منذ تمتع رؤوس الأموال بحرية كبيرة في الحركة بعد اتفاقية "بريتون وودز"، تتبارى الدول المختلفة في محاولة جذب تلك الاستثمارات من خلال توفير الحوافز الملائمة التي تشجعها على الاستقرار دون مغادرة.
ويبدو سبب ذلك منطقيًا وظاهرًا، فالاستثمارات الأجنبية تعني تدفق أموال إلى الدولة تعينها على تشغيل ما لديها من بطالة، واستغلال ما لديها من موارد، وبالتالي تسهم في دفع عجلة النمو وتحقق أهداف التنمية، بما يجعل الدول "تلهث" وراءها.
الميزة النسبية
لذلك، وبطبيعة الحال، تصدرت الولايات المتحدة قائمة الدول الجاذبة للاستثمارات بنحو 400 مليار دولار تقريبًا عام 2018، لما لديها من عوامل جذب متعددة للاستثمارات، تليها المملكة المتحدة والصين بأقل من 50% لكل منهما مما تجذبه أمريكا وحدها.
ونظريًا تحقق الاستثمارات الأجنبية ميزة رئيسية للمستثمرين ولمتلقي الاستثمار، فالمستثمرون يسعون إلى الحصول على عائدات أكبر ويبحثون عن فرص أفضل بعيدا عن الاقتصادات المتشبعة، بينما تستغل تلك الدول تدفقات النقد الأجنبي للحفاظ على النمو، وضمان استقرار سوق العملات الأجنبية.
وهناك دول عديدة بنت تجربتها المعاصرة في النمو الاقتصادي (النسبي) بناء على استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، ولعل أبرزها أنجولا وبنجلاديش، غير أن استقطابها لا يخلو من سلبيات توجب إعادة التفكير فيما إذا كانت الاستثمارات الأجنبية إيجابية على إطلاقها.
وتكشف دراسة لصندوق النقد الدولي، وهو المُشجع لحرية حركة رؤوس الأموال، عن أن اعتماد الدول على الاستثمار الأجنبي يقلص قدرتها على الاستفادة من مزاياها النسبية بشكل كبير، ويستغل مواردها بشكل غير ملائم في كثير من الأحيان.
ففي حالة الدول اللاتينية والآسيوية التي أجريت عليها الدراسة، فإن 70% من الاستثمارت التي تحصل عليها الدول، لا تستغل المزايا النسبية الرئيسية للدولة، ولكن تستغل الموقع أو قلة أسعار المواد الأولية أو العمالة، وهي مزايا أقل أهمية.
الهند مثالًا
فعلى سبيل المثال تم نقل الصناعات الملوثة للبيئة إلى دول أمريكا اللاتينية لقربها من الولايات المتحدة، لترتفع معدلات التلوث في المكسيك وبعض دول أمريكا الوسطى خاصة لتبلغ 3 أضعاف مثيلتها في الولايات المتحدة على الرغم من توجيه غالبية المنتجات إلى المستهلك الأمريكي.
وتعتبر الهند بمثابة نموذج واضح لتبيان "الاستثمار الأجنبي الجيد" من ذلك السيئ، حيث تستغل الكثير من مراكز الاتصالات الأجنبية قدرة الهنود على الحديث باللغة الإنجليزية بصورة جيدة، وتنقل مقراتها أو مقرات خدمة العملاء عبر الهاتف إلى العملاق الآسيوي.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو إيجابيًا للوهلة الأولى، لكن الاستثمارات تكون ضعيفة، والدخل لا يتجاوز 10% مما يحصل عليه الأمريكي أو الأوروبي في نفس المهنة (في بعض التقديرات لا يزيد على 7% فحسب)، بما يجعل آثاره الإيجابية على الاقتصاد محدودة للغاية، وقد تكون سلبية نسبيًا بتفريغ السوق من بعض العناصر الأكثر تأهيلًا به.
وفي المقابل، جذبت الهند استثمارات أجنبية في مجال البرمجيات والكمبيوتر، أدت لارتفاع نسبة إسهام القطاع في الناتج الإجمالي المحلي من 1.2% عام 1998 إلى 7.7% عام 2017 بإجمالي إيرادات سنوية 160 مليار دولار.
الاستثمار الزراعي
وبغض النظر عن عدم استفادة الاقتصاد الهندي كله من عائدات نمو القطاع التكنولوجي (وتلك مشكلة توزيع مرتبطة بإخفاق السياسات الحكومية قبل غيرها)، إلا أن هذه الاستثمارات الأجنبية استغلت ميزة نسبية حقيقية متمثلة في التفوق الهندي في التعليم التكنولوجي، وليس مجرد رخص أسعار العمالة.
وفي الهند أيضًا فإن هؤلاء المرتبطين بشكل مباشر بالاستثمارات الأجنبية يحصلون على أجور تفوق نظراءهم المرتبطين بالاستثمارات المحلية بنسبة تصل إلى 230% بما يخلق اختلالات كبيرة في هيكل الأجور، كما أنه يتسبب في "تجريف" الصناعات الوطنية من الكفاءات الأعلى، في ظل عدم قدرتها على منح نفس الأجور التي تمنحها الشركات العالمية.
وتشير دراسة لمنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (فاو) إلى أن الاستثمار الزراعي في الدول النامية كثيرًا ما جاء ضارًا للدول التي تستقبل الزراعات، وتضرب لذلك مثلًا بالأرجنتين التي استقبلت استثمارات أجنبية واسعة في المجالات الزراعية.
فالدولة اللاتينية استقبلت استثمارات أمريكية وأوروبية لزراعة "فول الصويا" وذلك بسبب احتياج تلك الدول له، وعلى الرغم من الأرباح التي حققتها تلك الزراعة، إلا أن تقديرات المنظمة تشير إلى أنه كان يمكن تحقيق أرباح أكثر بنسبة 30% إذا اعتمدت بونيس آيرس على رأس مال وطني وإنتاج زراعي أكثر تنوعًا.
فبسبب حساسية فول الصويا للتغيرات المناخية، والجفاف أو الفيضانات، خسرت الأرجنتين نسبًا تصل إلى 20% من المحصول في بعض الأعوام، كما أن اضطرارها لاستيراد بعض السلع الزراعية الأغلى ثمنًا جاء بالسلب على حساب الميزان التجاري.
بل إن الاستثمار الزراعي الأجنبي كثيرًا ما يضر بالمستثمر في الدول الفقيرة والمتوسطة، حيث لا يستطيع المزارع هناك أن يستثمر أكثر من 150 دولارا في العام الواحد، وفي مواجهة شركات مسلحة بالمليارات وغياب تنظيم واضح لمزارعي الدول الأفقر فإنهم يكونون في موقف أضعف بكل تأكيد.
الاقتصادات الناشئة
وتظهر "أزمة" الاستثمارات المباشرة عند التعامل مع الأزمة التي يعانيها الكثير من الاقتصادات الناشئة هذه الفترة. فدولة مثل الأرجنتين اضطرت لزيادة سعر الفائدة إلى أكثر من 85% لكي تتمكن من الإبقاء على الاستثمارات الأجنبية على أراضيها، رغم ما يشكله ذلك من تهديد للنمو في ظل ضغوط قوية على عملتها المحلية "البيزو".
ويشير تقرير لـ"إيكونوميست" إلى أن دولًا مثل الأرجنتين وتركيا ونيجيريا وجنوب إفريقيا دأبت خلال السنوات الماضية على استقبال مليارات الدولارات كل عام في الوقت الذي تنسحب منها مليارات أخرى، بما خلق حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي في تلك البلدان.
ووفقًا لتقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي فإن الاقتصادات الناشئة خسرت نسبة نمو تقدر بـ3-4% خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة بسبب استشراء ظاهرة الأموال الساخنة، والتي كثيرًا ما تختلط ويصعب فصلها عن الاستثمارات المباشرة الجادة بما يجعل الأمر مُكلفًا لتلك الاقتصادات.
وتزداد خطورة الاستثمارات المباشرة في الاقتصادات الناشئة التي تعاني من خلل هيكلي في ميزانها التجاري، مثل تركيا، التي تعاني فجوة تصل إلى 28.5% بين الواردات والصادرات، بما يجعل الاستثمارات المباشرة تعمل على البقاء لفترات قصيرة للغاية خوفًا من المزيد من التدهور في سعر صرف العملة (الليرة التركية في هذه الحالة) بما يزيد من حالة عدم الاستقرار الاقتصادي.
كما أن معاناة الكثير من الاقتصادات الناشئة في حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني خلال الفترة الماضية فضح أحد أهم مثالب الاستثمار الأجنبي وهو انسحابه عند بوادر أي خطورة، خلافًا للاستثمارات المحلية التي تكون أكثر تجذرًا في البلاد.
وبالإجمال فإن الاستثمارات الأجنبية أضحت ضرورة، ولكن شريطة "تطويعها" بحيث تكون في خدمة الميزة النسبية للدولة وبحيث تكون جزءا من خطة محددة للنمو تضعها الدولة المستقبلة للاستثمارات ولا تخضع بشكل كامل لخطط المستثمرين التي قد لا تتوافق مع خططها العامة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}