"المنظومة التعليمية الجديدة التي أقرتها الحكومة مؤخرًا أدت إلى ارتفاع التكاليف على الأسر"، "ينبغي على الحكومة إقرار منظومة تعليمية لا تثقل كاهل الأسر بمزيد من الأعباء"، هاتان العبارتان يبدوان صادرتان عن أحد الاقتصاديين المعنيين بتحليل الأداء سواء على المستوى الكلي أو الجزئي للاقتصاد.
في الحقيقة، هاتان العبارتان صدرتا على الأرجح من شخصين مختلفين، ذلك لأنهما لا يحملان نفس الرسالة حتى وإن بدتا يدوران حول معنى قريب -أن المنظومة التعليمية زادت من الأعباء على الأسر ومن الضروري استبدالها- فالأولى تعرض حقيقة مجردة هي ارتفاع التكاليف بسبب المنظومة، والثانية تنصح وتوجه بما يجب فعله.
إذا كان المغزى من علم الاقتصاد هو "البحث في أحوال الإنتاج وتوزيع الثروة وطرق استهلاكها"، والأفرع الرئيسية له واضحة (اقتصاد كلي وجزئي)، فإن طرق التعاطي مع نتائج هذا البحث ليست واحدة على الدوام، وليس صحيح أنها جامدة مجردة من العاطفة كونها كثيرًا ما تركز على الأرقام.
وهذا يعيدنا إلى سبب صدور تعليقين مختلفين على نفس القضية من شخصين درسا نفس العلم وتخصصا به؛ في الحقيقة، إن سبب ذلك هو وجود مدرستي تحليل اقتصادي (وضعي ومعياري)، قد يراهما البعض متناقضتين، أو مختلفتين لا علاقة لإحداهما بالأخرى، أو حتى أن إحداهما تكمل الأخرى.
الاقتصاد الوضعي
- يعرف أيضًا بالاقتصاد الموضوعي أو الاقتصاد الإيجابي، وهو أحد أفرع علم الاقتصاد الحديث، ويتعلق بوصف وتفسير الظواهر الاقتصادية، لكنه يركز على الحقائق والعلاقة بين الأسباب والنتائج ويقيس النظريات ويطورها.
- مثال ذلك أن تخلص أبحاث الاقتصاديين إلى أن "إعادة هيكلة المنظومة الضريبية خففت الأعباء على المستثمرين لكنها قلصت إيرادات الدولة"، أو كما في العبارة الأولى المذكورة في الأعلى، حيث فحص المحلل سبباً ما (إقرار منظومة تعليمية جديدة) ونتيجته (ارتفاع التكاليف على الأسر) وقاس العلاقة بينهما والتي كانت مدعومة بالبيانات.
- في الاقتصاد الوضعي، وكما في المثال السابق، يمكن بسهولة قياس مدى صدق أو صحة المعلومة التي يعرضها الاقتصادي بشكل مجرد، وذلك عن طريق مقارنة البيانات في فترات زمنية مختلفة.
- في المثال السابق، لو كانت إيرادات الدولة 100 مليار دولار سنويًا، وبعد هيكلة المنظومة الضريبية تراجعت محصلة الضرائب بمقدار معين وليكن 10 مليارات دولار وهو ما خفض الإيرادات الإجمالية للدولة، فحينذاك يتبين صدق ادعاء الاقتصادي.
- لكن بالعودة إلى الفقرة الأولى، وتحديدًا العبارة الثانية، إذا كان التقدير الشخصي والتقييم الأخلاقي للاقتصادي هو أن على الحكومة اعتماد منظومة تعليمية تخفف الأعباء عن المواطنين، فهو أمر نسبي قد يختلف من وجهة نظر شخص لآخر، إذ لا يمكن قياسه بشكل محدد كالمعلومة المستنتجة من تحليل البيانات.
- صحيح أن هذا الرأي (والذي يندرج تحت فرع الاقتصاد المعياري) قد يكون استند إلى تحليل الاقتصاد الوضعي في التأكد من زيادة الأعباء، لكن ليس بالضرورة أن الجميع سيتفق على سوء النتائج وبالتالي أهمية بحث الحكومة عن منظومة تعليمية جديدة تحد من التكاليف المطالبة بها الأسر.
- بمعنى آخر، قد يخلص التحليل الموضوعي إلى أن المنظومة الجديدة زادت بالفعل أعباء الإنفاق بمقدار 80 دولارًا للأسرة على سبيل المثال، لكن البعض قد يرى في ذلك منحة للاقتصاد ممثلة في زيادة الإنفاق الاستهلاكي، وربما يرى آخرون أن الأعباء الزائدة غير مؤثرة في ظل توقعهم ارتفاع الأجور.
الاقتصاد المعياري
- هو الفرع أو المدرسة التي تحاول تحديد رغبة الناس في البرامج والظروف الاقتصادية المختلفة، وعادة ما يركز على القيم والأحكام الأخلاقية ذات الصلة بالعدالة، ونجده دائمًا يدور حول مصطلحات مثل "ما يجب فعله"، "يفضل"، "يجدر"، "نحتاج".
- نخلص من ذلك إلى أن فرع الاقتصاد المعياري يركز على إصدار الأحكام المعتمدة على الرأي والقيم التي يعتقد مصدروها أنها تحدد الطريق الأمثل للتنمية والاستثمار وتصل في النهاية إلى أفضل السيناريوهات، وبشكل عام يكون هدفهم التعبير عن رغبة الناس ومصالحهم، بحسب "إنفستوبيديا".
- تتسم البيانات المعيارية بالصرامة، فغالبًا ما تغلف بتوجه سياسي معين أو حتى ديكتاتوري، لذلك نجد أن كثيرين يطلقون على هذا الفرع من الاقتصاد "مدرسة ما يجب أن يكون"، كما طالعنا في العبارة الثانية من الفقرة الأولى والتي يعطي الخبير فيها توجيها بفعل معين يعتقده الأفضل لبلوغ نتيجة يعتقدها أيضًا الأفضل.
- كما ذكرنا في الأعلى، قد يكون هذا التوجيه (المبني على رأي الشخص أو المؤسسة) مستندًا إلى تحليل موضوعي أفاد بأن الأعباء زادت على الأسر بعد إقرار المنظومة الجديدة، لكن أيضًا ربما يكون تجاهل تغيرات أخرى مثل زيادة الإنفاق الاستهلاكي أو نمو الأجور الوشيك.
- لكن ذلك لا يعني أن مثل هذه التحليلات المعيارية هي وسيلة للاستهلاك الإعلامي أو للمعارضة من أجل المعارضة، فكما قلنا، الاقتصاد المعياري في جوهره يحاول أن يكون صوت الناس ويعبر عن مصالحهم ويطالب بتحقيق أقصى استفادة ممكنة من مواردهم.
- في بيئة مثالية يمكن تخيل الاقتصاد المعياري مكملًا للوضعي، بحيث يوجه الأول بما يجب فعله لمعالجة أوجه القصور وتعظيم مصالح الشعب، شرط أن يتم ذلك في إطار يستند إلى النتائج الدقيقة التي خلص إليها نظيره الثاني، والقائمة على بيانات موثوقة، تعكس الصورة الحقيقة والشاملة للاقتصاد.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}