التحليل الفني للأسهم في السوق السعودي .. إلى أي مدى يمكن للمستثمر المحترف الاعتماد عليه؟
في الحياة، هناك معارك لا تنتهي وجدالات لا تحسم ونزاعات لا تحل وسجالات لا تكاد تنتهي حتى تبدأ من جديد، لا يعرف أحد كيف بدأت أو لماذا استمرت ولا متى تنتهي، وربما أبلغ وصف لها هو ما ذكره الأستاذ "عباس العقاد" عن شعوره بالزمن أثناء وجوده بالسجن قبل 90 عامًا، حين قال "الزمن كالتراب نحاول أن نكنسه ولكنه لا يذهب".
ولسوق الأسهم نصيبه من تلك المعارك والسجالات التي لا تعرف طريقًا للحسم مهما طال الزمن، ومن بينها مثلًا المعركة والسجال الدائر حول السؤال القديم الجديد: أيهما أفضل، التحليل الفني أم التحليل الأساسي؟
الناس من هذا السؤال على أربعة مذاهب: فريق يؤمن بأفضلية التحليل الأساسي وتفوقه الواضح على سواه كأسلوب تحليلي وحيد يبيع ويشتري على أساسه، وفريق ثانٍ يرى أن التحليل الفني هو مفتاح النجاح في سوق الأسهم وسر الثراء، وثالث يجمع بين هذا وذاك، أما رابعهم وأكثرهم إثارة للاهتمام فهو الفريق صاحب النظرة العدمية الذي يؤمن بأن السوق لا يجدي معه تحليل فني ولا أساسي ويرى أن هناك قوة مجهولة ما تتحكم فيه، وهو رغم ذلك مستمر في السوق!
مالك أولًا وقبل أي شيء .. القاعد الأولى في سوق الأسهم
مهما اتسعت رقعة الجدال بين كل هؤلاء، تظل هناك حقائق لا يجدي معها إنكار ولا يمكن لأي فريق تجاوزها أو القفز فوقها، اللهم إلا إذا أراد دفن رأسه في الرمال أو حجب الشمس بالغربال، وهنا قد تفيدك التذكرة بأن الخطأ في سوق الأسهم تدفع ثمنه من مالك فورًا، ولو أخطأت ألف مرة وخسرت ألف مرة لن تثير شفقة أحد.
يجب أن تعرف أن الربح في سوق الأسهم هو بالأساس نتاج طبيعي لاستفادتنا من أخطاء بعضنا البعض، السهم الذي اشتريته أنا ثم انهار سعره بعدها بأيام هو نفسه الذي باعه آخر رأى أنه وصل إلى قمته وأن هذا هو أفضل وقت للتخلي عنه، باعني السهم في القمة وجلست به في القاع، والفارق في جيبه والحسرة في قلبي.
ما سبق كان مقدمة لا بد منها لكي تدرك أن التعصب لأي استراتيجية أو أي نوع من أنواع التحليل كمشجعي كرة القدم لن يفيدك في سوق الأسهم، بل على العكس سيضرك حتمًا، المستثمر الذكي هو من يكون ولاؤه الوحيد في اللعبة الاستثمارية لماله، يفعل ما يغلب على ظنه أنه في مصلحة ماله، ويطلق طلاقًا بائنًا كل أسلوب أو استراتيجية تعرض ذلك المال للخطر، ففي النهاية، المال عزيز على النفس وأغلبنا لم يصل إليه إلا بشقها.
وتتعرض السطور التالية للأسباب التي تجعل من الاعتماد على التحليل الفني "حصرًا" كاستراتيجية يتم المفاضلة على أساسها بين أسهم أكثر من 200 شركة مدرجة بالمؤشر الرئيسي للسوق (تاسي) هو أسوأ خطأ يمكن أن يقع فيه أي شخص يدخل إلى السوق بنية استثماره أمواله على المدى الطويل. والمشكلة ليست في التحليل الفني وإنما في الاعتماد عليه حصرًا.
يفضل كثير من المستثمرين خصوصًا حديثي العهد منهم بالسوق التحليل الفني على نظيره الأساسي، نظرًا لسهولة تعلم الأول وصعوبة وتعقيد الثاني. في التحليل الفني مئات بل آلاف من طرق وأساليب التحليل، التي يمكن لأي شخص لديه حد أدنى من التركيز تعلم بعضها في يوم واحد، ليصبح باستطاعته تطبيقها على أي رسم بياني للأسعار يعرض عليه بمجرد النظر، وهذا لا ينفي طبعًا وجود عدد من أساليب التحليل الفني المعقدة التي تحتاج بذل مجهود كبير لإتقانها.
ولكن في التحليل الأساسي القصة مختلفة تمامًا، فلكي يصبح بإمكانك تكوين رأي حول أي شركة، تحتاج إلى أيام وربما أسابيع تفحص فيها كل معلومة تخص على سبيل المثال للحصر البيانات الواردة بالتقارير المالية للشركة ووضعها التنافسي وطبيعة القطاع الذي تعمل فيه وهوية الأسواق التي تتنافس فيها ومدى تأثرها بأحوال الاقتصاد وكفاءة فريقها الإداري، كل هذا يتطلب وقتًا ومجهودًا وموارد وقبل ذلك علمًا بأساليب ورياضيات التحليل الأساسي لا يملكها الجميع ولا صبر للأغلبية على تحصيلها.
غاب الدعم وانهارت المقاومة!
في الثالث عشر من يونيو 2014، أعلنت واحدة من أشهر شركات التحليل الفني في العالم، وجود "مثلث استمراري متماثل" (اتجاه صعودي) في نمط تداول أسهم شركة الاتصالات الإسبانية "ليتس جويكس"، قال المحللون الفنيون التابعون للشركة إن سهم الشركة الإسبانية يمكن أن يرتفع من 20.77 يورو إلى النطاق الممتد من 26.25 يورو إلى 27.50 يورو في غضون 37 يومًا، قبل أن يشيروا إلى أنه وفقًا لحساباتهم فإن نقطة الدعم بالنسبة لسعر هذا السهم تستقر عند 18.90 يورو.
بمجرد خروج هذا التحليل للعلن اندفع عدد كبير من المتداولين نحو سهم الشركة الإسبانية على أمل الاستفادة من الزيادة السعرية المتوقعة، خصوصًا أن المكاسب المحتملة وفقًا لحسابات المحللين الفنيين أكبر بكثير من المخاطر الممكنة، فالحد الأدنى للنطاق السعري الذي توقعه محللو الشركة أعلى من السعر الحالي للسهم بأكثر من 5 يوروهات أو 26%، في حين أن للسهم نقطة دعم لا تبعد عن سعر السهم بأكثر من زوج من اليوروهات أو 9%.
بعد حوالي أسبوعين من صدور تقرير التحليل الفني، كشفت واحدة من الشركات الأمريكية النشطة في مجال البيع على المكشوف والتي يقوم عملها على التحليل الأساسي أن ما يصل إلى 90% من عائدات الشركة الإسبانية من مجال الخدمات اللاسلكية هي في الواقع مزيفة، وخلصت الشركة التي تدعى "جوثام سيتي ريسريش" إلى أن "جويكس" في الحقيقة ليس لها قيمة كشركة وأن سعرها المستهدف هو صفر!
في البداية أنكرت الشركة الإسبانية ادعاءات "جوثام سيتي ريسرش" ووصفت تحليلها بأنه "خاطئ بشكل قاطع"، ورغم ذلك انهار السهم في الأول من يوليو إلى 10.71 يورو ليفقد ما يقرب من 50% من سعره الذي كان عليه قبل أسبوعين.
المدهش في هذه القصة هو أن فريق التحليل الفني الذي فشلت توقعاته بشكل واضح لم يستسلم وعاد مرة أخرى ليشير إلى أن حساباته التي أجراها وفق نظرية موجات إليوت تشير إلى أن السعر المستهدف الجديد للسهم هو 9.76 يورو، وهو ما شجع البعض على شرائه، معتقدين أن السهم وصل إلى القاع وأمامه فرصة حقيقية للارتداد إلى الأعلى.
توقعات بلا هدف! .. الطريق نحو الصفر الكبير
بعد أقل من أسبوع على صدور التحليل الفني لسهم "ليتس جويكس"، وتحديدا في السابع من يوليو 2014، خرج الرئيس التنفيذي لشركة الاتصالات الإسبانية بنفسه ليعترف أمام الجميع بأن الإدارة قامت بتزوير البيانات المالية للشركة على مدار السنوات الأربع السابقة، قبل أن ينهي كلامه بعبارة "أنا آسف".
وفي الرابع عشر من الشهر نفسه، تقدمت "جويكس" بطلب لحمايتها من الإفلاس، وذلك بعد أن تم تعليق تداول السهم الذي بلغ سعره في آخر معاملة تمت عليه 7.92 يورو. ضاعت أموال المساهمين بعد أن اتضح أن القيمة الحقيقية للشركة أقرب لتقدير خبراء التحليل الأساسي (صفر) منها إلى تقدير المحللين الفنيين (27 يورو).
الآن قد يحتج بعض المدافعين عن التحليل الفني بحقيقة أن كثيرًا من خبراء التحليل الأساسي الذين كانوا يتابعون الشركة لسنوات هم أيضًا لم يكتشفوا احتيال الشركة، وهذا صحيح فعلًا، فباستثناء خبراء "جوثام سيتي ريسرش" لم ينتبه أحد لما ترتكبه الشركة من ممارسات احتيالية، ومع ذلك هناك فارق كبير لصالح التحليل الأساسي بشكل واضح في هذه القضية تحديدًا.
بعض خبراء أو ممارسو التحليل الأساسي أخطأ وبعضهم فهم الأمور بشكل صحيح، ولكن في النهاية ممارس التحليل الأساسي لديه فرصة لاكتشاف التلاعب لأنه يفحص البيانات والمعلومات المالية وهي موطن أي خلل أو تلاعب محتمل، أما المحلل الفني على الجانب الآخر الذي لا تعنيه إلا الحركة السعرية وأحجام التداول لن ينتبه أصلاً لو باعت الشركة كل أصولها وجلست فوق أكوام من الديون.
انهيار سهم "جويكس" لم تكن لتتوقعه أي منهجية أو أسلوب من أساليب التحليل الفني. على سبيل المثال، نجد أن المحللين الفنيين الذين يركزون على أي شيء سوى الأساسيات لم ينتبهوا في حالة "جويكس" للتناقضات الواضحة الموجودة في تصريحات رئيس الشركة حول عدد نقاط اتصال الـ"وايفاي" التابعة لشركته، وحين صدر تقرير "جوثام سيتي" الصادم، دفنوا رؤوسهم في رمال الرسوم البيانية وأحجام التدوال وأعلنوا عن سعر سهم جديد لا تبرره بأي شكل حالة أساسيات الشركة.
كيف تستخدم التحليل الفني بشكل صحيح؟
التحليل الفني من الممكن أن يكون أداة مفيدة جدًا في سياقات كثيرة، والمشكلة ليست فيه بقدر ما هي في كثير من مستخدميه الذين لا يدركون حدود إمكاناته، وقبل مواصلة الحديث يجدر بنا الرجوع خطوة للوراء لإعادة النظر في ماهية فكرة الاستثمار في الأسهم بالأساس.
سوق الأسهم هو مكان يضم شركات تبيع حصصًا ملكية فيها تسمى أسهمًا، هذه الأسهم تستمد قيمتها من قيمة الشركة، والأخيرة تستمد قيمتها من قيمة أصولها وأعمالها وسمعتها التجارية، الشركة التي تستحوذ على حصة سوقية قدرها 20% قيمتها تختلف عن تلك التي لا تزيد حصتها بالسوق على 5%، والشركة التي يديرها طاقم إداري كفء، غير تلك التي يديرها ضعيفو خبرة، هذه كلها أساسيات، بتغيرها تتغير قيمة الشركة ولو على المدى الطويل، والتحليل الفني غير معني بهذا الجانب تمامًا.
الاعتماد على التحليل الفني كاستراتيجية استثمارية وحيدة ربما يناسب المضارب أو المتداول اليومي وبحدود، ولكنه لا يناسب قطعًا مستثمرًا أو شخصًا يدخل إلى السوق بنية شراء أسهم في شركات يأمل أن تساعده في تكوين مكاسب رأسمالية معتبرة على المدى الطويل.
وبالمناسبة، أنشطة المضاربة والتداول اليومي في سوق الأسهم تحديدًا نادرًا ما تحقق للأفراد أي مكاسب معتبرة على المدى الطويل، وهذا أصبح واضحًا في السنوات الأخيرة لسببين: الأول أنه باتت هناك شركات كبيرة تنشط في مجال المضاربة وتقتنص أي فرصة مراجحة قبل أن يلاحظها المستثمر العادي، والثاني هو أن رسوم المعاملات التي يتم إجراؤها بوتيرة متسارعة غالبًا ما تتسبب في تآكل ما يمكن تحقيقه من أرباح، باختصار المضاربة أو التداول اليومي بناء على التحليل الفني لن يفيد الأفراد غالبًا.
"التحليل الفني والمستثمرون الأفراد"
"التحليل الفني والمستثمرون الأفراد".. هذا كان عنوان دراسة أجراها باحثان من جامعتي "ماسترخت" الهولندية و"سانتا كلارا" الأمريكية ونشراها في "مجلة السلوك الاقتصادي والتنظيم" في أبريل من عام 2014. في إطار الدراسة حاول الباحثان تحليل أداء 5500 مستثمر من المستثمرين الأفراد في سوق الأسهم الهولندي على مدار 6 سنوات من أجل الوقوف على مدى تأثير التحليل الفني على نتائجهم الاستثمارية.
خلصت الدراسة إلى أن المستثمرين الأفراد الذين اعتمدوا بشكل أساسي على التحليل الفني كانوا أكثر عرضة للإفراط في التداول والمضاربة، والنتيجة النهائية هي أن نتائجهم كانت أقل من نظرائهم الذين لم يستخدموا التحليل الفني بواقع 8.4% سنويًا.
هناك مشكلة أخرى بالتحليل الفني وهي أنه لا يقوم على أدبيات محكمة يمكن الرجوع إليها أو الحكم عليه من خلالها، وهو ما يفتح بابًا لاختراع وتأليف عدد لا يحصى من المؤشرات والقواعد الفنية، أغلبها غير فعال أو يعطي استنتاجات متضاربة.
في كتابه "التحليل الفني القائم على الأدلة" قام "ديفيد أرونسون" باختبار أداء 6402 قاعدة ومؤشر فني، ولاحظ أن عدد القواعد الفنية التي كان بإمكانها أن تحقق لمستخدميها أداءً أفضل من أداء مؤشر "إس آند بي 500" هو صفر! لم ينجح أحد!
وهذا بالمناسبة أحد أسباب عدم تمتع التحليل الفني بشعبية كبيرة بين الأكاديميين وكبار المستثمرين تحديدًا، على عكس الحال مع صغار المستثمرين.
في تحفته الكلاسيكية "نزهة عشوائية في وول ستريت" يقول الاقتصادي الأمريكي الشهير "بورتون مالكيل" إن المستثمرين الذين يعتمدون على التحليل الفني لن يحققوا شيئًا سوى زيادة رسوم التداول التي يدفعونها بشكل كبير. ويتفق مع "مالكيل" المستثمران الكبيران "وارن بافيت" و"بيتر لينش".
يقول "بافيت": أدركت أن التحليل الفني لن ينجح حين قلبت الرسم البياني رأسًا على عقب ولم أحصل على استنتاج مختلف، أما "لينش" فكان يرى أن الرسوم البيانية الخاصة بالتحليل الفني "رائعة في التنبؤ بالماضي".
ولكن في الوقت نفسه، لا يسع أحد إنكار أن هناك مستثمرين كبارًا وصناديق وشركات استثمارية تستخدم التحليل الفني كجزء من استراتيجيتها الاستثمارية.
على سبيل المثال يقول "كريستوفر أورندروف" (CFA) المدير الإداري ورئيس قسم استراتيجية الأسهم في شركة "بايدن آند ريجل" التي تتخذ من لوس أنجلوس مقرًا رئيسيًا لها يقول: "نحن نستخدم التحليل الفني وكذلك الأساسي في تحليل الأسهم وأدوات الدخل الثابت، فالتحليل الأساسي هو من يقودنا إلى الأوراق المالية التي يجب امتلاكها، وحين يتعلق الأمر بتوقيت البيع أو الشراء نستخدم الفني والأساسي معًا".
خلاصة الكلام، التحليل الفني من الممكن أن يكون مفيدًا جدًا للمستثمر ولكن إذا تم استخدامه كأداة مساعدة لا كمقياس أو معيار وحيد تتم به المفاضلة بين الأسهم أو البيع والشراء على أساسه، المستثمر الذكي يمكنه الاعتماد على التحليل الأساسي فقط، ويمكنه تعضيده بالتحليل الفني، ولكن لا يسعه الاعتماد على التحليل الفني فقط، لأن الأخير بمفرده لا يسد به رمق ولا يقوم به استثمار.
المصادر: أرقام – فوربس – فاينانشيال تايمز
كتاب: Evidence-Based Technical Analysis
كتاب: A Random Walk Down Wall Street
دراسة: Technical analysis and individual investors
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}