سيناريوهات مختلفة: كيف سيبدو الاقتصاد والأسواق بعد اندلاع الحروب التجارية؟
يقال في الحروب التقليدية إنه بوسعك دومًا أن تقرر متى تطلق الرصاصة الأولى، ولكن ليس بوسعك أن تحدد موعد انطلاق الأخيرة.
وينطبق هذا إلى حد بعيد على الحروب التجارية، فمنذ إطلاق الرئيس الأمريكي لشرارة المواجهات التجارية حول العالم، سادت حالة من الذعر والهلع في الأسواق، حيث تراجعت قيمة غالبية الأصول، وشهدت أسواق الأسهم خاصة انهيارات عنيفة، ليثور التساؤل حول كيفية تأثر الاقتصاد والأصول والتجارة عالميًا بسبب الحروب التجارية التي قد تتسع.
التأثير على النمو العالمي
من المؤكد أن النمو العالمي سيتأثر سلبًا بسبب الرسوم الجمركية، ولكن درجة التأثير ستتفاوت بشكل كبير للغاية مع محدودية أو اتساع حجم المواجهات التجارية، ولكن الترجيحات هي انخفاض في النمو في حده الأدنى بنسبة 0.3% ليصل إلى تراجع في توقعات النمو إلى 1%، ليتقلص النمو المتوقع للاقتصاد العالمي -وفقًا لتقديرات البنك الدولي- من 3.1% إلى 2.1%.
للاطلاع على المزيد من المواضيع والتقارير في صفحة مختارات أرقام
وتتخوف بعض التقديرات من المزيد من الانخفاض في النمو العالمي ليصل إلى دون 2%، والخطير في هذا الأمر أن معدلات النمو دون هذا الرقم، ومع متوسط نمو سكاني عالمي تقدر بـ0.8% و-1% ومعدلات تضخم مرتفعة في أغلب البلدان حول العالم يعني أن النمو سيكون محدودًا للغاية، وربما تكون محصلته الحقيقية سالبة في العديد من البلدان.
ولا شك أن التأثير سيكون مضاعفًا على الدول التي تشهد بالفعل دورات اقتصادية سلبية، وفي مقدمتها الاقتصاد الألماني الذي انكمش بالفعل في عام 2024 بنسبة 0.2%، مع معاناة قطاعات رئيسية في مقدمتها قطاع السيارات، ومن الواضح أن الحكومة الألمانية ستضطر لخفض توقعاتها للنمو مجددًا، ففي أكتوبر 2024 كانت التوقعات بالنمو 1.1% في عام 2025 قبل أن تخفضها في يناير الماضي لـ0.3% وحاليا تدور النقاشات حول نسبة الانكماش المتوقع للاقتصاد وليس النمو.
وما ينطبق على ألمانيا سينسحب على بقية الاقتصاديات الأوروبية بدرجات متفاوتة، ولا سيما اقتصادات غرب أوروبا.
الصين وأمريكا
يمكن القول بأن عودة الاقتصاد الصيني ليلعب دور "رافعة النمو" للاقتصاد العالمي لم تكن هامة وحيوية قدر الوقت الحالي، في ظل أن تحقيق بكين لمعدل النمو لمستهدف لعام 2025 والمقدر بـ5% سيكون هامًا للغاية لعديد من دول العالم، حيث سيفيد الصين أولاً بالتأكيد، وشركائها التجاريين ثانيًا، ثم منتجي كافة السلع والمنتجات الأولية لأنه سيحول دون انهيار أسعارها.
وما قد يقوض النمو الصيني أو تأثيره عالميًا هو التوقعات بتراجع التجارة العالمية بنسبة 1% على الأقل في العام الحالي بسبب الحروب التجارية، ولهذا السبب أقرت الصين برامج تيسير كمية وأخرى لتشجيع الطبقة الوسطى على الاستهلاك (حجم الطبقة الوسطى في الصين أكثر من 700 مليون شخص أي أكثر من ضعف سكان الولايات المتحدة) وبالتالي فإن تشجيعهم على الاستهلاك سيكون له تأثير إيجابي على النمو الصيني.
ومن نافلة القول الإشارة إلى أن الصين ودول شرق آسيا قد تكون الأكثر تأثرًا من انكماش التجارة العالمية، فكما لانتعاشها من تأثير إيجابي على النمو، بمفهوم مضاعف التجارة الخارجية أو الصادرات، فلانكماشها تأثير عكسي.
أما الاقتصاد الأمريكي نفسه فقد جاءت تصريحات المدير التنفيذي لـ"جي بي مورغان" "جيمي ديمون" يوم الإثنين لتؤكد "الاقتصاد سينكمش بالتأكيد ولكن يبقى التساؤل عن احتمال حدوث ركود من عدمه".
وبالفعل لامس السوق الأمريكي ومؤشر "ستاندرد آند بورز 500" مرحلة سوق الدببة بتسجيله أقل من 4900 نقطة يوم الإثنين، بما يؤشر لانخفاضه بنسبة تفوق 21% عن مستواه منتصف فبراير الماضي.
مخاوف الكساد حقيقية
ولهذا الأمر انعكاسه بالطبع على مستويات الإنفاق والاستثمار في البلاد، حتى مع بعض الارتداد في أسعار الأسهم مع سيادة محاولة المضاربة على الأسهم الهابطة، غير أن الوضع الحالي ذكر بما حدث عام 1929 إبان الكساد الكبير بانخفاض السوق أولاً بنسبة 20% في يومين فقط قبل أن يفقد السوق 50% من قيمة مؤشره في 3 أسابيع فحسب.
والشاهد أن أهم اختلاف عن فترة الكساد الكبير والمرحلة الحالية، بما يحول -حتى الآن- دون انحدار الأسهم في رحلة سقوط حر بلا ضوابط أن نسبة أكبر كثيرًا من الأسهم مملوكة حاليًا لشركات إدارة أصول وكيانات ضخمة، وغالبيتها لا تشارك في البيع في المرحلة الحالية حتى لا تخسر مليارات وربما عشرات أو مئات المليارات، ولكن يبقى الأمر رهينة بتقديرات تلك الكيانات لاحتمالات صعود السوق مجددًا من عدمه.
واللافت في كلام "ديمون" هو تأكيده -والذي لم يثر اهتمام كثيرين على أهميته- أنه أيًا كان التأثير قصير المدى وحدته على الاقتصاد الأمريكي فإن التأثير طويل المدى سيكون أشد وقال "إن"المكانة الاستثنائية لأمريكا في العالم مبنية على قوة اقتصادها، ولكن الرسوم الجمركية وسياسة ترامب الخارجية "أمريكا أولاً" قد تُقوّض مكانة الولايات المتحدة المميزة في العالم".
ويؤيد "ديمون" بذلك الطرح القاضي بأن التأثير الأشد على أمريكا هو تقويض الثقة فيها كأهم ملجأ للاستثمارات في العالم، فضلًا عن ثقة الحلفاء، وهو ما يبدو ظاهرًا من تحليل لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية يشير إلى أنه لم يكن من المتصور تحت أي بند أن تقف الصين واليابان وكوريا الجنوبية متحدين اقتصاديًا، كما حدث بعد رسوم ترامب التي أدت للقاءات بين مسؤولي الدول الثلاث للتنسيق الاقتصادي بينهم.
وفي هذا الإطار يمكن أن نضم تصريحات "لاري فلينك" مدير "بلاك روك" صندوق الأصول الأكبر عالميًا بأن غالبية المديرين التنفيذيين الذين تحدث معهم يرون أن الولايات المتحدة دخلت بالفعل في مرحلة ركود، وأنه لا يستبعد انخفاض السوق بـ20% أخرى.
وخطورة تصريحات "فينك" أنها تأتي بعد أخرى حذر فيها من تراجع مكانة الدولار كعملة عالمية لحساب العملات الرقمية والعملات الرئيسية الأخرى والذهب، ولا سيما في ظل تنامي ديون الولايات المتحدة حتى بلغت 35 ترليون دولار (واقعيًا تخطى الرقم 36 تريليون دولار ولكن فينك أشار إليه بالرقم السابق)، بما يجعل تأثير الثقة في الدولار مضاعفًا مع احتدام الحروب التجارية.
التضخم سيحدث ولكن إلى أي مدى؟
ولا شك أن الرسوم ستفرض تضخمًا عالميًا في الأسعار، خصوصاً على السلع التي يتم إنتاجها في أكثر من دولة، فمن المتوقع مثًلًا أن تؤدي الرسوم الجمركية الأمريكية إلى رفع تكلفة إنتاج منتجات "أبل" المختلفة بين 39% إلى 43% وقد تؤدي لارتفاع سعر "أيفون 16 برو" من 1600 دولار إلى 2300 دولار، وإن كان من المتوقع حدوث مثل هذا الارتفاع بشكل تدريجي، وتأثر أمريكا بالارتفاع في التكلفة بصورة أكبر.
يشكل "الآيفون" حالة استثنائية إلى حد بعيد فلن تكون تكلفة الإنتاج متضررة بهذا الشكل، ولكن في سيناريو يفرض فيه الاتحاد الأوروبي عقوبات على الخدمات الرقمية الأمريكية، مثلما هددت فرنسا، وتستهدف فيه كندا أمريكا بمنع الطاقة، وتمتنع فيه الصين عن استيراد السلع الأمريكية الأساسية فإن التضخم سيصبح حقيقة واقعة عالميًا، وستتضرر منه بقية دول العالم حتى غير المشاركة في الحرب التجارية.
فالشاهد أن تغير سلاسل التوريد إبان أزمة كورونا كان له أثر كبير على زيادة أسعار العديد من السلع، ولا سيما مع ارتفاع أسعار خدمات الشحن بنسب قاربت 2000% في بعض الحالات، وأزمة الحاويات وتأخر المواد الأولية وغيرها، وهذه المرة قد يكون التأثير أشد وطأة لأنه قد يكون مستدامًا وليس مؤقتًا كحال أزمة كورونا.
ويجب ملاحظة إعلان العديد من المسؤولين الأمريكيين -وعلى رأسهم ترامب نفسه- عن الدخول في مفاوضات مع العديد من الدول لحلحلة مسألة الرسوم الجمركية، مع استثناء الصين، ولكن رد الفعل بأول العروض من جانب الاتحاد الأوروبي برفع الرسوم الجمركية عن المنتجات الصناعية بين أمريكا والاتحاد الأوروبي جاء بالتحفظ أمريكيًا.
ويمكن أن يؤدي طول هذه المفاوضات وتعقدها إلى خلق "جزر منفصلة" في الاقتصاد العالمي، وعمل تحالفات تجارية واقتصادية تزيد تعقيد المشهد عالميًا بدل من حلحلته، وقد تكون بعض الدول ذات العلاقات الجيدة "مع الجميع" هي المستفيدة بمرور نسبة كبيرة من التجارة عبرها، لكن ذلك كله يبقى رهينة بطبيعة التعقيدات التي ستظهر مستقبلًا.
التأثيرات على الأصول
أما الأصول فلا يمكن ضرب مثل أوضح من تقلبات الذهب، فعلى الرغم من ارتفاعه موافقًا للتوقعات "المنطقية" ليبلغ مستوى يفوق 3160 دولاراً للأونصة يوم 3 أبريل، وذلك ترقبًا وتخوفًا من الركود المحتمل في الأسواق العالمية وآثاره السلبية على الأسهم والسندات، إلا أنه سرعان ما انحدر إلى مستوى دون 3 آلاف دولار بعدها بأربعة أيام فحسب –منها يومان عطلة نهاية الأسبوع.
وكان السبب وراء ذلك سعي بعض المضاربين "لجني الأرباح"، واضطرار البعض للبيع لتغطية مراكز مالية مكشوفة في أسواق الأسهم.
ونفس ما حدث للذهب ظهر في أسواق الأسهم والسندات على هيئة جلسات صاخبة بها أحجام تداول قياسية في غالبية البورصات -يوم الإثنين سجلت بورصة هونج كونج وتايبيه وغالبية البورصات الآسيوية أحجام تداول قياسية- وبسبب حجم التداول القياسي ورهانات المكسب السريع للمضاربين، فإن السوق تشهد تناقضات بين جلسات التداول بل وفي الجلسة نفسها.
ويبقى التقلب في هذه الأيام المحدودة مثالًا غالبًا ما سيتكرر في الفترات المقبلة بشكل ستتفاوت حدته، حيث غالبًا ما ستصعد الأصول وتتراجع بشكل سريع ومتكرر، ولكن غالبًا مع سيادة اتجاه عام صاعد للأصول الأكثر أمنًا مثل الذهب، وآخر هابط للأسهم والأصول المغامرة مثل "البيتكوين"، وذلك على الأقل حتى تضع الحرب التجارية أوزارها ويتضح نطاقها بشكل واضح تمامًا وحينها "قد" تنعكس تلك المعادلة.
ويمكن القول إن الاقتصاد العالمي أمام أكثر من سيناريو يحدد مدى الضرر الذي سيتعرض له:
- خوض مفاوضات "سريعة" تظهر نتائجها في اتفاقات واضحة و"ناجزة"، بم سيجعل التأثير على التجارة والنمو والأسواق العالمية في حده الأدنى.
- تأخر تلك المفاوضات أو حتى تعقدها بسبب الدخول في مرحلة من التصعيد المتبادل بين الدول، بما سيعمق من التأثيرات على الاقتصاد والأسواق ويجعله أطول زمنيًا.
- الوصول لخيارات "صفرية" مثل استخدام الصين لورقة الديون الأمريكية أو منع تصدير المعادن الأرضية أو انهيارات كبيرة في الاقتصادات والأسواق وتعطل شبه تام لكافة سلاسل التوريد وسيادة تضخم عالمي كبير للغاية عالميًا بما يصاحبه من احتمال حدوث اضطرابات سياسية واجتماعية في بعض الدول الهشة اقتصادياً.
وبغض النظر عن أي السيناريوهات سيحدث -أو حتى سيناريو يدمج بين اثنين منهما-ولكن المؤكد أن التجارة العالمية ستتأثر وكذلك قيم الأصول والنمو العالمي، وأنه على الجميع، مستثمرين ومستهلكين، دراسة قراراتهم بشكل أفضل كثيرًا لأن الكثير من الأمور أصبحت على المحك.
المصادر: أرقام- فورين بوليسي- رويترز- فوربس- نيويورك بوست- "سي.إن.بي.سي"
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}

تحليل التعليقات: