"الحزن سيدوم إلى الأبد".. كانت تلك بعض آخر كلمات الفنان التشكيلي الهولندي "فينسنت فان جوخ" في تعبير يعكس حجم الكآبة والمعاناة النفسية التي خاضها الرسام صاحب العديد من اللوحات الشهيرة والغالية والذي استخدم مهاراته الفنية في إظهار مشاعره وعاطفته.
بعيدًا عن فن الألوان والمشاعر، وبالنظر إلى فن آخر أكثر واقعية يلتفت إلى تغيرات الأرقام أكثر من غيرها، فإن من أهل "الاقتصاد" من يتبنون رؤى وأفكاراً بنكهة وكآبة "فان جوخ" الشديدة، فبعضهم مثلًا يقول إن "ديون الحكومات لن تنتهي أبدًا".
بخلاف مقولة "فان جوخ" والتي تبدو سوداوية بشكل غير مبرر، يبدو الاعتقاد بشأن الديون منطقيًا، فالتعداد السكاني للأرض في تزايد مستمر والتزامات الحكومات أيضًا، وبالتالي ما دامت ستحتاج الدول إلى سداد ديونها الحالية وتلبية طلبات جديدة في المستقبل، فستستمر الاستدانة.
دين جديد يسدد آخر قديماً ودين يلبي حاجة جديدة.. تشير الأرقام إلى تجاوز الديون العالمية مستويات قياسية، وتجاوز الدين العام للولايات المتحدة نسبة 100% من الناتج المحلي الإجمالي، وسط مخاوف وتحذيرات من أن يؤدي ذلك إلى انفجار فقاعة مدمرة للأسواق والاقتصاد العالمي.
شهية لا تهدأ
- الشهية العالمية عمومًا (والحكومية خصوصًا) تجاه الديون ليست المبرر الوحيد لتوقع استمرار الاستدانة، فالدول أصبحت أمامها مساحة أكبر للتوسع في الاقتراض دون تحمل عبء التكاليف، وذلك بفضل التراجع المتواصل في عائدات السندات واستمرار نمو سوق الديون سالبة العائد.
- في ظل المخاوف بشأن مستقبل النمو العالمي ومع تقلبات أسواق الأسهم، تبدو السندات الحكومية لبعض البلدان مثل ألمانيا والولايات المتحدة أكثر أمانًا للمستثمرين، وبالتالي زاد الطلب عليها فازدادت أسعارها وتراجعت عائداتها.
- خلال الأسابيع القليلة الماضية، دخلت العائدات على السندات الألمانية إلى النطاق السالب، أي أن المستثمر لن يحصل على مدفوعات منها، بل سيسترد رأس ماله المستثمر ناقصًا، فيما هبطت عائدات السندات الأمريكية طويلة الأجل إلى مستوى تاريخي.
- مع ذلك، فما دامت هذه السندات مرتبطة بالسوق وتحركها عوامل العرض والطلب، حيث ترتفع الأسعار وتنخفض العائدات مع زيادة الطلب، والعكس بالعكس، فإن هذا الوضع قد يتغير عند مرحلة ما، فمثلًا إذا كانت الآفاق الاقتصادية أكثر وضوحًا وصحة، والأسواق أكثر استقرارًا، ربما نرى عائدات إيجابية مرتفعة مرة أخرى.
- على أي حال، سواء كان على الحكومات دفع عائدات أو عائدات منخفضة أو حتى ستخصم هي قيمة العائد من رأس المال حال خضوع السند لفائدة سالبة، تظل مطالبة بسداد قيمة السند (ولو منقوصة) عند بلوغ أجل استحقاقه مهما طال، بعد 10 أو 30 أو حتى 50 عامًا.
السندات الدئمة.. ما هي؟
- ما دامت الحكومات لديها نهم للاقتراض والحصول على المزيد من الأموال الرخيصة، وفي ظل شهية كبيرة للمستثمرين تجاه هذا النوع من الاستثمار الذي يجدون فيه ملاذهم الآمن حتى إن كانت النتيجة هي تآكل جزء من مدخراتهم بحلول الآجل، فهل من الممكن أن يرتفع نجم نوع آخر من السندات.
- النوع الآخر هو السندات الأبدية أو الدائمة (وتسمى أيضًا بسندات لا منتهية) والقصد من هذه التسمية هو أنه لا يوجد تاريخ استحقاق، وأن المقترض (الحكومة) لن يسدد قيمة الدين سواء كاملة أو زائدة أو ناقصة، وسيكتفي فقط بسداد دفعات الفائدة الثابتة طوال الحياة، إلا إذا أراد هو غير ذلك.
- هذا النوع من السندات ليس من وحي الخيال كبعض رسومات "فان جوخ"، لكن حجمه صغير للغاية نظرًا لأن الكيانات التي تتمتع بالأمان الكافي لتشجيع المستثمرين على ضخ أموالهم في مثل هذه الأوراق المالية، قليلة العدد.
- كان ظهور هذه السندات الأول على يد وزارة الخزانة البريطانية لمعالجة فقاعة بحر الجنوب عام 1720 ثم الحرب العالمية الأولى، بحسب "إنفستوبيديا"، كما كان لها ظهور في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر.
- نظرًا لأن مدفوعات السند الدائم تشبه مدفوعات أرباح الأسهم، حيث إن كلاهما يوفر نوعًا من العائد لفترة غير محددة من الزمن، فمن المنطقي تسعيرهما بنفس الطريقة، لذلك فإن المدفوعات الثابتة تقسم على سعر خصم ثابت يعكس السرعة التي يفقد بها المال قيمته بمرور الوقت (يرجع ذلك جزئيًا إلى التضخم).
- بفضل معدل الخصم ذلك تتآكل القيمة الحقيقية للمدفوعات الثابتة بمرور الوقت حتى أنها قد تهبط إلى الصفر في نهاية المطاف.
السندات الدائمة بين الماضي والحاضر
- في المملكة المتحدة، قررت الحكومة البريطانية عام 2014 سداد واحد من أقدم ديونها، وقالت وزارة الخزانة إنها تنوي رد قيمة السندات الصادرة عام 1927 من قبل "ونستون تشرشل"، والتي يمتلكها 11200 مستثمر (أغلبهم أفراد)، بحسب "فايننشال تايمز".
- بحلول فبراير 2015، أعادت الحكومة رأس المال إلى المستثمرين، في أول واقعة لسداد بريطانيا قيمة سند دائم منذ 70 عامًا، وأوضحت وزارة الخزانة أن عملية الرد البالغة قيمتها 218 مليون جنيه إسترليني (266 مليون دولار) شملت ديونًا مرتبطة بفقاعة بحر الجنوب.
- يرى البعض في هذا النوع من الديون مزايا كبيرة، مثل أنه وسيلة سهلة لتمويل احتياجات الحكومة دون الحاجة لسن خطط لإعادة تمويل الدين، ما يوفر عليها نفقات كبيرة وتجنب مخاطر أسعار الفائدة المتقلبة في المستقبل، كما يوفر مجالًا أكثر ملاءمة لبعض المستثمرين.
- من شأن تداول هذه السندات خلق أسعار فائدة معيارية ترشد الأسواق وتحسن الكفاءة الاقتصادية، إذ يُعين ذلك الوضوح بعض المستثمرين طويلي الأجل مثل صناديق المعاشات التقاعدية والشركات على التخطيط، بحسب تقرير لـ"وول ستريت جورنال" اقترح على الحكومة الأمريكية استغلال هذه الأداة.
- نقلت "رويترز" عن مصادر مطلعة في بنك التصدير والاستيراد الصيني "إكسيم" أواخر أغسطس، قولها إن المصرف يعتزم بيع سندات دائمة بقيمة 30 مليار يوان (4.23 مليار دولار)، مع إمكانية تعديل مستوى العائد كل خمس سنوات.
- جاء ذلك بعد أسبوع من بيع البنك الزراعي الصيني 85 مليار يوان من السندات الدائمة مع عائد نسبته 4.39%، وقالت "بلومبرج" إن إجمالي مبيعات هذا النوع من السندات في الصين بلغ 315 مليار يوان، كما أبدت بنوك صينية أخرى عزمها الدخول إلى هذا السوق.
- يقول تقرير "وول ستريت جورنال" إن العامة يألفون أدوات مالية غير تقليدية مماثلة للسندات الدائمة، مثل الطوابع الدائمة لخدمة البريد في الولايات المتحدة، والتي لا تدفع فائدة لكن ترتفع قيمتها مع زيادة التضخم وتُستخدم كتحوط للعملة.
- كما تصدر الشركات أسهمًا مميزة دائمة، والتي تعتبر أداة دخل ثابت تُقدم توزيعات أرباح دورية، لكنها لا ترد قيمة رأس المال أبدًا.. مثل هذه الأدوات تعد حلولًا استثنائية وأفكارًا خارج الصندوق للحصول على الدين مع الحد من العبء المالي بعد الاستدانة، فهل تكون "السندات الدائمة" الموضة القادمة في عالم الاقتراض بعد "السندات سالبة العائد".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}