نبض أرقام
19:32
توقيت مكة المكرمة

2024/07/22

الرقص على الحافة.. حروب العملات والسعي المدمر نحو الميزة التنافسية

2019/02/15 أرقام - خاص

"كان كليفنجر يعرف كل شيء عن الحرب فيما عدا هذه: لماذا يجب على يوساريان أن يموت في حين يعيش العريف سنارك، أو لماذا ينبغي على العريف سنارك أن يموت في حين يعيش يوساريان. لقد كانت حرباً قذرة وحقيرة، وكان يمكن ليوساريان أن يعيش من دونها للأبد ... أموت أو لا أموت، هذا هو السؤال، وقد سعى كليفنجر جاهداً كي يصل لإجابة له، ولكن...

 

موت الرجال كان أمراً حتمياً وضرورياً؛ ولكن أي الرجال سيموت كان هذا أمراً عائداً للظروف، وكان يوساريان مستعداً أن يكون ضحية أي شيء سوى الظروف، ولكن هذا هو حال الحرب، فهو لم يستطع أن يجد لها أي فائدة سوى أنها تدفع له أجراً جيداً وتحرر الأطفال من التأثير الضار لآبائهم".

 

 

بهذه العبارات بدأ "جوزيف هيلر" الفصل الثامن من روايته الساخرة "كاتش 22" التي تعتبر واحدة من أهم الأعمال الأدبية في القرن العشرين، والتي يروي خلالها بشكل من أشكال الكوميديا السوداء الأهوال التي عاشها الطيار "يوساريان" وزملاؤه في الحرب العالمية الثانية. وتركز على محاولاتهم الاحتفاظ بعقولهم سليمة لأداء مهماتهم حتى تتثنى لهم العودة إلى ديارهم.

 

وبشكل ما تعكس الخطوط العامة لهذه الرواية واقعا يعيشه العالم اليوم، وتحديداً ذلك الخاص بحروب العملات التي تتورط فيها بعض الدول بكامل إرادتها، بينما تجد أخرى نفسها فجأة في وسط عراك يصبح فيه اقتصادها ومستقبلها وكل شيء على المحك.

 

"نحن في خضم حرب عملات"

 

في السابع والعشرين من سبتمر/أيلول 2010، اعتلى وزير المالية البرازيلي "جويدو مانتيجا" خشبة المسرح في مؤتمر عقد بمدينة ساو باولو، ليلقي كلمته أمام تجمع من كبار رجال الأعمال وذلك قبل أيام قليلة من الانتخابات الرئاسية البرازيلية. وقال خلال كلمته: "أيها السادة، نحن في خضم حرب عملات، يحاول فيها البعض خفض قيمة عملته. إن هذا يشكل تهديداً لنا لأنه يقوض قدرتنا التنافسية".

 

تصريحات "مانتيجا" التي أشار خلالها إلى أن عملية إدارة العملة أصبحت أداة للحرب الاقتصادية الدولية وليس مجرد سياسة داخلية سرعان ما تصدرت عناوين كبريات الصحف العالمية، ليظهر الغضب بشأن السياسة النقدية للولايات المتحدة لأول مرة على السطح، ويتشجع كثيرون على توجيه سهام النقد لمجلس الاحتياطي الفيدرالي واتهامه بعدم الاهتمام بتداعيات سياساته على بقية العالم.

 

وجاءت هذه التصريحات أيضاً تزامناً مع تدخل اليابان في سوقها النقدي بشكل مباشر لخفض قيمة الين، وهي الخطوة التي تبعتها تحركات مماثلة من كولومبيا وتايلاند وكوريا الجنوبية ودول أخرى، وجميعها دول كانت تحاول تحفيز صادراتها من خلال "تخفيض" قيمة عملاتها المحلية أو جعلها أرخص.

 

 

في خريف عام 2010، وجدت البرازيل نفسها في خضم كارثة على خلفية الارتفاع الحاد الذي شهدته قيمة عملتها، بعد وقوعها بين فكي كماشة كان طرفاها أقوى اقتصادين في العالم. فعلى أحد الجوانب وقف الصينيون الذين يرفضون السماح لقيمة عملتهم بالارتفاع، ويحاولون الحد من التدفقات الرأسمالية الداخلة إلى البلاد.

 

ولأن صادرات البرازيل السلعية مثل خام الحديد وفول الصويا ترتبط إلى حد كبير بتطورات النمو الاقتصادي للصين، أصبحت العملة البرازيلية ضحية حرب بالوكالة هدفها النهائي هو اليوان الصيني. فقد كان المستثمرون في الواقع يراهنون على أن النمو القوي في الصين سيعزز النمو في البرازيل، مما يرفع من قيمة الريال البرازيلي.

 

وعلى الجانب الآخر، كان الأمريكيون الذين كانوا يقومون من خلال بنكهم المركزي بضخ الأموال في الاقتصاد، مما أبقى أسعار الفائدة منخفضة. إجراءات الفيدرالي في ذلك الوقت جعلت من السهل على المستثمرين الحصول على أموال رخيصة يمكنهم استخدامها في المراهنة ضد العملات التي يتوقعون ارتفاع قيمتها، والتي كان من بينها الريال البرازيلي.

 

ذو حدين

 

منذ بداية عام 2010 وحتى أوائل خريف نفس العام، ارتفعت قيمة الريال البرازيلي بنحو 25% أمام الدولار الأمريكي، مما جعله واحداً من أكثر العملات التي ارتفعت قيمتها في العالم خلال ذلك العام، وفقاً لـ"بلومبرج".

 

ارتفاع قيمة العملة له فوائد وأضرار، فهو من ناحية يجعل قيمة الواردات أرخص ويزيد من القوة الشرائية للسكان، ولكن من ناحية أخرى يؤثر سلباً على المصنعين والمصدرين البرازيليين الذين أصبحت منتجاتهم أغلى بالنسبة لبقية العالم، وهو ما يضرب قدرتهم التنافسية في مقتل.

 

واجه المصدرون البرازيليون خيارين أحلاهما مر: فإما أن يقوموا برفع أسعار منتجاتهم في الأسواق الأجنبية لتغطية الزيادة التي شهدتها التكاليف على خلفية ارتفاع قيمة الريال، ولكن هذا الإجراء يعني خسارتهم لجزء كبير من حصصهم السوقية لصالح المنتجين من بلدان أخرى وخاصة الصين التي ستكون منتجاتها أرخص.

 

 

أما الخيار الآخر، فهو الامتناع عن رفع الأسعار أو رفعها بنسب ضئيلة جداً، ويتحمل المصدرون تكلفة الزيادة التي شهدتها التكاليف بعد ارتفاع الريال البرازيلي أو الجزء الأكبر منها.

 

في محاولة للحد من الضغوط الواقعة على الريال، تدخلت الحكومة البرازيلية بشكل مباشر في السوق النقدي من أجل إضعاف العملة المحلية، وتنفيذ سياسات احترازية مختلفة للحد من تدفقات رأس المال. وفي فبراير 2013، عاد وزير المالية البرازيلي ليصرح بأن بلاده أحبطت حرب عملات شنت ضدها، مما أدى إلى استقرار عملتها عند معدل ريالين لكل دولار.

 

لعبة محصلتها صفر

 

في الواقع إن حرب العملات تتعلق في جوهرها بالسياسة أكثر من الاقتصاد. فعلى سبيل المثال، عندما تتخذ الصين إجراءات من شأنها إضعاف اليوان كما تفعل منذ عقدين، فإن ما تقوم به في الحقيقة هو الحفاظ على انخفاض قيمة البضائع الصينية في الولايات المتحدة مما يسهم في اختلال الميزان التجاري بين البلدين.

 

وفي مواجهة الخطوة الصينية، تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للرد عن طريق العمل على خفض قيمة عملتها أيضاً. ولكن بما أن البلدين لا يمكن أن يكون لهما سوى سعر صرف واحد، يصبح سباق مثل هذا سباقاً نحو القاع من غير المحتمل أن يفيد أيا منهما.

 

عندما تقوم العديد من الدول بخفض قيمة عملاتها في نفس الوقت لمحاولة لجعل صادراتها أكثر قدرة على المنافسة فإنها تجبر الدول الأخرى – كالبرازيل مثلاً – على انتهاج سياسات مشابهة للحيلولة دون ارتفاع عملاتها.

 

 

ولكن الخطير هو أن حروب العملات عبارة عن لعبة صفرية، أي أن ما يربحه أحد الأطراف من خفض قيمة عملته يخسره الآخر. واتساع نطاق مثل هذه الممارسات عادة ما تكون له آثار مدمرة على الجميع، لأنها تضر باستقرار أسعار الصرف مما يؤثر سلباً على الاستثمار الدولي ويؤدي إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي.

 

على خلاف الحروب العسكرية التقليدية، عادة ما تكون حروب العملات عبارة عن معارك خفية، حيث لا تعترف أي بلد على الإطلاق بأنها تشن هجوماً على عملة بلد آخر، ولكن في نفس الوقت يمكن إنهاء تلك الحروب بشيء يشبه إلى حد كبير معاهدات السلام.

 

على سبيل المثال، في عام 1936، وقعت كل من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة على الاتفاق الثلاثي لمعالجة اختلالات العملة التي نتجت عن خروج بريطانيا والولايات المتحدة من المعيار الذهبي في خضم الكساد الكبير. وعشية الحرب العالمية الثانية وافقت الدول الثلاث على الامتناع عن تخفيض قيمة عملاتها.

 

على هذا الأساس، تعالت في السنوات الأخيرة الكثير من الأصوات المطالبة بتدشين اتفاقيات دولية جديدة لتأمين استقرار الاقتصاد العالمي وإبعاده عن خطر حروب العملات بين الدول، غير أن هذا الاقتراح يمكن اعتباره حلماً صعب التحقيق بسبب التضارب الكبير الذي تشهده مؤخرًا مصالح الكثير من الدول الرئيسية حول العالم.

تعليقات {{getCommentCount()}}

كن أول من يعلق على الخبر

{{Comments.indexOf(comment)+1}}
{{comment.FollowersCount}}
{{comment.CommenterComments}}
loader Train
عذرا : لقد انتهت الفتره المسموح بها للتعليق على هذا الخبر
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها وليس عن رأي بوابة أرقام المالية. وستلغى التعليقات التي تتضمن اساءة لأشخاص أو تجريح لشعب أو دولة. ونذكر الزوار بأن هذا موقع اقتصادي ولا يقبل التعليقات السياسية أو الدينية.

الأكثر قراءة