في مساء الثلاثين من يوليو من عام 1975 غادر رئيس جمعية سائقي الشاحنات في الولايات المتحدة "جيمي هوفا" أحد المطاعم بمدينة ديترويت الأمريكية قبل أن يختفي في ظروف غامضة. ومن المعتقد على نطاق واسع أنه تعرض للقتل، ولكن رغم مرور ما يزيد على 44 عاماً على اختفائه لم يتمكن مكتب التحقيقات الفيدرالي من تحديد مكان رفاته حتى اليوم.
في الأوساط الشعبية الأمريكية نسج الناس الكثير من الأساطير والقصص حول مكان جثة "هوفا"، حيث رجح البعض أنه تم دفنه في مكب النفايات في نيوجيرسي، بينما أشار آخرون إلى محطة الصرف الصحي بميتشيجان ومنطقة الأراضي الرطبة "إيفرجلادز" بفلوريدا باعتبارهما مكانين من المرجح وجود جثة الرجل في أيهما.
كل ما سبق يظل مجرد تكهنات، لكن لو كان هناك شيء واحد مؤكد فهو أن من دفن جثة "هوفا" كان حريصاً جداً على ألا يُعثر عليها أبداً.
في سوق الأسهم تتمنى العديد من الشركات لو أنها تستطيع إخفاء خداعها وتلاعبها بالبيانات المالية عن أعين المستثمرين إلى الأبد تماماً كما فعل قتلة "هوفا"، غير أن ذلك نادراً ما يحدث حيث إنهم غالباً ما يتركون وراءهم أدلة تسهل كشف أمرهم حتى ولو بعد حين.
الوقوع في المحظور
في نهاية عام 2000 وجدت شركة قطع غيار السيارات الآيرلندية "ديلفي كوبوريشن" نفسها في مأزق وذلك بعد ما يزيد على عام من خروجها من تحت عباءة "جنرال موتورز" في مايو 1999. حينها كانت إدارة الشركة عازمة على إظهار أن "ديلفي" قائمة بذاتها وتستطيع النجاة وحدها.
ولكن النوايا الحسنة وحدها لا تكفي. لم تمض الأمور على النحو الذي كانت تأمله إدارة الشركة، فقد كانت صناعة السيارات تترنح، وكان الاقتصاد بشكل عام يتعرض لضغوط. وفي مواجهة تلك الأوضاع لجأت إدارة "ديلفي" إلى استخدام مخططات احتيالية لتضخيم نتائجها المالية وإظهارها على نحو أفضل مما هي عليه في الواقع.
استمرت عمليات "ديلفي" في التدهور ربعاً بعد آخر إلى أن وصلت إلى الربع الأخير من عام 2000، والذي وجدت فيه الشركة نفسها مضطرة لأول مرة لإخبار المستثمرين بأن تدفقاتها النقدية التشغيلية أصبحت بالسالب. كان هذا بمثابة ضربة مدمرة للشركة، لأن الإدارة كانت طوال الوقت تسلط الضوء على التدفقات النقدية التشغيلية كدليل على الأداء التشغيلي القوي (المزعوم) للشركة.
من أجل الخروج من هذا المأزق وتجنب إخبار المستثمرين بتلك الحقيقة كان على "ديلفي" تدبير مخطط احتيالي.
في الأسابيع الأخيرة من ديسمبر من عام 2000 ذهبت "ديلفي" إلى مصرفها "بنك وان" وعرضت عليه شراء ما قيمته 200 مليون دولار من مخزونها من المعادن النفيسة. قد يقول قائل وما هي مصلحة البنك في شراء ذلك المخزون فهو في النهاية ليس شركة لتصنيع قطع غيار السيارات؟
وهذا بالفعل صحيح وهو ما كانت تدركه إدارة "ديلفي" لذلك عمدت إلى صياغة عقد البيع بطريقة تلزمها بإعادة شراء المخزون مرة أخرى من البنك بعد بضعة أسابيع (وتحديداً بعد نهاية العام) ولكن بسعر أعلى من سعر البيع الأصلي بنحو 3.5 مليون دولار.
ما الذي يحدث هنا؟
"ديلفي" من المفترض أنها حصلت بذلك على قرض قصير الأجل بقيمة 200 مليون دولار من "بنك وان". وطبقاً للإجراءات المتبعة مع جميع القروض المصرفية المشابهة طلب "بنك وان" من "ديلفي" تقديم ضمانة ضد احتمال عدم التزامها بالسداد، والضمانة في هذه الحالة كانت مخزون الشركة من المعادن النفيسة.
وبناء على ذلك كان يجب على "ديلفي" تسجيل الـ200 مليون دولار التي حصلت عليها من "بنك وان" كقرض يظهر أثره في قائمة التدفقات النقدية التمويلية. مثل أي قرض عادي كان من المفترض أن تزيد هذه المعاملة من قيمة بندي النقدية والخصوم في ميزانية "ديلفي" العمومية.
ولكن بدلاً من تسجيل هذه المعاملة بطريقة تتفق مع نوايا طرفيها أي كقرض أشارت "ديلفي" بوقاحة في بياناتها المالية إلى قيامها ببيع مخزونها من المعادن النفيسة في عملية تجارية عادية. وبذلك تمكنت الشركة من تضخيم إيراداتها وأرباحها، كما رفعت قيمة تدفقاتها النقدية التشغيلية بالـ200 مليون دولار التي حصلت عليها مقابل "بيع" المخزون.
كما هو موضح في الجدول التالي، لولا الـ200 مليون دولار التي سجلتها "ديلفي" زوراً كإيرادات بيع مخزونها من المعادن النفيسة لسجلت الشركة تدفقات نقدية تشغيلية لا تتجاوز الـ68 مليون دولار عن العام بأكمله (بدلاً من الـ268 مليون دولار المبلغ عنها).
التدفقات النقدية التشغيلية لـ"ديلفي" بعد إزالة أثر القرض المزيف (بالمليون دولار) |
|
البند |
عام 2000 |
التدفقات النقدية التشغيلية |
268 |
طُرح منها المال المقترض المسجل زوراً كتدفق نقدي تشغيلي |
(200) |
التدفق النقدي التشغيلي الحقيقي |
68 |
كانت هذه الصفقة مجرد غيض من فيض من مخططات الاحتيال المالي التي تورطت فيها الشركة منذ لحظة انفصالها عن الشركة الأم "جنرال موتورز". وبكفاءة تحسد عليها تمكنت إدارة "ديلفي" من إخفاء آثار أنشطتها الاحتيالية حتى عام 2004 وهو نفس العام الذي فتحت فيه هيئة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية تحقيقاً موسعاً حول أنشطة الشركة.
ملاعبة المستثمرين والمحللين
على الرغم من أن الشركة قللت في البداية من أهمية ذلك التحقيق إلا أنه بحلول مارس من عام 2005 اضطرت "ديلفي" للاعتراف بأن جميع البيانات المالية التي قامت بإصدارها منذ انفصالها وتحولها إلى شركة عامة كانت خاطئة ومضللة، مؤكدة على أنها ستقوم بإعادة إصدار البيانات المالية الصحيحة، لينخفض السهم على أثر تلك التصريحات من 21.69 دولار إلى 6 دولارات فقط.
وفي ما يلي ملخص لأهم البنود التي عدلتها "ديلفي" في بياناتها المالية المعاد إصدارها في يونيو 2005.
ملخص لأهم التعديلات التي أجرتها "ديلفي" على بياناتها المالية "مليون دولار" |
||||||||
البند |
2000 الأصلية |
2000 المعدلة |
2001 الأصلية |
2001 المعدلة |
2002 الأصلية |
2002 المعدلة |
2003 الأصلية |
2003 المعدلة |
صافي المبيعات |
29139 |
29224 |
26088 |
26302 |
27427 |
27641 |
28096 |
28077 |
صافي الدخل (خسارة) |
1002 |
817 |
(396) |
(428) |
342 |
318 |
(56) |
(10) |
ربحية (خسارة) السهم الأساسية بالدولار |
1.78 |
1.46 |
(0.71) |
(0.76) |
0.61 |
0.57 |
(0.10) |
(0.02) |
الأرباح المحتجزة |
1869 |
-- |
1343 |
1003 |
1454 |
-- |
1241 |
997 |
من خلال الانخراط في مثل هذه الأنشطة الاحتيالية تمكنت "ديلفي" من تضخيم أرباحها بشكل مصطنع جعلها تلبي أو تتجاوز توقعات محللي وول ستريت بشكل دائم تقريباً.
فكما هو موضح في الجدول أدناه، تمكنت "ديلفي" من تلبية أو تجاوز توقعات المحللين لمستوى ربحية السهم خلال الأرباع الـ19 التالية للحظة انفصالها عن "جنرال موتورز".
مقارنة ربحية السهم المبلغ عنها من قبل "ديلفي" مع توقعات المحللين (بالدولار) |
|||
الفترة |
متوسط توقعات المحللين |
ربحية السهم المبلغ عنها من قبل الشركة |
الفارق |
1999 |
|||
الربع الرابع |
0.46 |
0.48 |
متجاوزة بـ0.02 |
نهاية عام 1999 |
1.90 |
1.91 |
متجاوزة بـ0.01 |
2000 |
|||
الربع الأول |
0.56 |
0.57 |
متجاوزة بـ0.01 |
الربع الثاني |
0.75 |
0.75 |
متوافقة |
الربع الثالث |
0.26 |
0.26 |
متوافقة |
الربع الرابع |
0.32 |
0.36 |
متجاوزة بـ0.04 |
نهاية عام 2000 |
1.90 |
1.94 |
متجاوزة بـ0.04 |
2001 |
|||
الربع الأول |
0.05 |
0.04 |
متجاوزة بـ0.01 |
الربع الثاني |
0.29 |
0.29 |
متوافقة |
الربع الثالث |
0.05 |
0.05 |
متوافقة |
الربع الرابع |
0.10 |
0.10 |
متوافقة |
نهاية عام 2001 |
0.40 |
0.40 |
متوافقة |
2002 |
|||
الربع الأول |
0.21 |
0.22 |
متجاوزة بـ0.01 |
الربع الثاني |
0.39 |
0.39 |
متوافقة |
الربع الثالث |
0.08 |
0.10 |
متجاوزة بـ0.02 |
الربع الرابع |
0.20 |
0.21 |
متجاوزة بـ0.01 |
نهاية عام 2002 |
0.91 |
0.92 |
متجاوزة بـ0.01 |
2003 |
|||
الربع الأول |
0.22 |
0.23 |
متجاوزة بـ0.01 |
الربع الثاني |
0.16 |
0.16 |
متوافقة |
الربع الثالث |
0.01 |
0.01 |
متوافقة |
الربع الرابع |
0.21 |
0.23 |
متجاوزة بـ0.02 |
نهاية عام 2003 |
0.062 |
0.62 |
متوافقة |
2004 |
|||
الربع الأول |
0.20 |
0.22 |
متجاوزة بـ0.02 |
في الحقيقة يجب الاعتراف أن إدارة "ديلفي" كانت تعرف كيف تلاعب المستثمرين والمحللين جيداً. فأكثر المستثمرين الذين يسمعون طوال الوقت حول المخططات التي تقودها بعض الشركات في سعيها للتلاعب بالإيرادات يركزون بشكل كبير على قائمة التدفقات النقدية باعتبارها قادرة على كشف حقيقة الأداء المالي للشركة ظناً منهم أن الثانية أقل عرضة للتلاعب من الأولى.
ولكن هذا سلوك غير حكيم، ويجب على المستثمرين أن يفهموا أن الإيرادات المزيفة قد تشير أيضاً إلى أن التدفقات النقدية وبالأخص التشغيلية منها هي الأخرى مزيفة كما هو الحال في قضية "ديلفي". لذلك إذا كنت كمستثمر تشك في قيام الشركة بتسجيل إيرادات وهمية فليس الحل أن تركز على التدفقات النقدية التشغيلية التي قد تكون مزورة أيضاً.
المصادر: أرقام – هيئة الأوراق المالية والبورصات – نيويورك تايمز – محاضر محكمة مقاطعة المنطقة الجنوبية لولاية نيويورك الأمريكية – كتاب "الاحتيال في القوائم المالية" لـ"جيرارد زاك" – كتاب "خدع مالية" لـ"هوارد شيليت".
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}