هل سبق لك أن تخيلت "يوسين بولت" (أسرع رجل في العالم) يعمل محاسبًا في شركة ويتفوق في مجاله، أو المستشارة الألمانية "أنجيلا ميركل" تعمل ممثلة كوميدية؟.. في الحالتين لم يكن أيهما ليحقق نجاحًا وكان العالم ليفقد "موهبة" في المجال الرياضي وأخرى في العمل السياسي.
الكل يظنون أنهم الأفضل
كتاب "وهم الموهبة" للكاتب وعالم النفسي "توماس تشامورو بريمزيك" يحاول الوصول إلى أسباب مبالغة كثيرين في قدراتهم وشعورهم بأنهم "أفضل من غيرهم" بشكل عام، حتى إن لم يكونوا كذلك في الواقع، بل وربما يكونون أقل.
وعلى سبيل المثال فإذا كنت تقيّم مهاراتك في القيادة أعلى من المتوسط، فهذا يعني أنك بين 90٪ من الأشخاص الذين يقودون سياراتهم ويقيّمون أنفسهم ضمن أفضل 10٪ من السائقين، بل وتصل النسبة إلى تقييم 60% من السائقين لأنفسهم ضمن أفضل 1% من السائقين، باختصار فإن كل شخص يرى نفسه أفضل.
ويرى "بريمزيك" أن غالبية الناس لا يستطيعون تحديد موهبتهم الحقيقية، وبناء على ذلك يضيعون الوقت والجهد في أماكن "ليست لهم"، والنتيجة النهائية هي أن معظم الناس يكرهون وظائفهم، حيث "الباحثون عن عمل السلبيون"، أي هؤلاء الذين يكرهون وظائفهم دون عمل شيء لتغييرها أو تغيير مجال العمل يشكلون 75 ٪ من القوى العاملة بدوام كامل.
وهنا تبرز الأزمة في أن معظم ممارسي إدارة المواهب وصناع القرار في هذا المجال يعتمدون بشكل كبير على "الحدس"، وليس على البيانات، وذلك بسبب "اعتقادهم" بأنهم يعرفون الموهبة فور رؤيتها وأن بوسعهم إدارتها بأفضل شكل ممكن، ولكن دون الاعتماد على وسائل علمية لتحقيق ذلك.
العمل الجاد أم الموهبة؟
وفي العصور القديمة، كان يُشار إلى كلمة "موهبة" بأنها مقياس من الفضة تم دفعه مقابل عمل شخص ما، وذلك بعد إسهام الأخير في زيادة الإنتاج بشكل لافت وتحسينه بما يؤدي لحصوله على عائد أكبر من أي عامل -أو موظف- آخر بسبب فارق الإنتاجية.
ودائمًا ما يُثار التساؤل حول أهمية الموهبة في مواجهة العمل الجاد، وتكشف إحصائيات باستمرار عن تفوق العمل الجاد على الموهبة، حتى وإن كان العمل متعلقًا بالموهبة بالأساس، مثل بعض الألعاب الرياضية، وإن كانت الموهبة مؤثرة بالطبع ولكن إذا افتقدت للعمل الجاد فإن الأخير يربح دائمًا.
وعلى سبيل المثال تكشف الإحصاءات المتعلقة بالإدارة أن أفضل 20٪ من الموظفين من حيث الأداء يساهمون بنسبة 50-80٪ من نتائج أي مؤسسة، وغالبًا ما يكون نسبة العشرين بالمائة تلك مزيجًا من أصحاب المواهب وغير أصحاب المواهب (في مجال العمل تحديدًا) ولكنهم دائمًا ما يكونون من بين العاملين بجدية.
ووفقًا لإحصاءات علم النفس فإنه نادرًا ما يتم استغلال مواهب العاملين في مجال ما، ففي الدول المتقدمة لا يتعدى استغلال المواهب بشكل عام 14%، بينما لا تتخطى النسبة 5% في الدول النامية، وذلك للعديد من الأسباب المتعلقة بوجود نظام لاستغلال المواهب من عدمه وقواعد العمل نفسها.
الموهبة "المُعرقلة"
والشاهد أنه في كثير من الأحيان ما تصبح "الموهبة المحبطة" بمثابة "عامل تثبيط" للعمل، فهؤلاء الموهوبون الذي يساء استغلال مهاراتهم في العمل تنخفض إنتاجيتهم عن هؤلاء الذين لا يتمتعون بالموهبة بنسبة 40% في المتوسط بما يوحي بانقلاب الموهبة لتصبح سلاحًا ذا حدين.
فمن "يشعر" بتفوقه يشعر بالإحباط وغالبًا ما ينشره حوله، وبجانب خسارة الأعمال لإنتاجه المتميز، فإن زملاءه في العمل قد يلتقطون "رسالة غير مطلوبة" بأن طريقهم للتفوق لا يمر عبر شحذ مواهبهم واستغلالها والتفاني في العمل، ولكن عبر وسائل أخرى قد لا تكون صحية للعمل مثل مداهنة الرؤساء على سبيل المثال.
وبناء على ذلك يدعو مؤلف الكتاب لاستبدال "الحدس والفراسة" في اكتشاف المواهب بالبيانات، ومن ذلك الدعوة إلى "بنك بيانات المواهب" بمعنى تسجيل قدرات كل شخص "فور اكتشافها"، مشيرًا إلى تجربة الشركات التكنولوجية الأمريكية في النمو اللافت بسبب تسجيل المواهب في هذا المجال.
فمعظم المواهب يتم إدارتها كما لو كانت تعمل في نفس الظروف التي سادت منذ 50-60 عامًا، فيتم الاعتراف بقدراتها دون تقديرها لا ماديًا ولا معنويًا ولا حتى تصعيد المواهب أو منحها موقعًا متميزًا بما يزيد من حالة الإحباط لدى تلك المواهب ويجعلها تُشبه "الفخاخ المتفجرة".
إحباط واستثمار
ومن بين أكثر العوامل المُحبطة للمواهب الخلط بين الرؤساء أو القادة أو الزعماء من جهة والموهبين من جهة، فالفئة الأولى غالبًا ما تسيطر على صناعة القرار، وهو وضع قائم منذ بدأ الإنسان التجمع في جماعات كبيرة قبل 10 آلاف عام، ويحظون بالتقدير عند تقييم الإنجازات على حساب أولئك المتمتعين بالموهبة.
وفي المقابل، فجزء كبير من نمو شركات التكنولوجيا، والتي تصل إلى 30%، التي تعتمد على المواهب والمهارات البشرية يرتكز على قدرتها على فرز المواهب التي ترتفع نسبتها في تلك الشركات عن نظيرتها في القطاعات الأخرى بنسب تصل إلى 40-70%.
وتؤثر درجة الاستفادة بالمواهب بشكل كبير على نتائج أعمال الشركات، ولعل ذلك هو ما يميز شركة مثل "جوجل"، حيث هناك نوعان من القواعد في الشركة، الأول يشمل كافة موظفي الشركة، ويتضمن مواعيد حضور وانصراف مرنة بدرجة ما وقواعد دخل واضحة وصارمة إلى حد ما.
أما المجموعة الثانية فتشمل هؤلاء الموهوبين، وغالبًا ما ترتكز على الإنجاز بمواعيد مرنة للغاية، قد تصل إلى حد عدم وجود دوام رسمي لهم إطلاقًا، ومنحهم مكافآت استثنائية ماديًا، فضلًا عن منحهم مواقع متميزة بأن يبلغوا تقاريرهم لرؤساء الإدارات مباشرة بدلًا من الرئيس المباشر.
ترتيب مختلف
ويستفيد مثل هذا التنظيم من حقيقة أن أصحاب المواهب قد لا يكون ترتيب احتياجاتهم مثلما يقره "ماثلو" في هرمه الشهير للاحتياجات (والذي يضع الاحتياجات الرئيسية مثل الغذاء والمأوى ثم الحاجة للأمان يليهما الحاجات الاجتماعية ثم الحاجة للتقدير وفي الأعلى تحقيق الذات).
ففي الكثير من حالات المواهب المتفوقة ما تكون حاجاتهم الأساسية مؤمنة بفعل قدراتهم المتميزة، ولكن يبقى الحاجات في أعلى الهرم، أي الحاجة للتقدير وتحقيق الذات، في أولوية متقدمة بالنسبة إليهم وهو ما على الأعمال التعامل معه بحكمة إذا أرادت استخلاص أفضل ما لديهم من قدرات.
وينقل الكتاب تقديرات اقتصادية بإمكانية توسع الاقتصاد العالمي بنسبة قد تصل إلى 20-50% إذا تم اتباع نظم علمية ترتكز على البيانات، أي الإحصاءات التي تشير لتفوق موهبة بعينها في مجال محدد واستغلال هذه الموهبة بما ينعكس إيجابًا على الإنتاجية والإنتاج.
وعلى ذلك تبدو الموهبة مرتكزًا هامًا للغاية، ولكن عدم استغلالها يؤدي بالضرورة لنتائج عكسية، فبدلًا من التمتع بوفورات القدرات الشخصية المتميزة ينتهى الأمر بالشركة إلى إهدار مواهب مثل "بولت" الذي قد يتحول فيها إلى قوة للتدمير لا موهبة للإضافة.
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}