خلال سبعينيات وبداية ثمانينيات القرن الماضي، بدت أزمة معدلات التضخم المرتفعة في الولايات المتحدة غير قابلة للحل، حيث ارتفع مؤشر أسعار المستهلكين بمعدل سنوي متوسط 9% خلال الفترة بين عامي 1975 و1980.
وخلال هذه الفترة كان قدر هائل من التشاؤم يسيطر على المناخ العام للبلاد حيال إمكانية السيطرة على التضخم، وفي النقاشات العامة لم يكن هناك أي تصور لاحتمالات تلاشي هذا التضخم المفرط، ومع ذلك، استطاعت أمريكا تجاوز الأزمة.
في المقابل، زاد مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 2% سنويًا خلال الفترة بين عامي 2010 و2018، وتغير الحوار السياسي بفضل "انهيار التضخم"، فبدلًا من القلق بشأن الركود التضخمي -ارتفاع التضخم والبطالة معًا- أصبح هناك تركيز على النمو الاقتصادي وعدم المساواة.
لماذا انهار التضخم المفرط؟
- في عام 1980، كان مؤشر البؤس (الذي يجمع بين معدلي البطالة والتضخم) عند 19.6% (7.1% بطالة و12.5% تضخم)، لكن في 2018 بلغ 5.8% (3.9% بطالة و1.9% تضخم)، وعلى الأرجح فإن الحملات الانتخابية لعام 2020 لن تتطرق إلى التضخم.
- في الواقع، يعد التضخم المنخفض أحد الأسباب التي تجعل التوسع الاقتصادي الحالي هو الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، ورغم الخلاف المستمر بين الرئيس "دونالد ترامب" والفيدرالي، لم تحدث زيادة في أسعار الفائدة من شأنها كبح النمو.
- لكن هناك معلومة ناقصة بشأن هذه القصة السعيدة، إذا لا يعرف أحد ما سبب انخفاض التضخم إلى هذا الحد والبقاء طويلًا عند تلك المستويات، الأمر أشبه باللغز، على حد وصف رئيسة الفيدرالي السابقة "جانيت يلين".
- التفسير أمر مهم، فإذا لم يُفهم بالضبط سبب تراجع التضخم، فقد يسيء البشر تفسير عواقبه؛ وهذا اللغز يطرح سؤالًا بسيطًا ومهمًا، هو لماذا لم ترتفع الأجور بوتيرة أسرع مع اقتراب الاقتصاد من حالة "التوظيف الكامل"؟.
- من منظور فني، سيكون السؤال "لماذا لا يعمل منحنى فيليبس"، والذي يشير إلى أن تراجع البطالة يصحبه ارتفاع في الأجور، حيث تدفع الشركات أموالًا أكثر لجذب العمال، ويغذي هذا الارتفاع زيادة الأسعار.
تفسير الانهيار
- لسنوات عديدة، جرت الأمور في سياق منطقي متوقع، وبالنظر إلى التوسع الاقتصادي بين عامي 1961 و1969، انخفضت البطالة من 6.7% إلى 3.6%، في حين ارتفع التضخم من دون 1% إلى 5%، وخلال السبعينيات شهدت البلاد نمطًا مشابهًا.
- ترى "يلين" أن هناك 3 تفسيرات محتملة لانهيار منحنى "فيليبس"، أولها إساءة قراءة مؤشرات القوى العاملة، ففي حين يقارن منحنى "فيليبس" معدلات البطالة ومكاسب الأجور، قد يرسل معدل البطالة إشارات خاطئة حول ركود القوى العاملة (عدد الأشخاص الجاهزين لشغل الوظائف).
- يقلل هذا من قدرة الشركات على كبح ارتفاع الأجور، مع العلم أن ركود القوى العاملة قد يشمل أيضًا الأشخاص الذين يتركون قوة العمل عندما يكون الاقتصاد راكدًا ويعودون عندما يتعافى.
- الأمر الثاني هو السياسة النقدية، فتأثير الفيدرالي على أسعار الفائدة وشروط الائتمان قد يجعل الناس أكثر حساسية لارتفاع الأسعار، وخلال الثمانينات، رفع البنك المركزي الفائدة بحدة لمجابهة التضخم المفرط، وتجاوز معدل البطالة الشهري 10%.
- ارتفعت البطالة مرة أخرى خلال فترة الركود الكبير بين عامي 2007 و2009، لكن لحماية أنفسهم من تكرار أزمة السبعينيات، ربما قلص المستهلكون والشركات زيادات الأسعار والأجور.
- التفسير الثالث يرتبط بالعولمة والتقنيات الرقمية الجديدة التي تخلق ضغوطًا هبوطية على الأسعار، إذ يجعل الإنترنت مقارنات الأسعار أسهل مما كانت عليه في الماضي، كما أن قدرة الشركات على تحويل الإنتاج إلى موردين أجانب منخفضي التكلفة، يمكنها من تخفيض الأجور والأسعار في الداخل.
التضخم يحقق توقعاته
- خلال استعراضها للتفسير الثاني قالت "يلين": لاحظنا أن توقعات معدل التضخم كانت مستقرة في محيط 2% خلال السنوات الماضية، إذا اعتقد الناس أن التضخم سيكون منخفضًا، فسيعملون لجعله منخفضًا بالفعل.
- في الحقيقة، يعتقد الاقتصاديون أن توقعات التضخم مهمة لأنه كلما ازداد اعتقاد الناس بأن الأسعار سترتفع، زاد عدد العمال المطالبين بأجور أعلى، وستعتقد الشركات أن بإمكانها زيادة التكاليف والأسعار أيضًا، وهو ما يقود في النهاية إلى ارتفاع التضخم.
- قياسًا على ذلك، فإن توقعات الانخفاض قد تكون سببًا في انخفاض التضخم بالفعل، وهو ربما ما يفسر تسجيل الولايات المتحدة معدل تضخم دون مستهدف الفيدرالي البالغ 2%، وكذلك بقاء معدل نمو الأجور دون المستويات المسجلة قبل الأزمة المالية.
- تتوقع جامعة ميشيغان وصول متوسط التضخم على مدى السنوات الخمس إلى العشر المقبلة إلى 2.3%، انخفاضًا من توقعها السابق البالغ 2.4%، هو مستوى قياسي منخفض للتوقعات، التي عادة ما تميل إلى الارتفاع (قبل الأزمة المالية بلغ المعدل المتوقع 3%).
- كان انخفاض التضخم بالأساس سببًا في عدول الفيدرالي عن تشديد سياسته، ومع ذلك، لا يبدو أن النهج المخفف كافٍ لدفع الناس إلى توقع ارتفاع التضخم، في ظاهرة لم تعد تقتصر على الولايات المتحدة فقط، وإنما أصبحت مكررة في أنحاء متفرقة من العالم رغم تخفيف البنوك المركزية لسياساتها.
المصادر: واشنطن بوست، وول ستريت جورنال
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}