نبض أرقام
10:24 م
توقيت مكة المكرمة

2024/11/23
2024/11/22

من الاكتفاء الذاتي إلى المجاعات.. رحلة الصومال وشقيقاتها مع صندوق النقد الدولي (1/2)

2017/09/23 أرقام - خاص

لماذا في هذا العالم الذي ينتج من الغذاء أكثر مما يكفيه، يموت الملايين جوعاً؟ هذا هو التساؤل الذي دائماً ما يقف أمامه كثيرون حائرون لا يملكون إجابة شافية عليه.
 

في ديسمبر/كانون الأول من عام 2016، قالت وزيرة التنمية الدولية البريطانية "بريتي باتل" إن هناك ما يزيد على 37 مليون إنسان في أفريقيا يعانون من نقص الغذاء ويواجهون خطر الموت جوعاً، وحثت المجتمع الدولي على التدخل والمساعدة.
 

 

وفي الحقيقية، إن المجتمع الدولي الذي كانت تدعوه "باتل" هو نفسه الذي ظل يراقب موت 260 ألف إنسان جوعاً أثناء الجفاف الذي دمر منطقة القرن الأفريقي خلال عامي 2010 و2011، والذي ازدادت حدته لدرجة أن النساء اضطررن لربط خصورهن بالحبال لكبح جوعهن من أجل توفير "الطعام" الذي لا يمكن وصفه إلا بالفتات لأطفالهن.

 

من الاكتفاء الذاتي إلى المجاعات.. رحلة الصومال وشقيقاتها مع صندوق النقد الدولي (1/2)

النقطة

 

الإيضاح

مسؤولية من؟

 

- أثناء البحث عن المسؤول عن هذه المأساة، دائماً ما تفضل وسائل الإعلام التركيز على أشياء مثل موجات الجفاف وارتفاع أسعار المواد الغذائية وبشكل أكبر على دور الجماعات المسلحة.


- هذه العوامل لها تأثير بالتأكيد في الشكل الذي آلت إليه الأوضاع ولكنها ليست الوحيدة أو ليست أهمها.

 

- بشكل مباشر، استمرار أزمة الجوع التي ضربت أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لعقود كانت بسبب سياسات الإقراض التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على هذه البلدان، والتي حولت أفريقيا المكتفية ذاتياً والمنتجة لغذائها إلى قارة تعتمد على الواردات والمعونات الغذائية من الجميع.

 

- منذ أن تم تطبيق سياسات الإقراض المفروضة من قبل المؤسسات المالية الدولية لأول مرة في عام 1981، تضاعف عدد الأفارقة المقيمين في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الذين يعيشون على أقل من دولار في اليوم إلى 313 مليون إنسان بحلول عام 2001، وهو ما مثل نحو 46% من السكان، وذلك بحسب بيانات مؤسسة "أوكسفام".

 

- أدت برامج التكيف الهيكلي لصندوق النقد والبنك الدولي التي تم تطبيقها في هذه البلدان خلال الثمانينيات والتسعينيات إلى استنزاف القطاع الزراعي، لذلك تربط العديد من الدراسات الحديثة بين هذه السياسات وبين الحالة المهترئة والأنظمة الفقيرة التي يتسم بها القطاع الزراعي في هذا الجزء من القارة. ببساطة ما حدث هو أنه تم تفكيك كل شيء.

 

- حتى يومنا هذا، لا تزال تدفع البلدان الأفريقية التي تعاني من المجاعات ثمن سياسات المؤسسات المالية "رفيعة المستوى" التي من المفترض أنها ما جاءت إلى هذه المنطقة إلا لتساعد هؤلاء الناس.
 

كيف ومتى ظهرت المجاعات؟

 

- بعد استقلالها عن القوى الاستعمارية في الستينيات كانت الدول الأفريقية مكتفية ذاتياً من الغذاء، ولكن الحال تبدل في غضون سنوات وأصبحت المجاعات ظاهرة منتشرة في أنحاء كثيرة بالقارة.

 

- في تحول درامي لم يستغرق أكثر من 40 عاماً، أصبحت جميع البلدان الأفريقية تعتمد على الواردات والمعونات الغذائية، بعد أن كانت القارة السوداء مصدراً صافياً للغذاء خلال الفترة ما بين عامي 1966 و1970، حيث بلغ متوسط صادراتها الغذائية في ذلك الوقت حوالي 1.3 مليون طن سنوياً.

 

- هذا التطور المريب يجعل الجميع يقف أمام سؤال مهم: كيف تبدل حال قارة بأكملها من التصدير إلى الاستيراد ومن الوفرة الغذائية إلى المجاعات الجماعية في هذه الفترة القصيرة من الزمن؟

 

- في كتابها "عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث" شرحت الكاتبة الكندية "ناعومي كلاين" بالتفصيل كيف تستخدم القوى العالمية الأزمات والفوضى كذريعة لفرض تحولات خاطفة وتطبيق سياسات السوق الحرة التي تزيد الأثرياء ثراءً وتدفن الفقراء في الرمال أحياءً.

 

- تقول "كلاين": طوال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، قامت المؤسسات المالية الغربية بإعطاء البلدان النامية كماً هائلاً من الديون مقابل أسعار فائدة منخفضة للغاية، وهو ما شجع هؤلاء على اقتراض المزيد.

 

- بحلول أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ارتفعت أسعار الفائدة الأمريكية إلى مستويات تصل إلى 21%، مما دمر الاقتصادات الهشة للدول النامية التي أخذت ديوناً ضخمة. كان الأمر أشبه برصاصة أطلقت من واشنطن إلى قلب هذه البلدان لتتركها صريعة على الأرض.

 

- البلدان الأفريقية التي لم يكن لديها فرصة في الوفاء بمدفوعات الفائدة ناهيك عن الديون الفعلية دخلت في دوامة من الأزمات المالية. ومن هنا تبدأ قصة مجاعة أفريقيا.
 

ديون أذلت الهامات الشامخة

 

- يُعزى تدهور الزراعة الأفريقية إلى حد كبير إلى السياسات التي فرضها البنك الدولي وصندوق النقد على البلدان الأفريقية التي لم تعد تملك من أمرها شيئا بسبب الديون التي أثقلت كاهلها.

 

- لدى كل دولة من الدول المانحة لصندوق النقد والبنك الدولي تأثير على سياسة هاتين المؤسستين بقدر حجم اقتصاد كل منها، وهو ما يسمح لمجموعة قليلة بقيادة الولايات المتحدة بالسيطرة على عملية صنع القرار.

 

- نتيجة لهذا النهج، توضح "كلاين" أن إدارتي "ريجان" في واشنطن و"تاتشر" في لندن كانتا قادرتين في السبعينيات والثمانينيات على تسخير المؤسستين للعمل لصالحهما وتحقيق أهدافهما الخاصة.

 

- انطلاقاً من آيديولوجية ما يسمى بالسوق الحرة، أرفق صندوق النقد الدولي والبنك الدولي شروطاً لمساعداته للدول النامية التي كانت تطوق للتخلص من أعباء ديونها، تشمل العلامة البارزة التي تصاحب المؤسستين في أي بلد تطرقا أبوابه وهي "برامج التكيف الهيكلي".

 

- وفقاً  لهذه البرامج، يجب على الحكومات فرض حزمة من الإجراءات التقشفية وخصصة بعض القطاعات. وفي أفريقيا كانت ترجمة هذه السياسات هي خفض الدعم الحكومي لصغار المزارعين وإلغاء التعريفات الجمركية مما يترك هؤلاء في العراء أمام الأسواق الخارجية.

 

- شملت الإجراءات أيضاً، بيع الأفارقة لمخزوناتهم الإستراتيجية من الأغذية والحبوب (والتي احتفظت بها هذه البلدان لكي تتجنب الجوع في أوقات الجفاف أو بوار المحاصيل) وزيادة صادراتهم من المحاصيل النقدية إلى الغرب، والسماح للمنتجات الأمريكية الأوروبية بإغراق أسواقهم.

 

- على الرغم من أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي قالا في ذلك الوقت إن برامج إعادة الهيكلة ضرورية للسيطرة على الديون الأفريقية وتعزيز النمو الاقتصادي بالقارة، إلا أن ما حدث هو عكس ذلك تماماً: فالديون ارتفعت ودخلت هذه البلدان في فخ الركود.

 

- في توثيق دقيق لعواقب برامج التكيف الهيكلي على القارة الأفريقية، وجدت دراسة أجرتها هيئة "مبادرة هاليفاكس" في عام 2004 أنها فرضت على 36 بلداً من بين بلدان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الـ47 خلال الفترة ما بين عامي 1980 و1993.

 

- منذ أن تم تطبيق هذه البرامج في الثمانينيات ارتفعت ديون أفريقيا بأكثر من 500%، وبلغت مدفوعات الديون التي أرسلتها الدول الأفريقية إلى الخزائن الغربية نحو 229 مليار دولار، أي أربعة أضعاف الديون الأصلية!

 

- واليوم، في عام 2017 وتحت رعاية المؤسستين الدوليتين المرموقتين بلغت الديون الأفريقية 443 مليار دولار، منها 260 مليار دولار تخص 37 بلداً من بلدان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، ولا يبدو أن هناك أملا أن يأتي اليوم الذي تتمكن فيه تلك البلدان من التحرر من أسر هذه الديون، لأنها ببساطة دخلت في ما يمكن وصفه بالثقب الأسود.
 

الطريق إلى المجاعات

 

- ما علاقة كل ذلك بالمجاعات؟ حسناً، وجود ديون ضخمة تثقل كاهل الحكومات يدفعها دائماً إلى تخصيص جزء غير قليل من إنفاقها لصالح خدمة هذه الديون، وذلك على حساب الاستثمار في مشاريع البنية التحتية الأساسية مثل الرعاية الصحية والتعليم.

 

- تحتوي منطقة أفريقيا جنوب الصحراء التي لا تزيد نسبة سكانها على 10% من المجموع العالمي على أكثر من 45% من جميع المصابين في العالم بفيروس نقص المناعة البشرية (وفقاً لتقديرات عام2015). وفي ظل وضع كهذا، تنفق أفريقيا على مدفوعات الديون أربعة أضعاف ما تنفقه على الرعاية الصحية.

 

- نفس الشيء حدث في القطاع الزراعي، حيث ضربت برامج التكيف الهيكلي الأمن الغذائي الأفريقي في مقتل، وتم تحويل السياسة الزراعية نحو إنتاج المحاصيل النقدية التي استخدمت إيراداتها لسداد الديون.

 

- من المفارقات العجيبة، أنه في نفس الوقت الذي تمت فيه مطالبة الدول الأفريقية المغلوبة على أمرها بإلغاء الإعانات المقدمة إلى صغار المزارعين، واصلت الولايات المتحدة وأوروبا دعم قطاعاتها الزراعية بمليارات الدولارات، ليدفع صندوق النقد الدولي الفلاحين الأفارقة إلى التنافس في معركة خاسرة مع السلع الرخيصة المدعومة من الغرب.

 

- أغرقت السلع الغربية الرخيصة الأسواق الأفريقية. وخلال الفترة ما بين عامي 1995 و2004، ارتفعت حجم الإعانات المقدمة من جانب الدول المتقدمة لصالح قطاعاتها الزراعية من 367 مليار دولار إلى 388 مليار دولار.

 

- أما الإعانات المحدودة التي سمح بها صندوق النقد الدولي للدول الأفريقية بتقديمها للقطاع الزراعي كانت محصورة فقط على السلع التجارية المعدة للتصدير إلى أوروبا والولايات المتحدة.

 

- في كينيا حيث يعيش ما يقرب من ربع السكان على أقل من دولار واحد في اليوم، تتسبب هذه السياسات في إلغاء الدعم الحكومي لمزراعي الكفاف (زراعة الكفاف هي زراعة تعتمد على الاكتفاء الذاتي ويركز فيها المزارعون على زراعة الأطعمة التي تكفيهم لإطعام أنفسهم وعائلاتهم)، وتم تحويل موارد البلاد إلى إنتاج المحاصيل النقدية مثل الشاي والقهوة والتبغ، والتي استخدمت عائداتها في خدمة فاتورة الديون الضخمة.
 

 

في الجزء القادم من هذا التقرير، سيتم التطرق إلى قصة الصومال مع سياسات صندوق النقد الدولي، وكيف خسرت البلاد ثروتها الحيوانية وقطاعها الزراعي، وهي التفاصيل التي تناولها "ميشيل شوسودوفسكي" في كتابه "عولمة الفقر".

وسيتم التعرض أيضاً لحالة ملاوي وكيف دفعتها سياسات الصندوق – في تطابق غريب –  إلى بيع مخزوناتها الإستراتيجية من الحبوب لخدمة ديونها، لتدخل البلاد في مجاعة خلال عامي 2001 و2002.

التعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.