إذا تم إلقاء القبض عليك من قبل العدو في معركة حربية فإن هناك شيء واحد سيحدد فرصتك في البقاء على قيد الحياة. هل يمكنك تخمينه؟ الأمر لا علاقة له بما إذا كنت مصاباً أو في حالة بدنية جيدة، ولا علاقة له أيضاً بعمرك أو بمقدار التدريب والخبرة لديك وإنما يتعلق بما إذا كنت متفائلاً أم متشائماً.
خلال حرب فيتنام تمكن الفيتناميون الشماليون من إلقاء القبض على عدة آلاف من الجنود الأمريكيين الذين تم اعتبارهم أسرى حرب. وتم احتجاز هؤلاء الجنود في زنازين صغيرة تعرضوا خلالها للتعذيب والضرب والتجويع، بينما قضى بعضهم سنوات في الحبس الانفرادي.
مات المتفائلون
في نهاية الحرب لم يعد إلى أمريكا سوى 591 جندي فقط. فقد مات الآخرون. كيف نجى هؤلاء الـ591 دون غيرهم؟ وجه هذا السؤال إلى أحد الناجين وهو الطيار "جيمس ستوكديل" الذي ظل أسيراً لدى الفيتناميين لأكثر من 7 سنوات، والذي قال: "الإجابة سهلة جداً. من لقوا حتفهم هم المتفائلون!".
في فيتنام، اعتقد الأسرى المتفائلون في البداية أنهم سيعودون إلى الوطن بحلول عيد الميلاد، وعندما لم يحدث ذلك ظنوا أنهم سيغادرون في عيد الصفح، ولكن هذا لم يحدث أيضاً، فاعتقدوا أن الخبر السعيد سيكون في الرابع من يوليو ثم عيد الشكر ثم عيد الميلاد في العام التالي، وهكذا ظلوا يتنقلون من أمل لأخر.
مشكلة هؤلاء الأسرى هي أنهم مشوا في درب وعر جداً من الأمل والوهم الزائفين. فقد ظلوا لسنوات يستيقظون كل صباح في زنازينهم شديدة الحرارة يمنون أنفسهم باليوم الذي سيخرجون فيه من هذا الجحيم. وفي النهاية تحطمت قدرتهم على التحمل وضعفت رغبتهم في العيش بسبب إحباطاتهم المتتالية. يتذكر "ستوكديل" ما حدث ويقول: "أعتقد أنهم جميعاً ماتوا بسبب إنكسار قلوبهم".
على الجانب الآخر، قبل الأسرى المتشائمون بحقيقة وضعهم، وهو ما ساعدهم على التنقل بسرعة بين مراحل الحزن: الحرمان ثم الغضب ثم التوسل ثم الكآبة وأخيراً القبول بالأمر الواقع. وعلى عكس زملائهم المتفائلين لم يخلط هؤلاء أبداً بين الخيال والواقع. باختصار كان لدى الجنود المتشائمين الانضباط الكافي لمواجهة حقائق أكثر وحشية من تلك التي عاشوها بالفعل.
سر "بافيت" الكبير
الأمر قد يكون مثيراً للسخرية وربما الاستغراب، ولكن التشاؤم كسلوك وكشعور قد تكون له جوانبه المشرقة في بعض الأحيان. فالتشاؤم قد يمنحك أدوات مهمة تجعلك قادراً على التعامل مع الأسوأ.
ولكن في سوق الأسهم لا تمضي الأمور بنفس الكيفية. حيث تشير الكثير من الأبحاث والدراسات إلى أن التشاؤم غالباً ما يعمل ضد المصالح المالية للمستثمرين الذين يسيطر عليهم ذلك الشعور وإن كان يخفف من الوطأة النفسية للخسارة عليهم. ورغم ذلك لا يزال باستطاعتنا نحن المستثمرين الاستفادة من التشاؤم كحالة وسلوك في جني مكاسب معتبرة. وأبرز من يجيد هذا التكنيك هو المستثمر الأمريكي الشهير "وارن بافيت".
قبل أن نبدأ يجب أن تعرف شيئاً مهماً عن "وارن بافيت" وهو أنه لا "يلعب" في البورصة، على الأقل لا يلعب بالمعنى التقليدي للكلمة. فهو لم يكن أبداً مهتما بالترند أو الاتجاهات الرائجة في السوق، ودائماً ما كان يتجنب الاستثمارات الشائعة التي يتحدث عنها الجميع، ولم يتورط أبداً فيما يسمى استثمار الزخم، والذي يفترض أن السهم جذاب إذا كان سعره يرتفع بسرعة أو غير جذاب إذا كان سعره يتراجع بسرعة.
وهذا ربما هو الجزء الأكثر غرابة في فلسفته الاستثمارية، فطوال حياته حرص "بافيت" على تجنب كل الترندات والاتجاهات الرائجة التي تظهر من آن لأخر في السوق. وهو نفسه لا ينكر أن فلسفته تلك فوتت عليه الكثير من الفرص وجعلته يغيب عن مسرحيات "وول ستريت" الكبرى.
ورغم ذلك تمكن هذا الرجل من تحويل استثمار مبدئي قدره 105 آلاف دولار إلى ثروة تقدر اليوم بنحو 85 مليار دولار عن طريق الاستثمار فقط في سوق الأسهم. كيف فعلها؟ إليك السر الكبير:
"بافيت" لم يحقق ما حققه لأنه أفضل من يفهم السوق أو أفضل من يختار الأسهم بل لأنه كان بارعاً في استغلال هفوات المستثمرين الأفراد والمؤسساتيين الذين يحركون بسلوكهم السوق. "بافيت" يا سادة هو أفضل مستغل للحماقة التي تنتج عن تشاؤم المستثمرين وقصر نظرهم.
من يحرك السوق؟
معظم المستثمرين سواء الأفراد أو المؤسساتيين منهم يدخلون السوق بحثاً عن الأموال السهلة والأرباح السريعة، ولذلك تجد أن أساليبهم وفلسفاتهم الاستثمارية تم تطويرها بشكل يعكس قصر نظرهم.
يعتقد "بافيت" أن القرارات الاستثمارية التي تتخذ في ضوء متغيرات قصيرة الأجل دائماً ما تتحول إلى كوارث مالية. ولذلك يحرص من خلال شركته "بيركشاير هاثاواي" على اقتناص أسهم الشركات التي ربما يحاول بشدة معظم المستثمرون وصناديق الاستثمار بيعها. ويشتري تلك الشركات بلا خوف لأنه يثق في أساسياتها ويعرف أنها سعر سهمها سيتعافى مستقبلاً.
يبرع "بافيت" في القيام بتلك الحركة أكثر من أي شخص آخر في السوق لأنه اكتشف شيئين لا يدركهما سوى عدد قليل من المستثمرين. الأول هو أن ما يقرب من 95% من المشاركين في السوق تحركهم دوافع قصيرة الأجل. فهم دائماً ما يشترون على الخبر الجيد ويبيعون على الخبر السييء بغض النظر عن أساسيات السهم وجودة أعمال الشركة على المدى الطويل.
هذه هي عقلية القطيع في أكثر أشكالها كلاسيكية، وهي أيضاً الطريقة التي يستثمر بها معظم المشاركين بالسوق. فإذا حاولت النظر إلى الدوافع وراء قرارات البيع والشراء التي يتخذها المستثمرون كل يوم ستجد أن معظمها يتعلق بأشياء من نوعية زيادة ربع سنوية في الأرباح أو العكس أو ارتفاع السهم بسرعة أو توقعات بارتفاع وانخفاض الأرباح الفصلية، أو أي أشياء من هذا القبيل.
الكثير من المستثمرين حين تتراجع أسعار الأسهم يندفعون إلى البيع محاولين القفز مما يعتقدون أنها سفينة غارقة لا لشيء إلا لأنهم يرون الآخرين يفعلون ذلك. وهذا في الحقيقة جنون، ولكنه ذلك الجنون الذي يمكنه أن يخلق لك أفضل الفرص.
أدرك "بافيت" أن حالة التشاؤم التي تسيطر على المستثمرين تزامناً مع خروج أي خبر سلبي عن الشركة عادة ما تدفع سعر السهم إلى ما دون قيمته الجوهرية، وغالباً ما يتم تجاهل حالة الأساسيات، وهي ظاهرة تسمى "ظاهرة الأخبار السيئة".
أما العامل الثاني وراء نجاح "بافيت" فيكمن في إدراكه لحقيقة أنه عاجلاً أو آجلاً ستنعكس الأساسيات على سعر السهم. بمعنى أنه سيأتي حتماً اليوم الذي سيعود فيه كل من السهم المبالغ في تقييمه والسهم المقيم دون قيمته الجوهرية إلى قيمتهما الحقيقية.
"نحن نحب التشاؤم"
مهما طال الزمن ستتراجع في النهاية الأسهم المبالغ في تقييمها، وهو ما سيكلف المستثمرين بها الكثير من الأموال. وهذا هو السبب وراء أن الكثير من الاستثمارات الرائجة التي يتكالب عليها المستثمرون عادة ما تنتهي على نحو سييء وتكلف الناس ثروات هائلة. وفقاعة 2006 ليست عنا ببعيد.
الشركات التي يتم تداولها دون قيمتها الحقيقية والتي تتمتع بأساسيات قوية وصلبة دائماً ما يرتد سعرها للأعلى ليعكس قيمتها الجوهرية، مما يجعل المستثمرين بها أكثر ثراءً. وهذا يعني أن السهم غير المرغوب به الذي يهرب منه المستثمرون اليوم قد يكون نجماً ساطعاً الغد.
باختصار إن ما جعل "بافيت" أحد أغنى أغنياء الأرض هو إدراكه أن عقلية المدى القصير التي تسيطر على أغلب المشاركين في السوق تقلل في كثير من الأحيان من قيمة الكثير من الشركات الجيدة وتسعرها بأقل مما تستحقه. فالسوق أحياناً يبالغ في رد فعله تجاه الأخبار السيئة بشكل يظلم الكثير من الشركات، ولكنه في نفس الوقت يجعلها فرصاً جيدة لآخرين يركزون على المدى الطويل.
طوال حياته لم يحاول "بافيت" أبداً المضاربة، ليس لأنها غير مربحة ولكن لأنها ليست لعبته. ولم يمتلك "بافيت" أبداً أسهما في "ياهو" أو "أمازون" أو "لونست" أو أي شركة أخرى من شركات التكنولوجيا في عز طفرة الإنترنت في التسعينيات، وهو ما قد يراه البعض جنوناً.
"بافيت" ببساطة يحب أن يشتري الأسهم غير المحبوبة التي يعزف عنها الجميع ويبيعونها بأسعار رخيصة متجاهلين قيمتها الكامنة. ولذلك فهو دائماً ما يحرص على متابعة أسهم بعض الشركات من بعيد قبل أن يقفز عليها ويقتنص أكبر عدد منها بمجرد خروج أي خبر سلبي حولها يقلل من سعرها. هكذا جنى "بافيت" الـ85 مليار دولار خاصته.
قال "بافيت" ذات مرة: "إن السبب الأكثر شيوعاً وراء انخفاض أسعار الأسهم هو التشاؤم، وخاصة إذا كان واسع النطاق بحيث يشمل القطاع أو الصناعة. نحن في "بيركشاير هاثاواي" نحب التشاؤم لدوره في خفض أسعار الأسهم." ما يحاول "بافيت" قوله هنا هو أن التشاؤم وليس التفاؤل هو ما ساعده على بناء ثروته الضخمة.
لماذا 5% فقط؟
لكن لماذا نقول إنه لن يستفيد من هذه النصيحة سوى 5% من مستثمري سوق الأسهم؟ أولاً هذه بالأساس نسبة متفائلة جداً، حيث إن أولئك الذين لديهم الشجاعة الكافية للشراء حين يسود التشاؤم السوق ويهرع الجميع للبيع نسبتهم أقل من ذلك بكثير.
ثانياً، إن أغلب المشاركين في السوق أو 95% منهم أجبن من أن يتخذوا مثل هذه الخطوة، وغالباً ما ينحصر دورهم في اللعبة في خلق الفرص للـ5% الأكثر صبراً وشجاعة. ولذلك فإن هذا التقرير موجه بالأساس لتلك الفئة لأنها الأقدر على الفعل، أما الباقي فتنحصر مهمتهم في أن يتشاءموا وينظرون تحت أقدامهم فيتخذون أي قرار لمجرد شعورهم بضرورة أن يفعلوا شيئاً ما.
هذا هو قانون التدافع في أي مجال تنافسي وليس في سوق الأسهم فقط. فالأغلبية تتغابى وتتصرف بحماقة فتخلق الفرص للأقلية التي تجلس في السوق تترصد تلك الهفوات وتحرص على استغلالها أفضل استغلال.
قيلت قبل ذلك ولا مانع من تكرارها هنا مرة أخرى لعلها تجد صدى: إن الفوراق الموجودة بين المستثمر الناجح ونظيره الفاشل في سوق الأسهم هي بالأساس فوارق نفسية وسيكولوجية.
فمهما نصحت المستثمر الذي يتشائم وترتعد فرائسه بمجرد خروج أي خبر سلبي عن سهم يمتلكه ويندفع للبيع فلن يستفيد حتى لو اقتنع، لأنه ببساطة لا يمتلك القوة النفسية التي تمكنه من تمالك أعصابه، وشخص مثل هذا قد يفضل أن تضربه بالرصاص ولا تجعله يحتفظ بسهم في سوق هابطة، فما بالك لو قيل له اشتري حين يبيع الجميع؟ هو طبعاً أجبن من ذلك بكثير.
لذلك لا تستغرب أبداً من "بافيت" حين قال: "أحب التشاؤم"، فهو في الحقيقة لا يحب ذلك الشعور لذاته وإنما يحب المتشائمين الذين يخلقون له الفرص.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}