مات "مادوف" وحيدًا!.. كيف تمكن العجوز الماكر من إدارة أكبر مخطط احتيالي في التاريخ؟ ومن الذي كشف المستور؟
"هذا ماجناه أبي عليَّ وماجنيت على أحد"... كلمات قالها "أبو العلاء المعري" قبل ألف سنة، ربما تردد صداها في عقل كل من ولدَيْ واحد من أشهر المستثمرين في التاريخ وودّا لو صرخا بها بعد أن سمعا من أبيهما اعترافات نزلت عليهما كالصاعقة وقلبت حياتهما رأسًا على عقب وألحقت بهما العار للأبد.
قبل أحد عشر عامًا، وتحديدًا في مساء العاشر من ديسمبر من عام 2008، وقف المستثمر الأمريكي الشهير "برنارد مادوف" كسيرًا كالعصفور المبتل بين يدي ولديه "مارك" و"آندرو" بينما يخبرهما بالحقيقة التي أخفاها عنهما لسنوات، وهي أن إمبراطوريته الاستثمارية الضخمة التي بناها على مدى عقود هي في الحقيقة مجرد بيت من ورق يخفي بين جنباته واحدًا من أكبر مخططات الاحتيال في التاريخ.
بين الغضب والشفقة قد تتقلب مشاعر أي ابن منكم تجاه والده الطاعن في السن بينما يسمعه يروي بذل وانكسار كيف خدع الجميع لسنوات، فهذا بلا شك موقف صعب تزاحم فيه العاطفة العقل وتشد لجام الغضب، ولكن يبدو أن "مارك" وأخاه الأصغر كانا قادرين على تحييد عاطفتهما تجاه أبيهما تمامًا، فقاما على الفور بإبلاغ السلطات بما اعترف به، ليتم القبض عليه بعدها بساعات.
"دراما ملحمية" هو أقل ما توصف به قصة حياة "برنارد مادوف" وعائلته ومغامراته الاستثمارية، فالأب دخل إلى السجن ليقضي عقوبته البالغة 150 عامًا، فيما تشتت شمل العائلة فانتحر الابن الأكبر شنقًا هربًا من العار، ولم تمر سنوات أربع قبل أن يلحق به أخوه الأصغر؛ ولكن مآسي تلك العائلة لا تقارن بمآسي عشرات الآلاف من الكادحين الذين خسروا أموالهم بسبب احتيال "مادوف" الأب.
قبل ثلاثة أيام وتحديدًا يوم الأربعاء مات "برنارد مادوف" في سجنه وحيدًا بعد أن تمكن المرض من جسده، وبينما تستعد عائلته حاليًا لموارة جسده الثرى ربما يكون مناسبًا أن نسترجع معًا الذي فعله هذا العجوز الذي تُوفي عن عمر ناهز الـ82 عامًا، ليستحق هذا المصير، وقبل ذلك لقب أكبر محتال في تاريخ سوق الأسهم.
لكن في البداية وقبل كل شيء تنبغي الإشارة إلى أن طريقة عمل "مادوف" كانت غاية في التعقيد ومن أجل فهمها أنت في حاجة إلى شحذ كامل تركيزك بينما تطالع السطور التالية حتى لا تجد نفسك مشتتاً بين التفاصيل الفنية.
لعبة الخيارات.. الاستراتيجية السحرية التي لم تنفذ أبدًا!
في سوق الأسهم يوجد نوعان أساسيان من عقود الخيارات، الأول هو خيار الطلب أو الشراء (Call Option) وهو عقد يعطي مشتريه الحق في شراء عدد معين من الأسهم بسعر محدد خلال فترة محددة، ويلزم بائعه ببيع تلك الأسهم عند طلب المشتري الحامل لخيار الشراء خلال الفترة المتفق عليها وبالسعر المتفق عليه، (تعرف على المشتقات من هنا).
أما النوع الآخر فهو خيار البيع (Put Option) وهو عقد يعطي من يشتريه الحق في بيع أسهم معينة بسعر محدد وخلال فترة محددة لبائع العقد، وفي كلا النوعين يملك شاري العقد الخيار، فإذا أراد نفذ العقد وإذا أراد امتنع، بينما لا يملك بائع العقد سوى التنفيذ، وسواء نفذه أم لا، لا يمكن للمشتري استرداد قيمة عقد الخيار من البائع.
لنفترض الآن أنك اشتريت "خيار شراء" يمنحك إمكانية شراء 1000 سهم من أسهم الشركة "س" مقابل 20 ريالاً للسهم، وذلك في أي وقت قبل نهاية أبريل الجاري، ولنفترض أيضًا أن السهم "س" يتم تداوله حاليًا في السوق عند 15 ريالًا للسهم، في هذه الحالة سيكون من غير المنطقي أن تمارس الآن حقك في تنفيذ خيار الشراء، لتشتري السهم بـ20 ريالاً في حين أنه متاح بالسوق بـ15 ريالًا فقط.
عقد الخيار الخاص بك في هذه الحالة هو خيار غير مربح أو (Out of The Money). بنفس الطريقة يكون "خيار البيع" خيار غير مربح إذا كان السعر المنصوص عليه في العقد أقل من السعر السوقي للسهم. ببساطة ما الذي يجبرك على بيع سهم بـ10 ريالات مثلًا في حين أنه يباع في السوق بـ25 ريالاً؟ أي عاقل سيمتنع عن تنفيذ خيار البيع في تلك الحالة.
ما سبق كان مقدمة لا بد منها من أجل شرح الاستراتيجية الاستثمارية لـ"برنارد مادوف" والتي يطلق عليها اسم "Split-Strike Conversion" والتي يمكن توضيحها من خلال المثال التالي:
لنفترض أنك اشتريت 100 سهم من أسهم الشركة "ص" مقابل 10 ريالات للسهم الواحد، وبعد ذلك قمت ببيع عقد "خيار شراء" لشخص يدعى حسن سعر التنفيذ فيه 20 ريالًا، وفي نفس الوقت قمت بشراء "خيار بيع" من شخص أخر يدعى خالد سعر التنفيذ فيه يبلغ 5 ريالات.
الآن هناك ثلاثة سيناريوهات لا رابع لها؛ إما أن يرتفع سعر السهم ليتجاوز الـ20 ريالًا فيقدم حينها "حسن" على استخدام حقه في شراء السهم منك مقابل سعر التنفيذ البالغ 20 ريالًا، وبما أنك كنت قد اشتريت السهم من الأساس بـ10 ريالات فقط ستحقق أنت بذلك ربحًا قدره 10 ريالات للسهم الواحد و1000 ريال عن الـ100 سهم، وذلك طبعًا قبل احتساب الرسوم، وإما أن يهبط السهم إلى ما دون الـ5 ريالات فيرغب حينها خالد مشتري "خيار البيع" في تنفيذ العقد ليبيع لك السهم بـ5 ريالات، لتخسر حينها ما مجموعه 500 ريال.
الاحتمال الثالث هو أن يتحرك سعر السهم في النطاق ما بين سعري التنفيذ أي بين 5 ريالات و20 ريالًا، وساعتها لن يرغب "حسن" أو "خالد" في تنفيذ عقود الخيار التي يمتلكانها، وبذلك أنت لم تخسر ولم تكسب. هذه باختصار هي الفكرة التي تقوم عليها استراتيجية "مادوف" الاستثمارية المسماة "Split-Strike Conversion" والتي لن تخسر بموجبها في المثال السابق أكثر من 500 ريال ولن تربح أكثر من ألف ريال.
خلف الستار .. مخطط بونزي كبير
ادعى "مادوف" أنه ينفذ استراتيجية "Split-Strike Conversion" على سلة تحتوي على 30 إلى 35 سهمًا من الأسهم المدرجة بمؤشر "إس آند بي 100"، وعلى هذا الأساس جمع من خلال صندوقه الشهير المعروف باسم "برنارد مادوف إنفيسمنت سيكيوريتز إل إل سي" عشرات المليارات من الدولارات من المستثمرين من مختلف الطبقات الاجتماعية في الولايات المتحدة، ولكن المفاجأة هي أن "مادوف" في الحقيقة لم يستثمر ولو حتى دولارًا واحدًا من هذه المليارات في أي شيء، بل كان متورطًا في "مخطط بونزي" مكتمل الأركان.
و"مخطط بونزي" لمن لا يعرف هو مصطلح يطلق على كل عملية نصب أو احتيال وبصفة خاصة عمليات الاستثمار التي يتم خلالها دفع عوائد للمستثمرين القدامى من استثمارات المستثمرين الجدد، وهو ما يسمى أيضًا بالمخطط الهرمي.
كان لـ"برنارد مادوف" قدرة منقطعة النظير على جذب رؤوس الأموال إلى صندوقه، فالرجل كان يتمتع بهالة كبيرة من الاحترام والثقة بفضل علاقاته الوطيدة مع الجهات التنظيمية والسياسيين ورموز المجتمع، وفي نفس الوقت كانت لديه استراتيجية شديدة الذكاء تتمثل في تقديم عوائد غير كبيرة وغير صغيرة في الوقت ذاته، مع حرصه على التزام الصمت بشأن تكتيكاته الاستثمارية وطلبه السرية المطلقة من المستثمرين الذين يتعاملون معه.
على مدى سنوات حقق صندوق "مادوف" للمستثمرين عوائد إيجالبية ثابتة تقريبًا، وذلك بغض النظر عن حالة السوق، وهو ما أثار ريبة كثير من المراقبين في وول ستريت. الأزمة المالية الآسيوية في 1997، وانفجار فقاعة الدوت كوم في أواخر عام 2000، وضرب برج التجارة العالمي في 2001، كل هذه أحداث قلبت أحوال السوق رأسًا على عقب ولكن بطريقة ما تمكن "مادوف" من الحفاظ خلالها على نتائجه الاستثمارية المثيرة للإعجاب، وبينما كانت تضمد الصناديق المنافسة جراحها كان "مادوف" يوزع أرباحًا قيمتها 1% شهريًا بمعدل سنوي يقترب من 12%.
الصغير قبل الكبير في "وول ستريت" كان يشك في منطقية أرباح "مادوف" شبه الثابتة، فالرجل كان لا يخسر ولا يمر بعام سييء، وهذا ما حمّس كثيرين للبحث والاستقصاء حول حقيقة ما يفعله، ولكن بفضل ذكاء وحرص "مادوف" وقبل ذلك ثقته الشديدة بنفسه لم يتمكن أحد من فهم حقيقة ما يجري باستثناء متداول مخضرم ساقته الأقدار ليقع في طريق "مادوف" ويكشف مخطط الاحتيال الأكبر في التاريخ.
المتداول المخضرم الذي اكتشف الحقيقة
في عام 1999 علم رئيس شركة "رامبارت إنفستمنت مانجمنت" المتخصصة في تداول عقود الخيارات من شريك في شركة تدعى "أكسيس إنترناشونال أدفيزرز"، أن الأخيرة تتعامل مع صندوق تحوط يوزع عائدات بنسبة 2% شهريًا يديره نجم وول ستريت "برنارد مادوف" باستخدام استراتيجيته السحرية "Split-Strike Conversion".
على الفور استدعى رئيس شركة "رامبارت" متداولاً مخضرمًا لديه يدعى "هاري ماركوبولوس" إلى مكتبه وأمره بصب كامل تركيزه على دراسة استراتيجية صندوق التحوط الخاص بـ"مادوف" لكي تتمكن "رامبارت" من محاكاتها وتقليدها، لم يخطر ببال رئيس "رامبارت" أبدًا أن وراء الأكمة ما وراءها.
أخذ "ماركوبولس" المهمة كتحدٍّ وبدأ في دراسة التسلسل الزمني التاريخي لعائدات "مادوف" واستخدم كل ما تعلمه في حياته الأكاديمية من نماذج رياضية في فحص وتدقيق البيانات التي حصل عليها من رئيس شركة "أكسيس إنترناشونال أدفيزرز" التي كانت واحدة من عملاء "مادوف".
طور "ماركوبولس" نموذجًا رياضيًا لحساب "ألفا" و"بيتا" لاستثمارات "مادوف"، ثم حاول باستخدام هذا النموذج تطبيق الاستراتيجية الاستثمارية "Split-Strike Conversion" التي يدعي "مادوف" أنه ينفذها على مؤشر "إس آند بي 100"(تعرف على الفرق بين ألفا وبيتا من هنا).
برأي "ماركوبولس" لو كان "مادوف" صادقًا فعلًا فيما يدعيه فيجب أن يكون هناك قدر كبير من الترابط (correlation) بين عائدات سلته التي تتكون من 30 إلى 35 سهمًا من مؤشر "إس آن بي 100" وبين عائدات المؤشر الاسترشادي نفسه، وهذا ادعاء منطقي جدًا، لأن سلة "مادوف" إذا كانت تحتوي على ثلث الأسهم الموجودة بالمؤشر فيجب أن يتناسب أداؤها ولو بشكل ضئيل مع أداء المؤشر، ولكن هذا لم يحدث، فالمؤشر كان يتراقص صعودًا وهبوطًا على مر السنوات، وعائدات "مادوف" لا تعرف إلا سلم المجد.
بعد سنوات من البحث والتدقيق والهندسة العكسية لكل البيانات المتاحة عن صندوق "مادوف" وصل "ماركوبولس" إلى قناعة بأن التفسير المنطقي الوحيد لنتائج "مادوف" هو أنه يدير مخططًا احتياليًّا كبيرًا، ولكن لم يصدقه أحد حينها فذهب إلى الصحفي الأمريكي الشهير "مايكل أوكرانت" الذي كان يعرفه الجميع في السوق بفضل نجاحه في اكتشاف أكثر من مخطط "بونزي" خلال حياته المهنية.
بعد أن سرد "ماركوبولس" شكوكه وأدلته لـ"أوكرانت"، قام الأخير على الفور بالاتصال بـ"مادوف" وطلب منه اللقاء. وبالفعل دعاه "مادوف" إلى مكتبه واجتمع معه لأكثر من ساعتين سمح له خلالها بطرح أي سؤال يتخيله. لاحقًا قال "أوكرانت" بينما يتذكر ما جرى حينها، إنه خرج من ذلك الاجتماع وهو على قناعة بأن هذا الرجل إذا كان يدير بالفعل مخطط بونزي فهو إما أفضل ممثل رآه في حياته أو أنه شخص سيكوباتي بامتياز.
يحكى "أوكرانت" أن "مادوف" الذي كان يعرف بالتأكيد أن زيارته له وراءها شيء ما لا يسر، بدا هادئًا إلى أقصى حد ممكن ولم يستطع أن يلاحظ عليه أي ذرة من الاضطراب أو عدم الشعور بالراحة، كما هو متوقع من أي مجرم لديه ما يخشاه أو يخفيه، وهكذا انتهت جهود "ماركوبولس" إلى طريق مسدود.ولكن كما يقولون، ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.
الأزمة التي كشفت رياحها المستور
في عام 2008 اندلعت أزمة مالية عالمية أطلقت شرارتها عقود الرهون العقارية في الولايات المتحدة، وفي خلال أسابيع اهتزت الأرض من تحت أقدام حيتان وول ستريت وبدا السوق المالي الأمريكي على حافة الانهيار خصوصًا بعد انهيار بنك الاستثمار الأمريكي "ليمان برازرز" في 14 سبتمبر 2008.
في ذلك اليوم بدا للناس أن قيامة السوق المالي قد قامت وأن السعيد منهم هو من ينجو بنفسه اليوم ولا ينتظر الغد الذي قد لا يأتي، وما عزز من ذلك الاعتقاد هو انتشار شائعات تفيد بأن البنوك الكبرى تعاني من أزمة سيولة. حينها وجد "مادوف" نفسه في مواجهة طوفان من طلبات الاسترداد من قبل عدد ضخم من مستثمريه.
في الأسبوع الأول من ديسمبر 2008 فقط بلغت قيمة المبالغ التي طلب مستثمرو "مادوف" استردادها نحو 7 مليارات دولار في حين أن السيولة التي كانت لديه لم تتجاوز حاجز الـ300 مليون دولار. الخروج من هذا المأزق كان مستحيلاً، ومن هنا انكشف كل شيء!
في العاشر من ديسمبر اعترف "مادوف" لولديه "مارك" وأندرو" بحقيقة إمبراطوريته الاستثمارية ليُهرعا فورًا إلى محاميهما بعد أن أبلغا الشرطة عن أبيهما، وألقي القبض على "مادوف" في صباح الحادي عشر من ديسمبر، وهو الخبر الذي نزل على مستثمريه كالصاعقة الذين ربما صرخ الواحد منهم قائلًا: أين أموالي؟ انتحر اثنان على الأقل من مستثمري "مادوف"، فيما خسر الباقون أموالهم وقبل ذلك صحتهم النفسية.
في مارس 2009 اعترف "مادوف" أمام المحكمة بما فعله، وبعدها بـ3 أشهر تقريبًا وتحديدًا في الثلاثين من يونيو 2009 حكمت عليه محكمة فيدرالية أمريكية بأقصى عقوبة ممكنة وهي السجن لـ150 عاما، ولكن في النهاية لم يقض "مادوف" في السجن أكثر من 11 عامًا، حيث مات في الساعات الأولى من صباح الأربعاء الماضي بالمركز الطبي الفيدرالي بولاية نورث كارولينا.
مات "مادوف" ولكن تبقى ذكراه حية باعتباره أحد أشهر المحتالين في التاريخ. وفي النهاية يبقى السؤال: ماذا لو لم تحدث أزمة 2008؟ هل كان "مادوف" ليلقى نفس المصير؟
المصادر: أرقام – بلومبرج – رويترز – وول ستريت جورنال – فايناشيال تايمز – نيويورك تايمز – واشنطن بوست
كتاب: Business Ethics and Risk Management
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}