تعتبر الموسوعة الأمريكية أن علم الاقتصاد يشترك مع الكثير من القواعد الأخلاقية في فكرة بحث كل منهما عن السلوك الرشيد، فالاقتصاد يسعى لتعظيم الإنتاجية، ولتحسين أنماط الاستهلاك، بينما تدعو القواعد الأخلاقية من جهتها إلى الرشد أيضًا، ولكن في التعاملات بين البشر، بالعدل والتزام قيم الأمانة والصدق وغيرها من الصفات الحميدة.
تشابه نظري
وعلى الرغم من هذا التشابه "النظري" إلا أنه كثيرًا ما يثار التساؤل حول المكاسب والأضرار الناجمة عن الالتزام بالأخلاق في إدارة الاقتصاد، ليبرز فرع يعرف بـ"الاقتصاد الأخلاقي" يحاول الوصول لصيغة توافق بين ما هو اقتصادي وما هو أخلاقي.
وتشير دراسة لـ"هارفارد" إلى أنه يصعب في كثير من الأحيان تحديد ما هو الأخلاقي في الاقتصاد، ومن ذلك على سبيل المثال قضية التحكم في الإيجارات، فهذا الأمر ساهم في جعل السويد -وهي إحدى أعلى الدول في مستوى الدخل الفردي في العالم- أقل معاناة من مشكلة الإيجارات المتضخمة، حيث يقل النمو في الإيجارات فيها عن 25% فحسب من النمو في الإيجارات الأمريكية.
وعلى الرغم من أن هذا يبدو عادلًا، لمساهمته في توفير أحد الاحتياجات الرئيسية للسويديين، وهي السكن، إلا أنه في الجانب المقابل يبدو ظالمًا لملاك الأراضي والعقارات، لأنه يحد من مكاسبهم في السويد بنسبة تتعدى 40%.
بل ويتسبب في خلق أزمة في العرض من المنازل في ظل تدني العوائد عليها "نسبيًا" مقارنة باستثمارات أخرى، بما يجعل الإقبال على الاستثمار فيها ضعيفًا تطبيقًا لنظرية الفرصة الاستثمارية البديلة التي تجعل المستثمرين ينصرفون عنها.
هل الحد الأدنى أخلاقي؟
ويتشابه الحد الأدنى من الأجور مع قضية فرض قيود على الإيجارات، حيث تشير دراسة لجامعة "شيكاجو" الأمريكية إلى أن رفع الحد الأدنى من الأجور في الولايات المتحدة من 12 دولارا إلى 15 دولارا، وهي تبدو "قضية عادلة"، سيتسبب في إبطاء الاقتصاد بنسبة 0.5-1.3%.
وعلى الرغم من إسهام رفع الأجور في رواج نسبي لدى الطبقة الأفقر التي تحصل على الأجور الدنيا، إلا أنه سوف يتسبب أيضًا في "موجة ارتفاعات" للأجور، حيث سترتفع كافة الأجور في الطبقات الأعلى بنسب متفاوتة بما يترك تأثيرا على نتائج الشركات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص، حيث ستتراجع نسبة نموها بنسبة 2% في المتوسط.
وبناء على ذلك يبدو الحل الأخلاقي الصحيح هو ربط مستويات الربحية التي تحققها كل مؤسسة بدخول العاملين فيها، وكلما زادت نسبة الأرباح التي تحققها زادت الأجور بالتوازي، ويحقق هذا مبدأ المساواة بمفهوم أعم ونظرة أوسع.
فهذا يحقق للعمالة ربطًا مباشرًا بالربحية بما يجعلها تعمل بجد أكبر، والأهم أنه يحقق أحد أهم مبادئ اقتصاد السوق بطرد العمالة الجيدة للسيئة، فمع ارتفاع الأجور في الشركات الناجحة ستنجذب العمالة إليها بصورة أكبر، ولن تجد الشركات الأقل سوى العمالة الأقل بطبيعة الحال، لتضطر -هي والعمال الأقل مهارة- إلى تحسين الأداء وإلا ستخرج من السوق.
وفي ذلك تصبح المساواة غير أخلاقية لأنها تساوي بين من يعمل ومن لا يعمل، ولكن العدالة تصبح أكثر أخلاقية، وإن كان على أي مجتمع ضمان الاحتياجات الأساسية لكافة مواطنيه، ولا سيما هؤلاء الذين لا يستطيعون المساهمة في الإنتاج لسبب أو لآخر.
الاستثمار والأخلاق
وفيما يتعلق بالأخلاق أيضًا فكثيرًا ما يثار الحديث حول عدم وجود رابط بين الاستثمار والأخلاق، حيث تُعتبر الثانية معوقًا لاستثمار ناجح في رأي البعض، وهو ما تنفيه تجربة "صناديق الاستثمار الأخلاقي" التي انتشرت مؤخرًا، ويقصد بها الاستثمار في مجالات مفيدة مثل الطاقة النظيفة والزراعة الحيوية على سبيل المثال.
وهناك تجارب ناجحة للغاية في هذا الصدد أبرزها صندوق "بينجانا" الأسترالي للاستثمار الذي حقق عائدات 41% على استثماراته في عام 2018، كما حقق صندوق "بيتا شير" 31% لتبلغ نسب عائدات صناديق الاستثمار الأخلاقي ما يماثل الكثير من الشركات العالمية الكبيرة.
وبشكل عام تبلغ متوسط الاستثمارات في الصناديق الاستثمارية الأخلاقية أكثر بنسبة 8% من نظيرتها العامة بما يؤكد نظرية أنه يمكن الإقدام على استثمارات مفيدة تفيد الصالح العام، مع تحقيق الأعمال نفسها لنتائج ممتازة وينفي انفصال الأخلاق الضروي عن الاستثمار.
غير أنه يلاحظ أن تلك الصناديق تزدهر بصورة أكبر في الدول المتقدمة، حيث تفوق العائدات في الأخيرة نظيرتها في الدول النامية بنسبة 18% بما يعكس صعوبة الاستثمار الأخلاقي في تلك الدول بسبب ضعف العائدات بما يجعلها استثمارًا غير مرحب به.
الأخلاق والمعاملات المالية والتجارية
وتُرجع دراسة لجامعة "ألينوي" ذلك إلى ما تشهده الدول النامية من درجات عالية من الفساد تجعل من الصعب وجود مثل هذا الاستثمار الأخلاقي بشكل مستقر، حيث تحتل الدول النامية المراكز المائة الأخيرة بالكامل من مؤشر الشفافية بما يوحي في الظل بفساد يفوق كثيرًا مستوياته في الدول المتقدمة.
والشاهد أن هناك إدراكًا متناميًا لأهمية الاستثمار الأخلاقي، حيث يوضح استطلاع لـ"مورجان ستانلي" عن توجه الشباب للاستثمار في الشركات التي ترتكز على أهداف بيئية أو تنموية بدرجة أكبر عمن هم أكبر منهم سنًا، إذ بلغت نسبة هؤلاء المستعدين للاستثمار في تلك الشركات بين المستثمرين في عمر 18-35 ضعف النسبة بين من هم أكبر من ذلك سنًا.
وكثيرًا ما تثير مسألة تقاطع الاقتصاد والأخلاق جدلًا عنيفًا بين المفكرين الاقتصاديين، ومن ذلك ما طرحه "مليتون فريدمان" أحد أهم داعمي المدرسة الليبرالية الاقتصادية الجديدة، حيث يرى أن حصول الناس على دعم بنسبة 10% في إنتاج الخبز يعني في الواقع تراجعا لكفاءة الإنتاج للقطاع ككل.
فالقطاع المدعوم يوفر سلعه بمقابل زهيد، بما يدفع بقية القطاع بالكامل للعمل بكفاءة أقل والسعي لخفض التكلفة على حساب الجودة ليستطيع المنافسة، بما يُخفض كفاءة القطاع بأكمله، على الرغم من تحقيقه لهدف اجتماعي بصيانة الطبقات المُعدمة.
أما عن تأثير تمتع الأعمال بالأخلاق، فتشير دراسة لجامعة "جورج تاون" إلى أن هؤلاء التجار المعروفين بالأمانة والقدرة على الإيفاء بتعهداتهم المالية ترتفع نسبة نموهم بـ7-12% عن هؤلاء غير المعروفين بتلك الصفات، كما تزيد فرص بقائهم في السوق بنسبة 43% عن نقضائهم.
بل تشير الدراسة إلى أن صفات "غير ملموسة" مثل تقدير مدى المصداقية في المعلومات التي يوفرها المتجر على سبيل المثال تشكل العنصر رقم "1" في نمو متاجر بيع الأجهزة المُعمرة في العديد من الدول، بما يوحي بأهمية وفاعلية الأخلاق بالنسبة لتلك الأعمال.
وعلى الرغم من أن الأخلاق تبقى جدلية في الاقتصاد، ويتحدث عنها البعض بشكل "نفعي" لكنها هامة وأساسية وإن كانت خارج حسابات البعض فيما يتعلق بالاستثمار والتجارة.
المصادر: الموسوعة الأمريكية، دراسة لـ"هارفارد"، دراسة لـ"ألينوي"
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}