خداع الشاشات .. شائعات هزت عرش الأسواق العالمية
فرح "دانييل مورجان"، المستثمر المستقل في بورصة وول ستريت، أثناء مراقبته لتحركات أسعار الأسهم في بداية تعاملات أمس الاثنين بعودة اللون الأخضر للشاشة، بعد الخسائر الضخمة التي منيت بها الأسهم على مدار آخر يومين من تعاملات الأسبوع الماضي.
تزامنت رؤية "مورجان" لعودة اللون الأخضر لشاشة التداول مع تلقيه إشعارًا على جواله المحمول مفاده أن "مصدرًا مطلعًا" أكد تأجيل الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" فرض الرسوم الجمركية الجديدة على الصين.
وشهدت سوق الأسهم الأمريكية خسارة قدرها 6.6 تريليون دولار يومي الخميس والجمعة فقط جراء تداعيات أزمة الرسوم الجمركية وهي أكبر خسارة مسجلة لقيمة الأسهم في يومين، وفقًا لبيانات داو جونز.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وخلال لحظات قليلة، بدت الأسواق وكأنها ستتخطى تلك الخسائر إذ ارتفعت الأسهم بسرعة قياسية، مما شجع "مورجان" على استعادة بعض التفاؤل الذي فقده خلال جلستي يومي الخميس والجمعة، حينما كان يراقب انهيار محفظته وكأنها تتبخر أمام عينيه.
وكان "مورجان" قد أقدم على بيع بعض من أسهمه خوفًا من استمرار نزيف الخسائر، وهو ما كبّده خسائر فادحة قاربت ربع محفظته الاستثمارية.
لكن هذه الشائعة أعادت إليه شيئًا من الأمل، بل دفعت به لاتخاذ خطوة جريئة وهي ضخّ أموال جديدة في السوق في محاولة لتعويض الخسائر.
لكن سرعان ما تبخر هذا التفاؤل، مع خروج المتحدث باسم البيت الأبيض لينفي ما تم تداوله جملةً وتفصيلًا، لتبدأ السوق رحلة هبوط أسرع مما كان عليه، ويخسر "مورجان" خلال أقل من أسبوع أمواله مجددًا وسط موجة بيع عشوائية وارتباك جماعي.
مثل تلك القصص المتكررة تعكس حالة القلق والاندفاع التي تسيطر على المستثمرين في لحظات الغموض والشائعات، حينما تختلط المشاعر بالأرقام، ويغدو القرار المالي أقرب إلى مقامرة مدفوعة بالأمل أكثر من الحسابات الدقيقة.
كما تثار تساؤلات حول مدى تحكم الشائعات في تحركات الأسواق، وما أثرها الحقيقي على الاقتصاد وعلى قرارات المستثمرين؟
تفاصيل تبخر 2.5 تريليون دولار
في صباح يوم الاثنين، انتشرت شائعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تفيد بأن الرئيس "دونالد ترامب" يدرس تعليق الرسوم الجمركية لمدة 90 يومًا لجميع الدول باستثناء الصين.
استندت هذه الشائعة إلى منشور من حساب مجهول يُدعى "والتر بلومبرج"( Walter Bloomberg)، وسرعان ما تلقفت وسائل الإعلام الكبرى، بما في ذلك سي إن بي سي ووكالة رويترز، هذا الخبر، مما أدى إلى ارتفاع حاد في مؤشرات السوق.
وارتفع مؤشر إس آند بي 500 بشكل كبير، مضيفًا حوالي 2.4 تريليون دولار أمريكي في القيمة السوقية خلال عشر دقائق.
وبعد مرور دقائق قليلة، خرج المتحدث باسم البيت الأبيض لينفي تلك الشائعات، مؤكدًا أن "الرئيس ملتزم بالمواعيد المعلنة للإجراءات الجمركية دون تغيير".
وفي غضون أقل من 30 دقيقة، اختفت الأرباح، وتحولت إلى خسائر، مع اندلاع موجة بيع هستيرية، مما أدى لتبخر أكثر من 2.5 تريليون دولار من القيمة السوقية للأسهم الأمريكية في دقائق، وسط حالة من الصدمة والذهول.
وخلف هذا الحدث آلاف المستثمرين الذين ضخوا أموالهم في الأسهم بحثًا عن أرباح سريعة، ليتعرضوا لموجة جديدة من الخسائر الفادحة في وقت لم يفيقوا فيه من خسائر الأسبوع الماضي.
حوادث مشابهة
هذه الحادثة ليست الأولى من نوعها في تاريخ الأسواق المالية، حيث تكررت مشاهد الهلع بسبب شائعات أو أخبار كاذبة أدت إلى قرارات استثمارية متسرعة، أثرت على مليارات الدولارات خلال دقائق معدودة.
ففي عام 2000، كان قطاع التكنولوجيا في ذروة فقاعة "الدوت كوم"، حيث كانت شركات الإنترنت والتكنولوجيا تسيطر على أسواق الأسهم بشكل كبير.
في ذلك الوقت، انتشرت شائعة تفيد بأن شركة "إنتل"، أكبر شركات تصنيع الرقائق الإلكترونية في العالم، ستصدر تحذيرًا رسميًا بشأن انخفاض أرباحها في المستقبل القريب.
وأحدثت تلك الشائعة اضطرابًا هائلًا في الأسواق، مع تهاوي أسهم شركات التكنولوجيا بشكل حاد، وعمقت الخسائر الكبيرة التي منيت بها الأسواق بسبب تزايد القلق من فقاعة الإنترنت.
في غضون ساعات قليلة، فقد العديد من أسهم شركات التكنولوجيا، بما في ذلك "مايكروسوفت"، "أمازون"، و"سيسكو"، جزءًا كبيرًا من قيمته السوقية.
في نهاية المطاف، وبعد نفي الشائعة من قبل "إنتل" حيث أكدت أنها لم تكن بصدد إصدار أي تحذير من هذا القبيل، بدأت الأسهم في التعافي قليلاً، لكن الضرر كان قد وقع بالفعل.
أما في أكتوبر من عام 2008، خلال ذروة الأزمة المالية العالمية، انتشرت شائعة خطيرة تفيد بأن "ستيف جوبز"، مؤسس شركة آبل، تعرض لنوبة قلبية.
الخبر ظهر حينها على منصة صحافة المواطن آي ربورت التابعة لشبكة سي إن إن، وتداولته وسائل الإعلام بسرعة دون تحقق كافٍ.
وخلال دقائق معدودة، فقد سهم آبل أكثر من 10% من قيمته السوقية قبل نفي الخبر والتأكيد على أن جوبز بصحة جيدة.
وخلال الفترة نفسها، ساهمت شائعات غير مؤكدة عن تعثر مصرف "واشنطن ميوتشوال" في تسريع وتيرة سحب الودائع، ما دفع الجهات الرقابية إلى التدخل سريعًا لكن الأمر انتهى بانهيار فعلي للمصرف، وهو أكبر إفلاس مصرفي في تاريخ الولايات المتحدة آنذاك.
وفي السادس من مايو عام 2010، اهتزت الأسواق الأمريكية بشدة إثر ما عُرف لاحقًا بـ"الانهيار اللحظي" (Flash Crash) حيث تبخّر نحو تريليون دولار من القيمة السوقية للأسهم الأمريكية خلال دقائق معدودة، قبل أن تستعيد الأسواق جزءًا من عافيتها لاحقًا.
التحقيقات الرسمية التي أجرتها هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية ولجنة تداول السلع الآجلة أرجعت السبب إلى تداول خوارزمي ضخم أطلق سلسلة من أوامر البيع، ما أدى إلى فوضى في السوق وأثار ذلك قلقًا واسعًا بشأن أمان وشفافية الأنظمة المالية المؤتمتة.
وفي أبريل عام 2013، تسببت تغريدة مزيفة من حساب وكالة "أسوشيتد برس" على موقع تويتر، تحدثت عن انفجارين في البيت الأبيض وإصابة الرئيس الأمريكي حينها باراك أوباما، في هبوط مؤقت لمؤشر داو جونز بأكثر من 140 نقطة خلال دقائق.
وأدت تلك الشائعة إلى خسائر سوقية ناهزت 136 مليار دولار أمريكي قبل تكذيب الخبر، وتوضيح أن الحساب الرسمي لوكالة "أسوشيتد برس" قد تعرّض للاختراق الإلكتروني، وأن الخبر عارٍ تمامًا من الصحة.
وبعد النفي الرسمي واستعادة السيطرة على الحساب، عادت الأسواق للتعافي جزئيًا، لكن الضرر النفسي الذي خلفته الحادثة ظلّ حاضرًا لفترة.
وأثارت تلك الواقعة نقاشًا واسعًا حول هشاشة الأسواق أمام الأخبار الكاذبة ومدى تأثرها بالثواني الأولى من انتشار الشائعات، خصوصًا في ظل الاعتماد المتزايد على التداولات الآلية وخوارزميات الاستجابة اللحظية.
كما أنه في يوم 7 أغسطس 2018، نشر "إيلون ماسك" – الرئيس التنفيذي لشركة تسلا –تغريدة "أفكر في تحويل تسلا إلى شركة خاصة مقابل 420 دولارًا للسهم. تم تأمين التمويل " المفاجئة على حسابه الرسمي في تويتر.
وخلال دقائق من النشر، قفز سهم تسلا بأكثر من 10%، وسط حالة من الارتباك والفضول بين المستثمرين والمحللين حيث أوحت التغريدة بأن قرارًا شبه نهائي قد اتخذ، وأن التمويل اللازم (نحو 72 مليار دولار في ذلك الوقت) جرى تأمينه بالفعل.
الأثر السوقي على سهم تسلا جراء تغريدة ماسك في 2018: |
||
التوقيت |
سعر السهم |
التوصيف |
قبل التغريدة |
342 |
سعر التداول الطبيعي |
بعد التغريدة مباشرة |
380 |
ارتفاع حاد نتيجة الإعلان |
بعد نفي التمويل |
308 |
تراجع كبير بسبب انعدام المصداقية |
وتبيّن لاحقًا أن ماسك لم يكن قد حصل على اتفاق تمويل نهائي، وإنما كانت لديه محادثات "أولية" فقط، ولم يتم توقيع أي أوراق رسمية لتنفيذ التحويل إلى شركة خاصة.
وبالفعل رفعت هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية دعوى ضد "ماسك" بتهمة الإدلاء بتصريحات مضللة، ووافق ماسك وتسلا لاحقًا على تسوية تضمنت دفع غرامة بقيمة 20 مليون دولار لكل منهما.
كما تنحّى ماسك عن رئاسة مجلس الإدارة لمدة 3 سنوات مع احتفاظه بمنصب المدير التنفيذي.
لماذا تؤثر الشائعات بسرعة؟
تؤثر الشائعات بسرعة في الأسواق المالية لأسباب عدة تتداخل بين عوامل تقنية ونفسية، وفي مقدمتها الاعتماد الكبير على خوارزميات عمليات التداول، مما يجعل السوق يتفاعل بشكل سريع مع موجات الهبوط أو الصعود، حتى لو كان على نحو غير مدروس.
هذه الخوارزميات، التي تعمل على تنفيذ أوامر البيع والشراء في ثوانٍ، تساهم في تسريع ردود الفعل على الشائعات دون التأكد من صحتها.
إضافة إلى ذلك، يلعب العامل النفسي دورًا كبيرًا في تأثير الشائعات على الأسواق حيث يشعر المستثمرون بالخوف أو الجشع عند سماع شائعة معينة، مما يدفعهم إلى اتخاذ قرارات عاطفية مثل البيع أو الشراء بشكل مفاجئ.
هذه القرارات العاطفية يمكن أن تؤدي إلى تحركات سعرية غير مبررة في الأسواق.
كما تسهم وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير في سرعة انتشار الشائعات، فمنصات مثل تويتر وفيسبوك تتيح للمعلومات أن تصل إلى ملايين الأشخاص خلال ثوانٍ، مما يزيد من سرعة انتشار الشائعة ويجعل رد فعل السوق سريعًا جدًا.
وتنجم عن هذا الأمر آثار اقتصادية سلبية مع تقويض الشائعات الثقة في السوق، خاصة عندما تُبنى قرارات التداول على أخبار غير مؤكدة.
هذا الأمر يجعل الأسواق في حالة توتر، حيث لا تعكس تحركات الأسعار الواقع الاقتصادي، بل تحكمها العواطف والمعلومات غير الدقيقة، مما يشكل صعوبة لصناع السياسة النقدية والمستثمرين المؤسسيين في اتخاذ قرارات سليمة تستند إلى أسس راسخة.
وتدفع مثل تلك الحوادث الهيئات التنظيمية، مثل هيئات الأوراق المالية والبورصات، إلى تعزيز الرقابة على التداولات المريبة ومراقبة مصادر الشائعات، في محاولة للحد من تأثيرها على الأسواق، ومع ذلك يظل تأثير الشائعات على سلوك المستثمرين يشكل تحديًا كبيرًا.
ففي بيئة استثمارية تتسم بالتعقيد والتشابك، لم تعد الأسواق تتحرك فقط بناءً على المؤشرات الاقتصادية أو نتائج الشركات، بل باتت تتأثر بشكل متزايد بعوامل غير تقليدية مثل الشائعات والمضاربات اللحظية.
ومع تصاعد دور وسائل التواصل الاجتماعي والاعتماد الكثيف على التداولات الخوارزمية، أصبحت الاستجابة الجماعية لأي معلومة – صحيحة أو زائفة – أشبه برد فعل انعكاسي لا يُمنح الوقت الكافي للتحقق أو التقييم.
وهنا تكمن خطورة الشائعات، فهي لا تقتصر على تشويه لحظي أو عابر، بل تزعزع الثقة، وتربك التوقعات، وتدفع المستثمرين إلى اتخاذ قرارات غير مدروسة.
لذلك، بات من الضروري تعزيز الوعي الاستثماري، وتطوير أدوات رقابية قادرة على التمييز بين المعلومة والتحريف.
المصادر: أرقام- وول ستريت جورنال- سي إن بي سي- بلومبرج- فوربس- رويترز
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}

تحليل التعليقات: