نهب العالم .. الأيادي (البيضاء) لصندوق النقد على الساحة العالمية كما يرصدها ذوو العيون الزرقاء
لا توجد أي مؤسسة مالية على ظهر الأرض أثرت في حياة غالبية سكان العالم بشكل أعمق مما فعله صندوق النقد الدولي (IMF) على مدار العقود الخمسة المنصرمة.
خلال الخمسين عاما الماضية كان الصندوق هو أكثر المؤسسات المالية تأثيرًا في حياة أعداد كبيرة من الناس. كما وسّع دائرة نفوذه لتمتد إلى أقصى أنحاء الكوكب، ويبلغ عدد أعضائه اليوم 188 دولة موزعة على 5 قارات.
منذ تأسيسه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، تركز النشاط الرئيسي للصندوق في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، وهي القارات التي لا يوجد بها تقريبًا أي بلد لم تخضع حكومته مرة أو مرات عديدة لسياسات الصندوق.
رسميًا، تكمن الوظيفة الأساسية للصندوق في العمل على استقرار النظام المالي، ومساعدة البلدان المضطربة اقتصاديًا على التغلب على مشاكلها. غير أن تدخلات هذه المؤسسة تبدو في الواقع أقرب بكثير لكونها غزوات جيوش منها إلى أي شيء آخر.
في كل تدخلاته تقريبًا، انتهك الصندوق سيادة الدول وأجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى من المواطنين التي لم تخلف لها سياسات الصندوق سوى قدر معتبر من الخراب الاقتصادي والاجتماعي.
يفعل ذلك دون أسلحة أو جنود، كل ما في الأمر أنه حينما يتعرض أحد البلدان لمشاكل مالية، يتقدم الصندوق عارضًا مساعدته وإنقاذه من خلال إعطائه قروضا. وفي المقابل يطلب من البلد المتأزم اقتصاديًا تنفييذ إجراءات تضمن قدرته على سداد هذه القروض. والكارثة تكمن في هذه الشروط.
حكومات البلدان المأزومة تجد نفسها مطالبة بتنفيذ برامج تقشفية لا نهاية لها ولا آخر. أما البسطاء من مواطني هذه الدول، فيخسر الملايين منهم فرص عملهم ويصبحون محرومين من رعاية صحية فعّالة ونظام تعليمي ملائم أو سكن يراعي كرامتهم.
جميع حكومات البلدان التي تجلس طريحة أمام طبيبها المزعوم (صندوق النقد) تتصرف وفق نهج لا اختلاف فيه تقريبًا وهو: الجماهير العاملة وفقراء المواطنين وحدهم من يتحمل تبعات برامج التقشف المالي.
وفي هذا التقرير سنتناول الأيادي (البيضاء) للصندوق في الأزمة المالية الآسيوية (1997) كما استعرضه الصحفي والكاتب الألماني "أرنست وولف" في كتابه "نهب العالم: التاريخ وسياسات صندوق النقد الدولي" الصادر في عام 2014 باللغة الألمانية والمترجم إلى عدة لغات.
زراعة أسباب الأزمة المالية الآسيوية.. لا ضابط ولا رابط
في الستينيات سجلت الاقتصادات الآسيوية أعلى معدلات نمو اقتصادي على مستوى العالم، وهو ما أتاح للمستثمرين الدوليين فرصا استثمارية مربحة، على خلفية التحول المتسارع للأسواق المالية مهرولة نحو العولمة.
استمر الوضع على هذه الحال حتى مطلع التسعينيات، حين مارس صندوق النقد ومن ورائه وزارة الخزانة الأمريكية ضغوطًا قوية على دول هذه المنطقة لدفعها إلى تسهيل حركة رأس المال الأجنبي في أسواقها دون عوائق.
باختصار كان المراد هو أن يتم السماح للمستثمر الأجنبي بأن يدخل ويجني الأرباح في دول الإقليم ويخرج متى أراد دون أي ضوابط تحكم هذه العملية أو تضمن استفادة هذه الدول ومواطنيها من هذه الأموال، أو حتى تحول دون تعرض اقتصادات المنطقة لهزة إذا اتفق هؤلاء على الخروج مرة واحدة.
نجح الصندوق في دفع حكومات دول المنطقة إلى تنفيذ عملية تحرير اقتصادي تسببت لاحقًا في بلوغ الحجم الكلي لقروض البنوك الأجنبية في إندونيسيا وكوريا الجنوبية وماليزيا والفلبين فقط أكثر من 260 مليار دولار حتى نهاية عام 1996.
ما يصل إلى 67% من هذه القروض كانت عبارة عن قروض قصيرة الأجل، لم تستثمر في الاقتصاد الحقيقي، بل جرى استثمارها كنقود أو أموال ساخنة في شراء أسهم وعقارات، وأي شيء يمكنه أن يولد ربحا أعلى في أسرع وقت ممكن.
تسبب هذا النهج في ارتفاعات جنونية لأسعار العقارات، والمصارف الآسيوية من جهتها إما لم تنتبه أو تغافلت عن الأزمة التي تلوح في الأفق ورأت في الارتفاعات الكبيرة لأسعار العقارات فرصة تستطيع استغلالها عبر منح قروض جديدة مضمونة بالعقارات.
رغم الخطورة الكبيرة التي تكتنف هذا النهج، لم يعر المستثمرون الأجانب (صناديق المعاشات التقاعدية الأمريكية ومضاربو العملة في وول ستريت) الموضوع أي أهمية، وذلك لأنهم من ناحية يجنون أرباحًا ضخمة بفضل معدلات الفائدة العالية المفروضة على الاستثمارات عالية المخاطر، ومن ناحية أخرى لأنه إن حدث وانهدم المعبد، فلن ينهدم سوى فوق رؤوس البنوك الآسيوية.
صندوق النقد من جهته لم يعتقد أن التحذير من المخاطر القائمة جزء من مسؤوليته، بل على العكس، ظل يساند هذا النهج حتى بعدما لاحت الكارثة في الأفق. في بيان نشره الصندوق في 21 سبتمبر/أيلول 1997 ورد الآتي: "إن تدفق رؤوس الأموال الخاصة أضحى عظيم الشأن بالنسبة للنظام النقدي الدولي، كما أن النظام الليبرالي منفتح الأبواب بنحو متصاعد، أثبت أنه الأفضل بالنسبة للاقتصاد العالمي".
المستثمرون الأجانب لا يحمون ظهر أحد على الإطلاق
لم يستغرق الأمر طويلًا قبل أن تتلاحق الأحداث على نحو متسارع، لتنفجر فقاعة العقارات، ويتم خفض قيمة البات التايلندي (الذي كان يراهن ضده "جورج سوروس") عدة مرات، وسحب المستثمرون الأجانب رؤوس أموالهم التي ما دخلت هناك إلا بحثًا عن أسرع وأكبر ربح ممكن.
سرعان ما انتقلت عدوى الوضع المضطرب إلى دول أخرى، فغادرتها رؤوس الأموال الأجنبية بنسب ومقادير لا سابق لها في التاريخ. وخلال عدة أسابيع تحطم جزء كبير من النظام المصرفي الآسيوي.
هل تستطيع تخمين ما حدث بعد ذلك؟ بسبب عدم توافر رأس المال الأجنبي الخاص، لم تجد حكومات المنطقة أمامها خيارًا آخر سوى التوجه إلى أعتاب صندوق النقد الدولي وطرق أبوابه، باعتباره الجهة الوحيدة المتبقية القادرة على تزويدهم بالسيولة.
ما حدث بعد ذلك هو سيناريو نفذه الصندوق عشرات المرات مع مثل هذه الحالات. ببساطة، أعلنت الدول الراغبة في الحصول على الائتمان عن استعدادها التام لتقديم التنازلات المطلوبة في "خطاب حسن نوايا" كان قد جرى الاتفاق عليه مسبقًا مع ممثلي الصندوق.
لكن ما أهمية هذا الإجراء الذي يبدو شكليًا إلى حد كبير؟ باختصار المقصود من هذا الإعلان هو التمويه على الرأي العام في البلدان المعنية والزعم بأن الإجراءات المزمع تنفيذها لم يفرضها الصندوق، وإنما تم اقتراحها من قبل حكومات هذه البلدان، والصندوق من جهته "تقبلها" طواعية.
تايلاند، كانت هي أول دولة من الدول المتأزمة تبدأ في تنفيذ إجراءات الصندوق. في ديسمبر/كانون الأول 1997، طلبت تايلاند قرضًا من الصندوق وأعلنت في المقابل التزامها بمنح خدمة الدين الأجنبي الأولوية على أي شيء آخر، وعن موافقتها على تسريح 30 ألفا من العاملين بالحكومة، وتصفية 56 مؤسسة مالية مفلسة، وخفض الإنفاق الحكومي.
لحقت بها إندونيسيا، والتي أعلنت عن إصرارها على ضبط الموازنة الحكومية بأي شكل، وتصفية 16 بنكا، ورفع معدل الفائدة على رأس المال الأجنبي إلى 80%، من أجل جذب المستثمرين الدوليين ثانية.
الطريف هو أن هذه الإجراءات لم تسهم في تحقيق الاستقرار بالاقتصادات المتأزمة، بل على العكس، زادت الوضع تعقيدا وتدهورا، وأدت إلى انزلاق أقدام هذه البلدان إلى مستنقع كساد خطير، لتتحول الأزمة المالية إلى أزمة اقتصادية خطيرة مترامية الأبعاد.
عمليات التصفية واسعة النطاق التي قامت بها حكومات هذه البلدان والتي شملت الكثير من المشاريع، أدت إلى وقوع قطاعات اقتصادية في غاية الأهمية من الناحية الإستراتيجية في أيدي المستثمرين الأجانب بأثمان بخسة.
بعدما تحملت قطاعات واسعة من السكان وطأة التخفيضات المتكررة لسعر صرف العملة الوطنية، وخسارتهم لنصف قوتهم الشرائية، دخل هؤلاء في صراع مرير من أجل البقاء والنجاة بحياتهم فقط.
كيف عرقلت أمريكا محاولة اليابان إنقاذ نفسها وجيرانها؟
كوريا الجنوبية كانت أكثر الدول تأثرا بالأزمة الآسيوية. فخلافًا لكل الدول الصاعدة التي أخضعها الصندوق لبرامج التكيف الهيكلي، كان الحال مختلفًا مع كوريا الجنوبية لأنها دولة صناعية متقدمة – تحديدًا في صناعتي السيارات والإلكترونيات – ومنافس قوي للولايات المتحدة في العديد من المجالات الصناعية.
كان الاقتصاد الكوري الجنوبي قد حقق تطورا مذهلًا، ففي خلال أقل من 4 عقود، ارتقت البلاد من دولة زراعية منكفئة على نفسها إلى دولة تحتل المرتبة الحادية عشرة في قائمة أكبر الاقتصادات بالعالم.
خلال الفترة التي سبقت اندلاع الأزمة كان معدل النمو الاقتصادي يبلغ 7%، بينما كان معدل البطالة مستقرا أدنى الـ3%، وكانت معدلات الصرف الأجنبي مستقرة جدا بفضل معدل تضخم يبلغ 5%، وميزانية حكومية تحقق بشكل دوري فائضًا معتبرًا.
بدأت الأزمة في مطلع التسعينيات حين استجابت البلاد لطلب صندوق النقد الدولي والإدارة الأمريكية بشكل خاص، بتسهيل الاقتراض من مصادر أجنبية أمام البنوك ومؤسسات الائتمان الوطنية. أدى هذا الإجراء إلى ارتفاع القروض الأجنبية للبلاد من 44 مليار دولار في عام 1993 إلى 120 مليار دولار في سبتمبر/أيلول من العام 1997. زيادة قدرها 76 مليار دولار في 4 سنوات فقط.
اليابانيون من جانبهم حاولوا إنقاذ أنفسهم وجيرانهم الآسيويين من الكارثة التي تلوح في الأفق، ولكنهم اصطدموا بمعارضة الأمريكيين. في سبتمبر/أيلول 1997، اقترحت الحكومة اليابانية في اجتماع ضم وزراء مالية آسيويين إنشاء "صندوق نقد آسيوي"، وذلك بسبب خوفها على مصير مصارف يابانية كانت قد أقرضت كوريا الجنوبية حوالي 25 مليار دولار.
كان المقترح يتضمن وصول رأس مال الصندوق إلى 100 مليار دولار تدفعه أطراف آسيوية مختلفة، من بينها اليابان والصين وتايوان وهونج كونج، وكانت شروطه أقل صرامة من الشروط التي يفرضها صندوق النقد الدولي.
لكن للأسف لم ير هذا المقترح النور أبدًا بسبب معارضته من جانب وزارة الخزانة الأمريكية بشكل قاطع، والتي رفضت حتى السماح بمناقشة الفكرة، لأنها اعتقدت أن اتفاقيات من هذا القبيل تضر بمصالح بنوك ومؤسسات أمريكية مختلفة.
بعد شهرين فقط من تقديم اليابان لهذا المقترح، انتقلت شرارة الأزمة إلى كوريا الجنوبية، وانهارت بورصة سول، وفجأة تكالب المضاربون من جميع أنحاء العالم للمضاربة في العملة والاستفادة من تدهور سعر الوون الكوري الجنوبي.
"يتيم بفضل صندوق النقد الدولي"
المركزي الكوري حاول يائساً الوقوف في وجه أنشطة المضاربة المتهورة، غير أن جهوده باءت بالفشل، حيث كانت كامل احتياطياته من النقد الأجنبي لا تكفي للدفاع عن سعر صرف العملة الوطنية وصد المضاربين الدوليين.
على الجانب الآخر، سيطر الفزع على المستثمرين الأجانب، فهربوا برؤوس أموالهم، قافزين من السفينة قبل غرقها، ولم تجد الحكومة أمامها أي خيار سوى طلب المساعدة من صندوق النقد ومناشدته الموافقة على منحها ائتمانًا بقيمة 20 مليار دولار.
توصل الجانبان إلى اتفاق في 5 ديسمبر/كانون الأول 1997، ولكنه لم ينجح لأسباب مختلفة، ولكن في نهاية عام 1998 وفي شروط أبعد ما تكون عن التسوية المعقولة أو الحل الوسط، أصر الصندوق على أن تتعهد الحكومة خطيًا بالسماح للأجانب بالاستحواذ على 100% من رأسمال الشركات الكورية مقارنة مع 26% فقط في السابق. وصار سوق الأسهم الكوري مفتوحًا بالكامل أمام رأس المال الأجنبي.
في الوقت نفسه، حظر الصندوق على البنك المركزي للبلاد التدخل لإنقاذ وتمويل المشاريع والشركات والبنوك الكورية المتعثرة. وفي المقابل، صار من حق البنوك والمؤسسات المالية الأجنبية ابتداء من مارس/آذار 1998 المشاركة في ملكية المؤسسات المالية الكورية دون قيد أو شرط.
بعد تعهد الكوريين بالالتزام بالتنفيذ الحرفي لبرنامج التكيف الهيكلي الذي ضم ما يزيد على 100 شرط، وافق الصندوق على منح البلاد قرضًا بلغت قيمته الإجمالية 58.4 مليار دولار، ساهم فيها الصندوق بـ21.2 مليار دولار، وشارك البنك الدولي وبنك التنمية الآسيوي معا بما يساوي 14.2 مليار دولار، بينما تكفلت الإدارة الأمريكية والحكومة اليابانية والاتحاد الأوروبي بحوالي 23.1 مليار دولار.
تعرض الاقتصاد الكوري لهزة عنيفة، وأزيلت كافة العوائق التجارية أمام أنشطة الاستيراد، وواجهت الشركات الكورية العملاقة صعوبات مختلفة نتيجة سعيها لاقتراض أموال تحتاج إليها، وصارت تقدم لها نصائح وتوصيات بضرورة الدخول في تحالفات إستراتيجية مع شركات أجنبية. باختصار تم تركيع المشاريع الكورية العملاقة أمام رأس المال الأجنبي.
في النصف الأول من عام 1998، انهارت 14 شركة من أصل 30 شركة كورية عملاقة، واضطرت آلاف المشاريع الصغيرة والمتوسطة إلى تصفية أعمالها. وفي ظاهرة لم تكن معروفة في المجتمع الكوري الجنوبي حتى ذلك الوقت، بدأ التسريح الجماهيري للأيدي العاملة، وارتفع معدل البطالة إلى 8.6% في نهاية عام 1998.
بداية من منتصف عام 1998، هجمت الشركات والبنوك الأجنبية على قطاع الأعمال الكوري الجنوبي.
شركات مثل "جنرال موتورز" و"فورد" و"رينو" و"شل"و"باسف" و"جولدمان ساكس" لم تكتف بشراء حصص في المشاريع الكورية أو الاستحواذ عليه بالكامل، بل استغلت أيضا ما تمر به البلاد وتعمدت الاستفادة من قوانين العمل الجديدة التي تسلب العمال أغلب حقوقهم.
كل يوم كانت الشركات الكورية تسرح 8 آلاف عامل في المتوسط، وأولياء الأمور الذين كانوا غير قادرين على إطعام أطفالهم، لم يجدوا أمامهم خيارا آخر سوى إيداعهم في بيوت الأيتام الحكومية، ومن هنا ظهرت العبارة التي يتداولها الكوريون منذ ذلك الحين وهي "고아 IMF"أي "يتيم بفضل صندوق النقد الدولي".
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}