التداعيات لم تنته .. أزمة كريدي سويس تزعزع الثقة في اقتصاد سويسرا ومخاوف من تداعيات مستقبلية
يبدو أن أزمة بنك "كريدي سويس" الذي استحوذ عليه منافسه الأكبر "يو.بي.إس" ستظل تفرز تداعيات مستمرة على الاقتصاد السويسري ليس أقلها هز الثقة في البلاد التي ظلت لقرون ملاذا آمنا وواحة مصرفية لكبار أثرياء العالم وشركاته خاصة في ظل مخاوف بشأن حجم البنك المندمج الناشئ عن صفقة الإنقاذ ومدى صعوبة استمراره بهذا الشكل الهائل.
ويقول محللون إن سياسات سويسرا العتيدة التي تتسم بالموثوقية تعرضت لاختبار ضخم خلال الأزمة، بعد أن لجأت الحكومة إلى قانون للطوارئ للمضي قدما في عملية الاندماج المدعومة من الدولة مما أدى إلى تهميش دور المشرعين.
لكن الخبراء يقولون إن المخاوف من أن يؤدي انهيار بنك "كريدي سويس" إلى أزمة مصرفية أوسع نطاقا ترك السلطات السويسرية أمام خيارات محدودة، وإن الاندماج مع منافسه كان أفضل فرصة لاستعادة الاستقرار في القطاع المصرفي في العالم وسويسرا وحماية اقتصاد البلاد في الأمد القصير. و"كريدي سويس" تأسس في عام 1856 وكان أحد أعمدة القطاع المالي منذ ذلك الحين.
رفض برلماني
وصوت مجلسا البرلمان في سويسرا على رفض مساعدة حكومية بقيمة 109 مليارات فرنك سويسري للصفقة بين أكبر بنكين في البلاد مما مثّل صدمة للحكومة.
ويقول محللون إن الهزيمة رمزية لأنها لن تغير من شأن الاندماج شيئا، لكنها تشكل ضربة للحكومة في العام الذي من المقرر أن يشهد إجراء الانتخابات وتجعل من الصعب بناء دعم واسع بين السكان لأكبر عملية إنقاذ لمؤسسة في تاريخ البلاد.
وقال محللون إن استخدام قوانين الطوارئ التي لا تعتد برأي المساهمين أو البرلمان سيلحق الضرر أيضا بمكانة الصناعة المالية السويسرية في الخارج لا سيما أنها تواجه منافسة متزايدة من مراكز مالية أخرى مثل سنغافورة.
وقال أستاذ السياسة "مايكل هيرمان" مدير الاستطلاعات لدى شركة "سوتومو" إن النموذج السياسي السويسري يتعرض لضغوط في الوقت الحالي، مضيفا أن النظرة الأجنبية لسويسرا على أنها بيئة صديقة للأعمال وملاذ مالي آمن قد تتقوض.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته "سوتومو" مؤخرا أن ثلثي السكان يعارضون الاستحواذ بينما أعرب ثلث المشاركين في الاستطلاع عن غضبهم من استخدام قوانين الطوارئ لتجاوز البرلمان.
وأشار محللون إلى أن تلك المرة الأولى التي يحجم فيها البرلمان عن الموافقة على استخدام قوانين الطوارئ المصممة للتعامل مع الأزمات.
وتم استخدام القانون، الذي استحدث في عام 2000، دون موافقة البرلمان خلال جائحة كوفيد لفرض القيود ومرة أخرى في العام الماضي لتزويد شركة إنتاج الطاقة السويسرية بخط ائتمان.
وقبل اندماج البنكين، سمح قانون الطوارئ السويسري لمجموعة فرعية من ستة أعضاء بالبرلمان بالموافقة على خطة وزارية لتقديم مساعدة مالية نيابة عن البرلمان، مما أثار غضب 250 مشرعا في البرلمان لم يؤخذ برأيهم.
ودافعت وزيرة المالية السويسرية "كارين كيلر سوتر" عن استخدام سلطات الطوارئ وقالت إن سويسرا "ليست دكتاتورية طوارئ".
وقالت سوتر للبرلمان خلال جلسة طارئة عاصفة في البرلمان: "نحن لا نفعل ذلك من أجل المتعة. لم نكن نعرف حقا ماذا نفعل غير هذا. قانون الطوارئ يستند إلى الدستور الاتحادي ولا أعتقد أنه من السليم القول بأنه غير قانوني".
مطالب بالتحقيق
ودعا الحزب الديمقراطي الاشتراكي السويسري بالفعل لإجراء تحقيق بشأن الأزمة التي واجهها كريدي سويس، وقال إن البنك العملاق الناشئ عن الاندماج يفاقم المخاطر على الاقتصاد السويسري.
من جانبها قالت الحكومة السويسرية إنها ستأخذ في الاعتبار رفض البرلمان، لكنها شددت على أن نجاح الاستحواذ على ثاني أكبر بنك سويسري، بهدف منع حدوث انهيار مالي، أمر بالغ الأهمية.
وقال خبراء القطاع إنه من المستبعد أن يجري السياسيون تعديلا على الصفقة، على الرغم من أن "يو.بي.إس" له مطلق الحرية في تحديد عدد الوظائف التي سيقوم بالاستغناء عنها وما الذي سيفعله بأنشطة أعمال التجزئة المصرفية المحلية القيمة التابعة لبنك "كريدي سويس".
وقال "هانز غيرسباخ" المدير المشارك لمعهد البحوث الاقتصادية "كيه.أو.إف" في جامعة "إي.تي.إتش زوريخ" إنه على الرغم من الغضب، فإن معظم صانعي السياسات لا يريدون التدخل في الاندماج، كي لا يخلقوا ويتحملوا على عاتقهم مخاطر عدم نجاح الاندماج.
وأضاف "ربما أراد السياسيون إظهار عدم موافقتهم على ما حدث، لكنهم لا يريدون لعملية الاستحواذ أن تفشل".
في نهاية المطاف جرى تقديم 209 مليارات فرنك سويسري كضمانات ودعم من الحكومة والبنك المركزي للخطة التي وضعها مجلس الوزراء السويسري المؤلف من سبعة أعضاء والذي يضم أربعة من أحزاب رئيسية في البلاد.
ويعادل المبلغ نحو ربع الناتج المحلي الإجمالي لسويسرا، ويشمل ضخ سيولة طارئة وتعهدا حكوميا باستيعاب ما يصل إلى تسعة مليارات فرنك من الخسائر التي تكبدها "يو.بي.إس" استنادا إلى وثائق تسرح الصفقة.
وقال "بيتر كونز" الخبير في القانون الاقتصادي بجامعة برن إن المشرعين في نهاية المطاف غير قادرين على تغيير الصفقة. وقال "في سويسرا، كنا نهنئ أنفسنا عادة لوجود أقدم ديمقراطية في العالم. ومع ذلك أصدر سبعة أشخاص قرارا بشأن دعم بقيمة 250 مليار فرنك، وهو مبلغ ضخم بشكل لا يمكن تصوره".
وأضاف "ليس للبرلمان رأي في هذا. استخدام قانون طوارئ كهذا، والانقلاب على قواعد مكافحة الاحتكار، مشكلة للديمقراطية السويسرية وسيادة القانون. إنها تضع الديمقراطية السويسرية موضع الشك".
انتقادات لكبر حجم الصفقة
لم تقتصر الانتقادات فحسب على الطريقة التي تمت بها هيكلة الصفقة، بل تداعياتها في المستقبل في ظل تخوف من مؤسسة مالية ضخمة بهذا الحجم واستمرار حالة عدم اليقين بشأن مدى نجاح الاندماج.
وقال "أرتورو بريس" أستاذ المالية في كلية إدارة الأعمال السويسرية "آي.إم.دي" إن إحدى الحقائق الأكثر رسوخا في البحث الأكاديمي أن عمليات اندماج البنوك الضخمة نادرا ما تنجح على الإطلاق.
هناك أيضا مخاوف من أن تؤدي الصفقة إلى خسائر فادحة في الوظائف في داخل البلاد وإضعاف المنافسة في القطاع المالي الحيوي والذي يوظف أكثر من 5% من القوى العاملة أو ما يقرب من 212 ألف شخص.
في الوقت نفسه فإن اختفاء واحدة من أقدم المؤسسات في سويسرا شكل صدمة للعديد من مواطنيها. وقال "غيرسباخ" إن بنك كريدي سويس جزء من هوية سويسرا وقام بدور فعال في تطوير سويسرا الحديثة.
ويقول الخبراء إن إقدام السلطات السويسرية على تحميل بعض حاملي سندات البنك للخسائر قبل مساهميه أدى إلى تغيير التسلسل الهرمي التقليدي للخسائر في حالة إفلاس البنوك ووجه ضربة أخرى لسمعة البلاد بين المستثمرين.
وقال "بريس" من "آي.إم.دي" إن تداعيات ذلك الأمر على سويسرا رهيبة، إذ تضررت سمعتها إلى الأبد.
وأضاف لتلفزيون "سي.إن.إن" أن ذلك سيفيد مراكز إدارة الثروات الأخرى بما في ذلك سنغافورة. وقال "السنغافوريون يحتفلون... لأنه ستكون هناك تدفقات هائلة للأموال إلى مراكز إدارة الثروات الأخرى".
أكبر من أن تفشل
بأصول إجمالية قدرها 1.7 تريليون دولار تقريبا، فإن الكيان الجديد الناشئ عن الاندماج يبلغ ضعف حجم الناتج الاقتصادي السنوي لسويسرا. وبحساب الودائع والقروض للعملاء السويسريين، فإن "يو.بي.إس" بات أكبر من البنكين المحليين التاليين له في الترتيب مجتمعين.
وفي ظل سيطرته على حصة سوقية قدرها 30% بين البنوك السويسرية، كتب محللو بنك "جيه.بي مورجان" في مذكرة قبل إتمام الصفقة "نرى الكثير من مخاطر التركز والسيطرة على الحصة السوقية"، وأشاروا إلى أن الكيان المندمج سيحتاج إلى التخارج أو طرح بعض الأنشطة للاكتتاب العام.
تكمن المشكلة في وجود بنك واحد كبير في اقتصاد صغير في أنه إذا واجه أزمة سحب للودائع أو احتاج إلى خطة إنقاذ، وهو ما حدث مع "يو.بي.إس" نفسه خلال أزمة 2008، فقد تكون القوة المالية للبلاد غير كافية.
وعند 333 مليار فرنك، فإن الودائع المحلية في الكيان الجديد تعادل 45% من الناتج المحلي الإجمالي وهو مبلغ ضخم حتى بالنسبة لبلد يتمتع بمالية عامة متينة ومستويات منخفضة من الديون.
من ناحية أخرى، فإن "يو.بي.إس" بات في وضع مالي أقوى مما كان عليه خلال الأزمة المالية في 2008 وسيتطلب منه ذلك تكوين احتياطيات مالية أكبر بكثير نتيجة للصفقة. وقالت هيئة التنظيم المالي السويسرية (فينما) إنها "تراقب عن كثب الصفقة ومدى الامتثال لجميع المتطلبات بموجب قانون الإشراف".
من جانبه سعى "كولم كيليهر" رئيس مجلس إدارة "يو.بي.إس" إلى طمأنة السوق، مشددا على متانة الميزانية العمومية للبنك. وقال: "لأنني كنت المدير المالي (في مورجان ستانلي) خلال الأزمة المالية العالمية الأخيرة، فأنا على دراية تامة بأهمية وجود ميزانية عامة قوية. سيظل يو.بي.إس قويا".
وأضاف أن "يو.بي.إس" سيقلص حجم بنك الاستثمار في "كريدي سويس" وسيجعله متوائما مع ثقافة المخاطر المحافظة لديه.
وقال "أندرو كينينجهام" كبير الاقتصاديين المعنيين بأوروبا لدى "كابيتال إيكونوميكس" إن مسألة "تركز السوق في سويسرا أمر يجب معالجته مستقبلا"، وأضاف "30% حصة سوقية أعلى مما قد تريد بشكل مثالي لكنها ليست مرتفعة جدا بحيث تمثل مشكلة كبيرة".
وأضاف أن الصفقة أزالت جراحيا الجزء الأكثر إثارة للقلق من النظام المصرفي السويسري مما جعله أقوى.
الوظائف والمنافسة
يقول المحللون إنه سيكون للصفقة تأثير سلبي على الوظائف، خاصة إذا أضيفت إلى الخفض البالغ 9000 وظيفة الذي أعلنه "كريدي سويس" بالفعل كجزء من خطة تحول سابقة.
كانت وسائل إعلام سويسرية ذكرت أن عملية الاستحواذ قد ينتج عنها قيام البنك المندمج بخفض قوته السويسرية العاملة بما يصل إلى 30% مما يعني الاستغناء عن 11 ألف وظيفة.
ويوظف البنكان بشكل جماعي 37 ألف شخص في البلاد أي نحو 28% من القوى العاملة في القطاع المالي.
ولم يخف "يو.بي.إس" نواياه بالنسبة لهذه المسألة. إذ أعلن الرئيس التنفيذي للبنك "رالف هامرز" أن البنك سيسعى لخفض التكاليف سنويا بواقع 8 مليارات فرنك بحلول 2027، منها 6 مليارات فرنك ستأتي من خفض العاملين.
المنافسة
يقول منتقدون إن الصفقة التي أبرمت على عجل لم تفشل فقط في حماية الوظائف في سويسرا، ولكنها لم تشمل أيضا بنودا خاصة بمسائل المنافسة.
ويقول "بريس" إن "يو.بي.إس" يتمتع الآن بسلطة شبه احتكارية، مما قد يزيد تكلفة الخدمات المصرفية في البلاد.
وعلى الرغم من أن سويسرا لديها العشرات من البنوك المحلية والادخارية الأصغر، بما في ذلك 24 بنكا محليا، فإن "يو.بي.إس" أصبح الآن مهيمنا على السوق بشكل أكبر. وقال "غيرسباخ" من "إي.تي.إتش" إن كل ما يفعله "يو.بي.إس" سيؤثر على السوق.
وأضاف أن الذراع المصرفية السويسرية لبنك "كريدي سويس"، وهي جوهرة التاج للبنك، كان من الممكن أن يتم بيعها مستقبلا كجزء من الصفقة.
ويبدو الآن أنه من المستبعد فصل البنك المحلي بعد أن أوضح "يو.بي.إس" أنه يعتزم الاحتفاظ به. وقال "كيليهر" إن "بنك كريدي سويس أصل جيد ونحن مصممون بشدة على الاحتفاظ به".
اندماج صعب
يقول محللون إنه بقيمة للصفقة التي تبلغ 3.25 مليار دولار، فإن "يو.بي.إس" حصل على "كريدي سويس" بسعر يقل 60% عما يساويه البنك عندما أغلقت الأسواق قبل يومين من إبرام الصفقة، هذا في الوقت الذي تعد فيه عمليات الاندماج الكبيرة محفوفة بالمخاطر وغالبا لا تحقق العوائد التي تعد إدارات الشركات المساهمين بها.
يدافع "يو.بي.إس" عن الصفقة بالقول إنه من خلال توسعة امتيازه التجاري لإدارة الثروات والأصول عالميا، فإن الصفقة ستقود القيمة للمساهمين في الأجل الطويل. وقال "كيليهر" إن قوة "يو.بي.إس" ومعرفته بأنشطة "كريدي سويس" تجعله في موضع فريد لتنفيذ الاندماج بكفاءة وفاعلية. ويتوقع البنك السويسري أن تعزز الصفقة أرباحه بحلول 2027.
ومن المتوقع إغلاق الصفقة في الأشهر المقبلة، لكن الدمج الكامل للمؤسستين سيستغرق من 3 إلى 5 سنوات، وفقا لما قاله "فيليب سترالي" رئيس شركة تحليل البيانات "إف.إن.إيه". ويضيف سترالي "هناك قدر هائل من مخاطر الاندماج".
وأكدت وكالة "موديز" تصنيفها الائتماني لبنك "يو.بي.إس" لكنها غيرت النظرة المستقبلية بشأن بعض ديونه من مستقرة إلى سلبية معتبرة أن "تعقيد، ومدى ومدة الاندماج" تشكل مخاطر على البنك.
كما أشارت إلى التحديات التي تواجه الاحتفاظ بموظفين رئيسيين لدى "كريدي سويس" وتقليل فقدان العملاء المتداخلين في سويسرا وتوحيد الثقافات "في مؤسستين مختلفتين إلى حد ما".
وقال " كينينجهام" من "كابيتال إيكونوميكس" إن السجل الحافل لعمليات الاندماج في القطاع المصرفي متباين الصورة.
وأضاف "بعضها، مثل شراء آي.إن.جي لبنك بارنجز في عام 1995، أثبت أنه مستمر لأمد طويل. لكن عمليات أخرى، بما في ذلك البعض خلال الأزمة المالية العالمية، سرعان ما ألقت بظلال من الشكوك بشأن مدى قابلية البنك المستحوذ للاستمرار، بينما أثبت البعض الآخر أنه من الصعب جدا تنفيذه".
المصادر: أرقام- رويترز- سي.إن.إن. بي.بي.سي
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}