يفتقر أكثر من ملياري إنسان إلى مياه الشرب النظيفة والآمنة، بينما لا تصل خدمات الصرف الصحي إلى نحو 2.4 مليار شخص على وجه الأرض، وذلك وفقاً لتقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في عام 2017.
في العديد من البلدان الفقيرة والنامية لا تخدم أنظمة المياه غالبية القرى والأحياء الفقيرة. وغالباً ما تكون مصادر المياه البديلة التي يعتمد عليها الفقراء هي الأنهار والبحيرات الملوثة والآبار الضحلة المحفورة يدوياً، وقد يضطر بعضهم إلى شراء المياه من الباعة الجائلين بأسعار أعلى من أسعار المياه المنقولة بالأنابيب.
وما يزيد الأمور سوءًا هو قيام الحكومة بتوفير المياه بأسعار مدعمة لطبقات وشرائح مقتدرة مادياً، وهو ما يشكل عبئًا مالياً على الحكومة يجعلها عاجزة عن توسعة البنية التحتية الخاصة بقطاع المياه لتشمل المناطق الفقيرة.
وفي محاولة لمساعدة هذه الدول على التغلب على هذه المشكلة، شجعت المؤسسات المالية الدولية -كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي- الحكومات على البدء في خصخصة قطاع المياه لديها.
وفي ورقة نشرها عام 1992 تحت عنوان "تحسين إدارة موارد المياه" أشار البنك الدولي إلى أن المشكلة تكمن في إغفال تلك الحكومة الجانب الربحي وقيامها بتوفير المياه للمستهلكين بأسعار مخفضة، وأن الحل هو أن يدفع الجميع بمن فيهم الفقراء.
تحت وطأة مجموعة من الإشارات التي تندرج تحت بندي الترهيب والترغيب، قام عدد من البلدان النامية بالتخلي عن قطاع المياه وتسليمه للقطاع الخاص، ولكن لسوء حظ المواطنين تسببت تلك السياسات في إحداث المزيد من الضرر بالفقراء وتدهور موارد المياه المتناقصة أصلاً. وهذا بالضبط ما حدث في إندونيسيا على سبيل المثال.
بالأمر المباشر
في يونيو 1992 قدم البنك الدولي قرضاً بقيمة 92 مليون دولار لصالح شركة المياه الحكومية "بام جايا" من أجل تحسين البنية التحتية لقطاع المياه بمدينة جاكرتا. وتم استخدام أموال القرض في بناء منشأة جديدة لتنقية ومعالجة المياه في منطقة بولو جادونج.
بعدها مباشرة، نصح البنك الدولي الحكومة الإندونيسية بخصخصة شركة "بام جايا". كما قام البنك بتعيين مستشارين من أجل مساعدة الحكومة على تنفيذ عملية الخصخصة. وفي 12 يونيو 1995 استدعى الرئيس الإندونيسي "سوهارتو" وزير الأشغال العامة وأمره بتشكيل فريق حكومي للعمل على عملية خصخصة قطاع المياه.
في نفس العام تم تسليم قطاع المياه بجاكرتا بالأمر المباشر لشركتي "تامز ووتر أوفرسيز" البريطانية و"سويز أنفيرونمنت" الفرنسية. ولكن لماذا هاتان الشركان بالتحديد؟ ببساطة ترتبط الشركة الأولى بنجل الرئيس "سوهارتو" والذي كان شابًا فاسدًا مدمنًا للقمار، في حين ترتبط الشركة الثانية بـ"أنتوني سالم" وهو صديق مقرب من الرئيس.
لكن سرعان ما اندلعت أعمال شغب مناهضة لحكم "سوهارتو"، وهرب مسؤولو الشركتين إلى خارج البلاد، تاركين خلفهم المنشآت المائية الإندونيسية، وهو ما عرض ملايين من سكان جاكرتا لكارثة محتملة. ولكن في النهاية عادوا مرة أخرى وأعادوا التفاوض بشأن عقودهم مع الحكومة بشروط أقل تكلفة.
في البداية، اصطدمت عملية الخصخصة بعائق قانوني، حيث إن القانون الإندونيسي في ذلك الوقت كان يحظر على الشركات الأجنبية الدخول إلى قطاع المياه. ولكن بخفة وسهولة أصدر وزير الشؤون الداخلية آنذاك "محمد يوجي" تعليمات وزارية في يوليو 1996 تم بموجبها إزالة قطاع المياه من قائمة القطاعات التي يحظر على الأجانب الاستثمار فيها.
السيطرة على كل شيء
استمرت المفاوضات بين الجانبين عامين تقريباً وشملت ثلاث وزارات مختلفة بالإضافة إلى حكومة مدينة جاكرتا. وأثناء تلك المفاوضات حرصت الحكومة الإندونيسية على إبعاد كل رجال الدولة الذين يعارضون تسليم قطاع المياه بجاكرتا للشركات الأجنبية عن طاولة المفاوضات.
تم توقيع العقود أخيراً في 6 يونيو 1997. وقامت كلٌّ من "تامز ووتر أوفرسيز" و"سويز أنفيرونمنت" بتأسيس شركات إندونيسية مع شركائهما المحليين. ومُنحت تلك الشركات السيطرة الكاملة على إمدادات المياه ومحطات المعالجة وشبكات الأنابيب وحق إصدار الفواتير، بالإضافة إلى العديد من المباني المكتبية الخاصة بشركة "بام جايا" الحكومية.
في الوقت نفسه، لم يكن لدى حكومة جاكرتا -ممثلةً في شركتها "بام جايا"- الحق في الإطلاع على التقارير المالية الخاصة بتلك الشركات، كما لم تكن هناك عقوبة واضحة إذا فشلت تلك الشركات في تحقيق الأهداف المحددة في العقود.
وفوق كل ذلك، وافقت الحكومة على إجبار المنازل والأعمال التجارية على إغلاق الآبار وصهاريج المياه التي بنتها بمجهوداتها الخاصة، والقيام بدلاً من ذلك بشراء المياه من الشركات الجديدة. وكان لهذا القرار آثارٌ كبيرة على المواطنين بالنظر إلى أن 70% من مياه الشرب في جاكرتا في ذلك الوقت كان مصدَرها آبارٌ خاصة.
في مقابل كل ذلك وافقت الشركتان الفرنسية والبريطانية على سداد الديون الخارجية لشركة "بام جايا" الحكومية والبالغة في ذلك الوقت حوالي 231 مليون دولار، ولكن حتى تلك الديون ستقوم بتسديدها من الإيرادات التي ستحصل عليها من المستهلكين الإندونيسيين.
فشل يجر فشلاً
في خطوة غير مفاجئة على الإطلاق تم رفع أسعار المياه أكثر من مرة لتصل إلى مستويات تفوق إمكانات أغلب سكان جاكرتا. فوفقاً لبيانات البنك الدولي نفسه، تنفق الأسرة الفقيرة في جاكرتا ما يترواح بين 13% إلى 25% من دخلها على المياه، في حين أن القانون الإندونيسي ينص على أنه لا ينبغي أن تنفق الأسرة أكثر من 4% من دخلها على المياه اللازمة للاستخدام اليومي.
إلى جانب الأسعار المرتفعة، ما زاد من سخط سكان مدينة جاكرتا هو أن الشركتين الخاصتين فشلتا في تحقيق أي من الأهداف المنصوص عليها في عقود عام 1997. فقد تعهدت الشركتان في العقود بالعمل على تغطية 98% من المدينة بمياه الصنبور. ولكن بعد مرور ما يقرب من 18 عاماً وتحديداً في عام 2015 لم تتجاوز التغطية حاجز الـ59%.
أصبح الوضع باختصار كالتالي: الشركات الخاصة قامت بإغلاق الآبار وصهاريج المياه المحلية التي كان يعتمد عليها أغلب السكان، وبدأت تبيع المياه لهم بأسعار تفوق إمكاناتهم، وحتى تلك المياه باهظة السعر لا تصل إلى أغلبهم أصلاً. ونتيجة لذلك وجد الفقراء أنفسهم مضطرين إلى شراء المياه النظيفة بأسعار باهظة من مصادر أخرى.
في سعيهم للتخلص من ذلك الكابوس، خاض سكان جاكرتا معركة قانونية طويلة ضد الشركات الخاصة المسيطرة على قطاع المياه بالمدينة، وفي أكتوبر 2017 أمرت المحكمة العليا بإندونيسيا بإلغاء خصخصة قطاع المياه، وأشارت في حيثيات الحكم إلى أن الخصخصة لم تحسن خدمات المياه بالمدينة سواء من حيث الجودة أو الكمية أو الاستمرارية.
هذه باختصار قصة خصخصة قطاع المياه بالعاصمة الإندونيسية، والتي توضح كيف استطاعت شركتان أجنبيتان بالتعاون مع البنك الدولي وحكومة فاسدة السيطرة على مورد هو بمثابة شريان الحياة لحوالي 10 ملايين إنسان هم سكان تلك المدينة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}