كثيرًا ما يشغل مستقبل الاقتصاد تفكير الكثير من المثقفين والمسؤولين والمستثمرين بل وحتى المستهلكين العاديين، بسبب تأثرهم جميعًا -كل بطريقته- بأي تغيرات تحدث له، بما يجعل متابعته المكثفة والمستمرة أمرًا حتميًا.
الكاتب الاقتصادي الأيرلندي "مايكل سوليفان" يقدم تصورًا للاقتصاد في المستقبل من خلال كتاب "المرحلة المقبلة: ماذا بعد العولمة؟"، حيث يؤكد أن العولمة مرحلة "أفرزت كل أسباب فنائها وأنها في طورها الأخير لذا يلزم الاستعداد لما هو بعدها".
المساواة
ويبدأ "سوليفان" بتناول أزمة انعدام المساواة الاقتصادية، مشيرا إلى أن المساواة لا تعني الشيوعية وحصول الجميع على أجور متساوية رغم اختلاف الجهد والقدرات ولكنها تعني بصورة أكبر العدالة.
ففي إنجلترا، وقبل ثلاثة قرون كان غالبية السكان من المُعدمين على الرغم من عملهم لساعات طويلة في المزارع أو في المصانع البدائية حينها، ولم يكونوا يحصلون إلا على ما يكفي لسد رمقهم بالكاد، بينما نعم مُلاك الأراضي، وهم إقطاعيون منذ عصور، بالمزايا الاقتصادية كلها، بما يجعل الطبقة الريعية تسيطر والمُنتجة تعاني.
وبعد أكثر من ثلاثة قرون، دمرت الأزمة المالية في عام 2008 أمريكا الوسطى، لكن "نبلاء العصر الحديث" أو المصرفيون الذين غذوا الأزمة بالمخاطر لم يواجهوا أي عواقب، حيث إن استجابة الحكومة للأزمة العالمية في عام 2008 أنقذت "أولئك الذين لديهم الوسائل اللازمة لإنقاذهم والذين قد لا يستحقون أن يتم إنقاذهم، تاركين آخرين يتعثرون".
لذا فقد ظهرت احتجاجات كثيرة غير مسبوقة في التاريخ الغربي منذ الأزمة المالية العالمية، حيث اعترض كثيرون في أمريكا وبريطانيا والقارة الأوروبية على القوة غير الديمقراطية للتكنوقراط الحكوميين والبنوك المركزية والمفوضية الأوروبية، بما دفعهم في نهاية الأمر للميل للمرشحين الشعبويين الذين يعدونهم بإصلاح الاقتصاد ونشر ثماره على أوسع نطاق.
ويعد انتخاب مثل هؤلاء السياسيين، والذين يُصنَّف الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بينهم بمثابة "المسمار الأول في نعش العولمة" حيث يؤمن هؤلاء بحتمية صياغة دلالة السيادة على حدود الدولة بمفهومه القديم، سياسيًا واقتصاديًا، فيحدون من الهجرة وحركة السلع وهما ركنان أصيلان للعولمة.
العقول والقلوب
فالعولمة هي نظام مستقر في العقول والقلوب قبل تطبيقه على أرض الواقع، فعندما يصوت البريطانيون على انفصالهم عن قارتهم فهذا يعكس تراجعًا شديدًا للإيمان بالعولمة وباتصال الشعوب، فإذا كان هذا هو رأي البريطانيين حول الاندماج مع أوروبا فكيف سيكون مع إفريقيا أو أمريكا اللاتينية على سبيل المثال؟
وكما قال "ونستون تشرشل" قديمًا "إن أبسط دليل على فشل الديمقراطية هو إجراء حديث لمدة 5 دقائق مع ناخب عادي" فإن أقرب دليل على اتجاه العولمة إلى الانهيار هو ذات الحديث ولكن حول الجانب الاقتصادي للديمقراطية، أي العولمة واقتصاد السوق الحر.
ويسخر الكاتب من جمل تقولها "قوى العالم الاقتصادية الكبرى" في مؤتمر مثل مؤتمر مجموعة العشرين بأن "المؤتمر سيعمل على وسائل تحفيز جديدة للنمو مع فتح آفاق جديدة للتنمية والنمو مع تحفيز آفاق الاستثمار الممكنة بما يبقي الاقتصاد العالمي في مستويات مقبولة".
فمثل هذه الجمل تعكس ببساطة إخفاقًا اقتصاديًا للقوى الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة وأوروبا، فكيف يُمكن لدول تشهد تطورًا تكنولوجيا متسارعًا بهذا الشكل ألا تحقق إلا معدلات تنمية تتراوح بين 1-3% في أغلب الأحيان؟
الديون
ويعتبر "سوليفان" أن هذا يعكس سوء إدارة كبيراً للاقتصاد، حيث يزيد من إمكانية نشوب أزمة اقتصادية "لا مثيل لها" بسبب تفاقم أزمة الديون، فالجميع يرون أنه ما دام الاقتصاد يعمل وعلى ما يرام فإنه سيكون بوسع كل الأطراف تسديد ديونها وأن يبقى الاقتصاد "على قيد الحياة".
ولكن الشاهد أن أحد الأسباب الرئيسية لانهيار الإمبراطورية الرومانية، كان وصول نسبة الديون إلى 90% تقريبًا من مستوى الدخل الروماني، وعندها أصبحت الإمبراطورية عاجزة عن الاقتراض بسبب رفع المُقرضين لأسعار الفائدة في مواجهة شعورهم بالخطر من احتمالية استعادة أموالهم.
وفي هذا الإطار تبرز "ترتيبات ما بعد الانهيار الاقتصادي"، مثل ما حدث في أعقاب الركود العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، حيث تراجعت مستويات الديون إلى أقل من 10% في القطاع الخاص مع تخوف البنوك من القيام بعمليات إقراض واسعة وإن ارتفع مستوى الدين العام بسبب برامج انتشال الاقتصاد من الركود.
ويرجح "سوليفان" حدوث "سلسلة مروعة" من عمليات الإفلاس عالميًا، تنتهي بانهيار شبه كامل للنظام البنكي الذي سيقتصر عمله على إدارة الحسابات الشخصية والحفاظ على الأموال من السرقة فحسب في أعقاب الأزمة المالية المقبلة التي سترتبط بالديون وفقًا لتقديراته.
"صرخة احتجاج"
وغالبا ما سيصل الاقتصاد إلى مرحلة نهاية العولمة في غضون 10-20 عامًا، مع اضطرار الكثير من الدول لرفع أسعار الفائدة لمواجهة التحركات السريعة لرؤوس الأموال، بما سيجعل الحصول على القروض مُكلفًا لهؤلاء الذين اعتادوا استخدامها لتغطية مراكزهم المالية المهترئة وسيفرز حالات إفلاس كثيرة.
وهناك ما يشبه "صرخة الاحتجاج" من كثيرين على العولمة من خلال تجنب الالتزام بمفهوم الملكية الفكرية، حيث إن نسبة البرامج المُرخصة لـ"مايكروسوفت" تقل عن 5%، بما يؤشر لحصول مواطني تلك الدول على المُنتج مجانًا و"دون إحساس بالذنب" بسبب تيقنهم من اختلال الميزان الاقتصادي.
وتشبه العولمة في كثير من الأحيان الآلة، فقد تعمل مع اختلال في أحد تروسها (فليكن الديون) وتعمل بكفاءة قليلة مع عطل يصيب أحد التروس الأخرى (وليكن المساواة) لكنه يصعب عليها العمل مع أعطال تصيب غالبية تروس الآلة، لتبقى مهددة بالانهيار التام أو العطل في أي وقت.
وعلى الرغم من تكهنه بنهاية العولمة، إلا أن "سوليفان" يبدي حرصه عليها، مشيرًا إلى أن أولى خطوات المحافظة عليها هو عمل "سُلطة مناخية" عالمية تسعى لتجنب تحمل العالم كله لفاتورة الصناعات الملوثة التي تفيد قلة محدودة للغاية.
كما تبرز أهمية فرض ضرائب متصاعدة بصورة أكبر مما هي الآن، فلا يصح أن يكون الفارق بين أغنى الفئات وأفقرها في أوروبا وأمريكا لا يتجاوز 10-15% في نسبة الضرائب على الرغم مما يجنيه الأغنياء من فوائد مضاعفة من البنية التحتية التي تقيمها الضرائب.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}