الأرقام لا تكذب .. كيف تكشف "النسب المالية" تلاعب الشركة ببياناتها؟
هل خطر لك يومًا أن سوق الأسهم ما هو إلا صورة مصغّرة من الحياة؟ فالحياة ساحة حرب كبيرة يخضع فيها كل شيء لموازين القوة، وهو ما يضمن المعاناة للضعيف وقليل الحيلة، وفي الحقيقة لا يوجد وصف أدق من ذلك لسوق الأسهم، والذي لا يخلو من أناس يستترون بالكذب ويتعاملون بالخداع، وآخرون يصدقون الكذب وينخدعون.
وأمام تلك المعضلة يقف كثير من الناس في سوق الأسهم حائرين بين تطرفين؛ إما تعلّم الكذب والخداع من أجل الوصول إلى مبتغاهم في السوق، وإما الانعزال تمامًا وتجنب اللعبة برمتها والخروج من السوق، ولكن الحل ليس في هذا ولا في ذاك، بل في امتلاك الواحد منا لقدر معقول من المكر المحبب إلى النفس والذكاء والمراوغة والحيلة.
المطلوب منك ببساطة هو أن تفهم عقلية المخادع وتتعامل معه ليس بأسلوبه وإنما بحنكة لا بسذاجة لأن هذا من صفات المؤمن، ولا عجب أن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُي خدعني"، أي أنه ليس مخادعًا، لكن في ذات الوقت فإن المخادع ليس باستطاعته خداعه.
كل ما سبق لم يكن سوى مقدمة لموضوع التقرير التالي والذي نحاول خلاله لفت نظر المستثمر إلى أهمية التدقيق فيما ينظر إليه ولا يراه في البيانات المالية للشركات، حتى يحمي نفسه بقدر الإمكان من تصرفات عديمي الضمير الذين لا يتورعون عن التلاعب بالبيانات المالية للشركات، وهي الممارسة التي تنتهي دائمًا بكارثة تحل فوق رؤوس المساهمين.
في أي حالة تلاعب أو احتيال سمعت عنها في سوق الأسهم، تأكد أن كل الأدلة التي كانت مطلوبة لاكتشاف الأمر كانت شاخصة أمام أعين الجميع بمن في ذلك المستثمرون والمحللون، ولكنهم رغم ذكائهم فشلوا في اكتشافها قبل فوات الآوان لأنهم اعتمدوا فقط على الفحص السطحي ولم تكن لديهم أي منهجية في إجراءاتهم بخلاف المنهج اللحظي.
باختصار، إن المستثمر الذكي ينبغي أن ينتهج نهجًا تشككيًا أثناء فحصه البيانات المالية للشركات بحثًا عن أي ثغرة قد تشير إلى أن ثمة تلاعبًا ما من قبل الإدارة.
تحليل النسب.. الفيل في الغرفة
تحليل النسب المالية هو بالأساس وسيلة لقياس العلاقة بين بندين مختلفين من بنود القوائم المالية ومقارنتهما مع نظرائهما، الشائع بين الناس هو أن النسب المالية تستخدم بشكل أساسي في المفاضلة بين الشركات وبعضها، ولكن ما لا يعرفه كثيرون هو أن النسب المالية من الممكن أن تكون مفيدة للغاية في تسليط الضوء على المشاكل المحتملة في القوائم المالية التي قد تعتبر إشارة على وقوع نشاط احتيالي.
ولكن كما هو الحال في جميع أساليب التحليل الأخرى، لا تعد التغيرات الغريبة التي تشهدها النسب الرئيسية للشركة في حد ذاتها دليلًا على الاحتيال؛ إذ يمكن أن تفسر التقلبات التي يشهدها النشاط التجاري للشركة تلك التغيرات، ولكن عندما يتم الكشف عن تغير ما لافت للنظر في إحدى النسب المالية، من المهم أن يتعقب المستثمر الأمر ليقف على ما إذا كان هناك ما يفسّر هذا التغير الغريب أم أن هناك نشاطًا مريبًا.
على سبيل المثال، قد يكون الانخفاض الكبير الذي تشهده نسبة التداول ناتجًا عن زيادة في الخصوم المتداولة أو انخفاض في الأصول المتداولة، وكلاهما يمكن استخدامه في إخفاء الاحتيال، وتشمل النسب المالية المفيدة في اكتشاف الاحتيال كل من:
نسبة التداول ونسبة السيولة السريعة ومعدل دوران الحسابات المستحقة ومتوسط فترة الائتمان ومعدل دوران المخزون ومتوسط فترة الاحتفاظ بالمخزون ونسبة الدين إلى حقوق الملكية.
وبغرض التوضيح، سنضرب مثالًا بالشركة "س" العاملة في قطاع الإسمنت، والتي تبدو ميزانيتها المفترضة على النحو التالي:
ميزانية الشركة "س" في العامين الماليين 2018 و2019 (الأرقام بالمليون ريال) |
||
العام المالي |
2018 |
2019 |
الأصول الجارية: |
|
|
النقدية |
45 |
15 |
الحسابات المستحقة |
150 |
200 |
المخزون |
75 |
150 |
صافي الأصول الثابتة |
60 |
60 |
إجمالي الأصول |
330 |
425 |
الحسابات واجبة الدفع |
95 |
215 |
الديون طويلة الأجل |
60 |
60 |
حقوق الملكية: |
|
|
الأسهم العادية |
25 |
25 |
رأس المال المساهم |
75 |
75 |
الأرباح المحتجزة |
75 |
50 |
إجمالي الخصوم وحقوق الملكية |
330 |
425 |
وفيما يلي قائمة الدخل الخاصة بالشركة:
قائمة دخل الشركة "س" في العامين الماليين 2018 و2019 (الأرقام بالمليون ريال) |
||
صافي المبيعات |
250 |
450 |
تكلفة البضاعة المباعة |
125 |
300 |
هامش الربح الإجمالي |
125 |
150 |
التكاليف التشغيلية: |
|
|
مصاريف بيعية |
50 |
75 |
مصاريف إدارية |
60 |
100 |
صافي الدخل |
15 |
(25) |
معلومات إضافية: |
|
|
متوسط صافي الحسابات المستحقة |
155 |
210 |
متوسط المخزونات |
65 |
130 |
متوسط إجمالي الأصول |
330 |
425 |
تحليل النسب المالية للشركة "س" خلال عامي 2018 و2019 (الأرقام بالمليون ريال) |
|||
النسبة |
طريقة الحساب |
2018 |
2019 |
نسبة التداول |
الأصول المتداولة ÷ الخصوم المتداولة |
270 ÷ 95 = 2.84 |
365 ÷ 215 = 1.70 |
نسبة السيولة السريعة |
(الأصول المتداولة - المخزون) ÷ الخصوم المتداولة |
195 ÷ 95 = 2.05 |
215 ÷ 215 = 1 |
معدل دوران الحسابات المستحقة |
صافي المبيعات ÷ متوسط صافي الحسابات المستحقة |
250 ÷ 155 = 1.61 |
450 ÷ 210 = 2.14 |
متوسط فترة الائتمان |
365 ÷ معدل دوران الحسابات المستحقة |
365 ÷ 1.61 = 226.30 |
365 ÷ 2.14 = 170.33 يوم |
معدل دوران المخزون |
تكلفة البضاعة المباعة ÷ متوسط المخزون |
125 ÷ 65 = 1.92 |
300 ÷ 130 = 2.31 |
متوسط فترة الاحتفاظ بالمخزون |
365 ÷ معدل دوران المخزون |
365 ÷ 1.92 = 189.80 |
365 ÷ 2.31 = 158.17 يوم |
نسبة الدين إلى حقوق الملكية |
إجمالي الخصوم ÷ إجمالي حقوق الملكية |
155 ÷ 175 = 0.89 |
275 ÷ 150 = 1.83 |
تفسير كل نسبة
نسبة التداول: هذه النسبة هي على الأرجح أكثر النسب المالية استخدامًا في التحليل المالي، وتقيس هذه النسبة قدرة الشركة على الوفاء بالتزاماتها الحالية من أصولها السائلة، وكلما كانت الأصول المتداولة أكبر من الخصوم المتداولة كان ذلك أفضل بالنسبة للشركة، لأن هذا يعد دليلًا على قوتها المالية.
أثناء السعي للكشف عن أي احتيال محتمل، يمكن أن تكون هذه النسبة مؤشرًا رئيسيًا على التلاعب بالحسابات. فالاختلاس على سبيل المثال سيؤدي إلى انخفاض النسبة، وفي المقابل سيؤدي إخفاء جزء من الالتزامات إلى زيادة النسبة وجعلها تبدو في صورة أفضل مما هي عليه في الواقع.
بالرجوع إلى الجدول السابق سنلاحظ أن نسبة التداول انخفضت من 2.84 في 2018 إلى 1.70 فقط في عام 2019، وفي حين أن ذلك الانخفاض بحد ذاته لا يعد دليلًا على الاحتيال إلا أنه يجب على المستثمر أن يتحرى ويدقق في هذه الحسابات وينظر إليها بعين الفاحص.
نسبة السيولة السريعة: تختص هذه النسبة بالأصول التي يمكن تصفيتها على الفور، وتعد مقياسًا لقدرة الشركة على تلبية الالتزامات المالية المفاجئة، في الفترات المضطربة اقتصاديًا والتي يسودها عدم اليقين يستخدم المحللون هذه النسبة للتعرف على حالة رأس المال العامل للشركة.
في مثالنا السابق، تشير أرقام الميزانية العمومية إلى أن نسبة السيولة السريعة في عام 2018 تبلغ 2.05، وذلك قبل أن تنخفض في العام التالي إلى 1 فقط، في هذه الحالة قد يكون النشاط الاحتيالي الذي تسبب في تدهور هذه النسبة عبارة عن حسابات وهمية مستحقة تمت إضافتها لتضخيم المبيعات.
معدل دوران الحسابات المستحقة: يتم قياس معدل دوران الحسابات المستحقة من خلال قسمة صافي المبيعات على متوسط الحسابات المستحقة، وتقيس هذه النسبة عدد مرات تسليم الذمم المدينة خلال الفترة المحاسبية. ولحساب هذه النسبة يحتاج المستثمر إلى الاستعانة بأرقام من الميزانية وقائمة الدخل معًا.
في حالة الشركة "س" نلاحظ أن معدل دوران الحسابات المستحقة زاد من 1.61 في عام 2018 إلى 2.14 في العام الذي يليه، في بعض حالات الاحتيال تلجأ الشركات إلى خلق مبيعات وهمية، وهي أموال لن يتم جمعها أبدًا، ونتيجة لذلك سينخفض معدل دوران الحسابات المستحقة.
متوسط فترة الائتمان: تقيس هذه النسبة عدد الأيام اللازمة لتحصيل الحسابات المستحقة، وبشكل عام كلما انخفضت هذه النسبة تم جمع الحسابات المستحقة بشكل أسرع، وقد يستخدم المستثمر أو المحلل هذه النسبة كخطوة أولى في اكتشاف الحسابات المستحقة اليومية.
في العادة تبقى هذه النسبة متسقة من عام لآخر دون أي تغيير يذكر، ولكن التغييرات في سياسات الفوترة أو جهود التحصيل قد تسبب تقلب تلك النسبة، وفي المثال السابق تشير البيانات إلى انخفاض معدل دوران الحسابات المستحقة من 226 يومًا إلى 170 يومًا في العام التالي، وهو ما يعني أن الشركة تقوم بتحصيل مستحقاتها بصورة أسرع في العام الثاني مقارنة مع العام الأول.
معدل دوران المخزون: تقيس هذه النسبة عدد المرات التي يتم فيها بيع المخزون خلال الفترة، ولذلك تعد مؤشرًا جيدًا على كفاءة الإنتاج والمبيعات، بشكل عام، كلما كانت نسبة دوران المخزون أعلى كان ذلك أفضل بالنسبة للشركة، ولكن ليس في كل الأحوال.
على سبيل المثال، إذا زادت تكلفة البضاعة المباعة؛ بسبب سرقة المخزون (وهو ما يؤدي أيضًا إلى انخفاض المخزون النهائي ولكن ليس بسبب المبيعات) سترتفع نسبة معدل دوران المخزون بشكل كبير مما يعطي المستثمر إشارة مضللة حول كفاءة الشركة في إدارة مخزوناتها.
في حالة الشركة "س" زاد معدل دوران المخزون في العام التالي، وهي الزيادة التي يجب أن يتتبع المستثمر الذكي آثارها ليعرف أسبابها، وذلك من خلال النظر في التغيرات التي طرأت على البنود المكونة للنسبة للتعرف على ما إذا كانت طبيعية أم أن وراء الأكمة ما وراءها.
متوسط فترة الاحتفاظ بالمخزون: تقيس هذه النسبة عدد الأيام التي تحتفظ خلالها الشركة بمخزونها، وهي مهمة لعدة أسباب ربما أبرزها أن زيادة مدة الاحتفاظ بالمخزون تؤدي إلى تكبد الشركة نفقات إضافية تشمل على سبيل المثال لا الحصر، تكاليف التخزين ومخاطر تقادم المخزون وانخفاض أسعار المنتج بالسوق.
التباين الكبير في هذه النسبة من عام لآخر يشكّل علامة حمراء يجب أن تستدعي انتباه المستثمرين والمحللين. فمن الممكن مثلًا أن تحاول الشركة تعظيم صافي أرباحها من خلال خفض تكلفة البضاعة المباعة وهو ما سينعكس سلبًا على معدل دوران المخزون وبالتبعية على متوسط فترة الاحتفاظ بالمخزون.
نسبة الدين إلى حقوق الملكية: هذه هي واحدة من أكثر النسب المالية التي تهتم بها البنوك والمؤسسات المالية حين تفكر في إقراض أي شركة، توفر تلك النسبة صورة واضحة للمقارنة بين الديون طويلة وقصيرة الأجل للشركة وكذلك حقوق الملكية.
إلقاء نظرة فاحصة على تكوين هيكل رأس المال الخاص بالشركة والتعرف على ما يملكه الدائنون وما يملكه أصحاب حقوق الملكية هو أمر بالغ الأهمية عند تحليل الوضع المالي للشركة، في المثال الخاص بالشركة "س" يمكن ملاحظة ارتفاع النسبة من 0.89 في عام 2018 إلى 1.83 في عام 2019.
وصاحب هذه الزيادة ارتفاع قيمة الحسابات مستحقة الدفع، هذه التغيرات المفاجئة يجب أن تدفع المستثمر للشك في أمرها، ليبدأ في فحص كل بند من البنود المكونة للنسبة بإمعان.
وفي النهاية ينبغي التأكيد مرة أخرى على أن التغيرات الغريبة التي تطرأ على هذه النسبة ليست دليلًا بحد ذاتها على وقوع الاحتيال، كل ما في الأمر هي أنها مجرد علامات يجب أن تثير انتباه المستثمر الذكي.
للأسف أغلب مستثمري سوق الأسهم لا يملكون أي منهجية في التعامل مع الاحتيال المحتمل من قبل بعض الشركات، معتقدين أن الأمر يتطلب قدرًا عظيمًا من العلم والخبرة يفتقرون إليه، ولكن هذا غير صحيح، أغلبنا يقع في هذا الخطأ بسبب الحدة الشديدة لبحثه وافتقاره إلى القدر الصحي من التشكيك.
أخيرًا، هناك فخ يقع فيه كثيرون سمّاه المحقق "أوجيست دبوين" المبالغة في التعمق، ولكن الحقيقة لا تتميز دائمًا بالعمق بل إنها في أكثر الأحيان تكون ظاهرية، أما العمق فيكمن في الطرق التي نبحث بها عنها وليس في المكان الذي تقع فيه، باختصار، علامات الاحتيال قد تكون شاخصة أمامك ولكن بسبب طريقة تفكيرك تجدك تنظر إليها ولا تراها.
المصادر: أرقام
كتاب: The Detective and the Investor
كتاب: Corporate Fraud Handbook
تعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}