"إن الرأسمالي على استعداد ليبيعك الحبل الذي تنوي أن تشنقه به".. عبارة منسوبة لقائد الثورة البلشفية ومؤسس الحزب الشيوعي السوفييتي "فلاديمير لينين". وعلى الرغم من أنها تبدو مجرد عبارة ساخرة أطلقها مناهض عتيد للرأسمالية إلا أنه يظل لها بعض الوجاهة. ففي كثير من الأحيان يخترع الرأسماليون التكنولوجيا التي تدمر أعمالهم الخاصة.
وربما أبرز مثال على ذلك هو حالة "إيستمان كوداك"، شركة مواد وأدوات التصوير الأمريكية التي كانت تسيطر في عام 1976 على 90% من سوق الأفلام الفوتوغرافية و85% من مبيعات الكاميرات في أمريكا. حتى التسعينيات، كان يتم تصنيف الشركة بانتظام باعتبارها أحد العلامات التجارية الخمس الأكثر قيمة في العالم.
لكن فجأة ظهر التصوير الرقمي -الذي شاركت "كوداك" في تطويره في بداياته- ليحل محل الأفلام الفوتوغرافية، وظهرت بعده الجوالات الذكية التي بدأت تحل محل الكاميرات. وأمام هذه التطورات وقفت "كوداك" مكتوفة الأيدي لا تفعل شيئًا متمسكة بنموذج أعمالها الذي رفضت تطويره. ولم يمض الكثير من الوقت قبل أن تصبح "كوداك" جزءًا من التاريخ، بعد تدهور أحوالها عقب سيطرة منافسين جدد على السوق الذي تغير وجهه تماماً.
ومنذ ذلك الحين يضرب المثل بـ"كوداك" عند الحديث عن الجمود والفشل الاستراتيجي في تبني التكنولوجيا الجديدة أو الابتكارات المزعزعة التي قد تغير وجه صناعات بأكملها في فترة تقل عن عقد من الزمن.
وهذا ما فعله رجل الأعمال البريطاني "أنتوني جنكيز" الذي أشار إلى الصعود السريع الذي شهدته تطبيقات وشركات التقنية المالية أو الـ"فنتك" باعتباره "لحظة كوداك" بالنسبة للبنوك والتي أصبح لزامًا عليها التكيف مع التحولات التي تحدثها هذه الشركات الناشئة في أساسيات قطاع الخدمات المالية.
من رحم الأزمة
في عام 2008 بدأت شركات الـ"فنتك" في شق طريقها في خضم بحر من الذعر والكآبة بسبب الأزمة المالية العالمية التي اندلعت في الولايات المتحدة. ولكنها رغم ذلك حرصت على استغلال كل الفرص الممكنة للظهور على الساحة حتى تلك التي لم يبدُ أن لها عائدا استثماريا مغريا أو لم تكن متوافقة بشكل كامل مع المتطلبات التنظيمية في ذلك الوقت.
ومنذ اللحظة الأولى حرصت تلك الشركات على تعديل نماذج أعمالها باستمرار لجعلها أكثر إبداعاً وأكثر قدرة على تلبية احتياجات العملاء. هذا النهج جعل العميل يشعر أخيراً أن بإمكانه الحصول على الخدمة التي يحتاجها بطريقة أكثر كفاءة وفاعلية ودون بذل مجهود كبير.
في البداية كان المجتمع الاستثماري ينظر نظرة متشككة إلى شركات الـ"فنتك" الناشئة، ولم يكن هناك كثيرون يؤمنون بالإمكانات المستقبلية لمجال التقنية المالية وقدرته على إحداث اختراق كبير بصناعة الخدمات المالية التقليدية. ولكن بفضل قصص النجاح التي سطرتها العديد من شركات الـ"فنتك" الناشئة والتي تجاوزت القيمة السوقية لبعضها حاجز المليار دولار، بدأ اندفاع كبير من المستثمرين تجاه الاستثمار بالمجال.
في غضون خمس سنوات بدأت مجموعة من شركات الـ"فنتك" الناشئة في زعزعة قوى السوق عبر تقديم خدمات وحلول من شأنها جعل العميل ينجز بسهولة وسلاسة الكثير من الخدمات المالية التي كان يحصل عليها في السابق من جهات أخرى بشق الأنفس.
هل تقف البنوك الكبرى ساكنة؟
إدراكًا منها للتهديد الذي يشكله الصعود السريع لشركات الـ"فنتك" في السنوات الأخيرة التي يبدو أنها ترغب في كعكة سوق الخدمات المالية بالكامل وليس جزءًا منها بدأت كبرى البنوك حول العالم تولي الكثير من الاهتمام للتقنية المالية. هي ببساطة لا ترغب في أن تقع بنفس الفخ الذي وقعت فيه صناعة السفر التي سيطر عليها حرفيًا مجموعة من مقدمي الخدمة على الإنترنت.
وفي إطار سعيها لمجاراة التطور الحاصل، بدأ عدد كبير من المؤسسات المالية وغير المالية الكبرى في الاستحواذ على الكثير من شركات الـ"فنتك" الواعدة. وبشكل عام، أصبح هناك اندفاع كبير من قبل هذه المؤسسات تجاه الحصول على هذه الشركات الناشئة مقابل أي سعر. ولكن في بعض الأحيان لا تتم عمليات الاستحواذ على هذه الشركات بسهولة، خصوصًا إن كان مؤسسوها يؤمنون ويثقون تمامًا في إمكاناتها المستقبلية.
أحد الأساب الرئيسية التي تقف وراء رفض بعض شركات الـ"فنتك" أن تبيع نفسها هي تفضيلها لجمع المال من المستثمرين، والذي تستخدمه في تطوير وتوسعة أعمالها ونقلها إلى المستوى التالي بدلاً من أن يستحوذ عليها بالكامل من قبل أي مؤسسة كبيرة، وبالتالي تصبح مجرد شركة تابعة ليس لديها الكثير من السيطرة على مستقبلها وخططها.
من جانبها، سرعان ما أدركت المؤسسات المالية الكبرى أن المشاركة في تمويل شركات الـ"فنتك" الناشئة في مراحلها المبكرة كمستثمرين من خلال صناديق رأس المال المغامر ربما أفضل من القيام بعملية استحواذ مكلفة وصعبة عليها في المستقبل.
"ملعون إن فعلت، ملعون إن لم تفعل"
هناك نهج ثالث تتبعه بعض البنوك والمؤسسات المالية الكبرى وهو الدخول في شراكة مع شركات الـ"فنتك" الناشئة بدلًا من محاولة تمويلها أو الاستحواذ عليها. وتتمثل الشراكة عادة في إتاحة البنك أو المؤسسة المالية لشركة الـ"فنتك" إمكانية الوصول إلى العملاء وتقديم منتجها كمنتج مشترك تقدمه الشركتان.
يعد مختبر "فنتك إنفنشن لاب" المؤسس من قبل شركة الاستشارات "أكسنتشر" بالتعاون مع الذراع الاستثمارية لمدينة نيويورك مثالاً واضحًا على مثل هذه الشراكات بين المؤسسات الكبرى وشركات الـ"فنتك". حيث يضم هذا المختبر العديد من شركات الخدمات المالية الرائدة في العالم التي تساعد شركات الـ"فنتك" المقبولة في المختبر على النمو وتوسعة نطاق خدماتها.
هذه المؤسسات تتتسابق على الشراكة مع شركات الـ"فنتك" الصاعدة رغم علمها بأن منتجات هذه الشركات قد تهدد نموذج أعمالها الحالي لأنها ببساطة تدرك أن هذه التقنية ماضية على أي حال والمستقبل لها، ومن الأفضل لها أن تكون جزءاً من الحراك بدلاً من معاندته والتخلف عنه.
"ملعون إن فعلت، ملعون إن لم تفعل".. هذا المثل الأمريكي ربما هو أفضل ما يعبر عن حال البنوك والمؤسسات المالية الكبرى التي تجد نفسها مضطرة لدعم وتبني تقنيات الـ"فنتك" رغم تأثيرها السلبي على نموذج أعمالها التقليدي الذي استثمرت مليارات في بنائه، وذلك لعدم رغبتها في أن يتخطاها الزمن قريبًا وتصبح جزءًا من الماضي إن لم تفعل.
المصادر: أرقام – FinTech Innovation Lab – كتاب Bank 4.0: Banking Everywhere, Never at a Bank – كتاب: FinTech: The Technology Driving Disruption in the Financial Services Industry
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}