهم مؤخرًا بأن يحتفظوا بإنتاجهم في باطن الأرض بموجب خطة تضمن لهم خلالها الإدارة الأمريكية تصنيف هذا النفط كجزء من الاحتياطيات الاستراتيجية للولايات المتحدة. ببساطة، بالنسبة للمنتجين تشغيل الآبار وبيع النفط بخسارة أقل تكلفة على المدى الطويل من إغلاقها.
أخيرًا، إذا كان هناك جانب واحد مشرق للوضع الحالي فهو أننا رغم كل شيء نعايش أحداثًا تاريخية ربما لن تكرر، توفر لنا مادة خصبة لقصص وحكايات قد يمهلنا العمر لنرويها لأبنائنا وربما لأحفادنا. "هل هبط فعلًا سعر النفط يومًا ما إلى ما دون الصفر؟" هكذا سيتساءلون وعلامات التعجب والاستغراب ترتسم على وجوههم.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – الجارديان – بلومبرج – سي إن بي سي – واشنطن بوست – فاينانشيال تايمز – وول ستريت جورنال
كتاب: The Oil & Gas Industry: A Nontechnical Guide
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}