فتنت النمور الآسيوية الأربعة -هونغ كونغ وسنغافورة وكوريا الجنوبية وتايوان- العالم بتقدمها الاقتصادي المبهر، حيث سجلت معدلات نمو مزدوجة (10% فأكثر) خلال الفترة من أوائل الستينيات حتى التسعينيات، في سلسلة نجاح بدأت بإنتاج القمصان القطنية والزهور البلاستيكية والشعر المستعار.
استمر الازدهار حتى بدأت هذه البلدان في إنتاج رقائق الذاكرة والحواسيب المحمولة وتقديم مشتقات الأسهم، وفي خضم ذلك، وُلد نقاش أكاديمي عاصف حول مصدر نجاحها، والذي قال البعض إنه التوجه الحكومي، فيما نسبه آخرون إلى الأسواق التنافسية.
لكن الأمور تتبدل؛ الأزمة المالية الآسيوية دمرت سحر هذه الطفرة تدريجيًا، وأصبحت الصين هي النجم الجديد للنمو -حتى وإن كانت تقتفي أثرهم إلى حد ما- ويبدو أن النمور أنفسهم فقدوا هذا الأثر، وتتجه الولايات المتحدة إلى تسجيل نمو أسرع منهم جميعًا هذا العام.
نموذج عفا عليه الزمن
- في الفترة بين عامي 1970 و1990، بدأت الولايات المتحدة والدول الغربية المتقدمة الأخرى الاستعانة بمتعهدين خارجيين في الصناعات كثيفة العمالة في البلدان النامية، وهو ما استغلته النمور الآسيوية لجذب رؤوس الأموال والتقنيات الأجنبية خاصة في ظل انخفاض تكلفة العمالة لديها.
- من خلال تشكيل قاعدة صناعية واسعة النطاق موجهة للتصدير، تمتعت البلدان الأربعة باقتصادات مزدهرة، وبحلول التسعينيات، بلغ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي؛ 13.5 ألف دولار في هونغ كونغ، و12.8 ألف دولار في سنغافورة، و8.1 ألف دولار في تايوان، و6.5 ألف دولار في كوريا الجنوبية.
- في ذلك الوقت، بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في العالم 4270 دولارًا، وفي عام 1989 اعتبرت النمو الآسيوية من الدول المتقدمة الناشئة، وبالتالي أنهت الولايات المتحدة صفتها كأمم تحتاج إلى رعاية.
- كان نجاح النمور الآسيوية الأربعة نموذجًا يحتذى به بالنسبة للبلدان الأخرى في المنطقة، وأصبحت الموضوع الشاغل للباحثين الاقتصاديين، وحاولت الصين نسخ تجربتهم عندما بدأت برنامجها للإصلاح الاقتصادي وفتح الأسواق.
رابط مشترك بين النمو والتباطؤ
- خلال الصيف، خفض مصرف "جولدمان ساكس" توقعاته للنمو في بلدان النمور الآسيوية لعام 2019، بسبب ارتباطهم الوثيق بالاقتصاد العالمي (الذي كان يومًا أحد أعظم نقاط قوتهم) الآخذ في التباطؤ تزامنًا مع التوترات التجارية والجيوسياسية.
- كتب محللو المصرف في مذكرتهم: إلى جانب الإصلاحات المحلية الخاصة بهم، استفادت هذه البلدان بشكل كبير من السياق الأوسع للعولمة والتطور الاقتصادي السريع لمنطقة آسيا والمحيط الهادي، ومع ذلك، فإن الخصائص نفسها التي ساعدتهم جعلتهم أكثر عرضة للتأثر بالتباطؤ الأخير للنمو العالمي.
- في حين أن بعض الاقتصادات يمكنها الاستفادة من تحول التجارة بفعل خروج الموردين من الصين، فمن المرجح اتجاههم إلى دول جنوب شرق آسيا التي ترتبط بطرق برية مع الصين، مثل فيتنام، بدلًا من النمور الآسيوية، بحسب "جولدمان ساكس".
- خفض البنك توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي في هونغ كونغ لعام 2019 بأكمله إلى 0.2% من 1.5%، وفي سنغافورة إلى 0.4% من 1.1%، وفي كوريا الجنوبية إلى 1.9% من 2.2%، وفي تايوان إلى 2.3% من 2.4%.
حقائق وخرافات عن تعثر النمور
- تعاني جميع بلدان النمور الآسيوية من مشاكل مستعصية على ما يبدو، مثل ركود الأجور في تايوان، وهيمنة الشركات الكبرى على الأنشطة التجارية في كوريا الجنوبية، والفئة الرخيصة من العمالة الأجنبية في سنغافورة، والأكثر سوءًا هو عدم قدرة حكومة هونغ كونغ على الإنصات لمواطنيها.
- تستحق النمور الآسيوية تجديد الاهتمام بها، إذ تواجه العديد من القضايا التي ترهق الغرب أيضًا، مثل عدم المساواة، وكيفية زيادة الإنتاجية، ومعالجة ارتفاع أعمار السكان، وتحقيق التوازن بين أمريكا والصين.
- في الحقيقة، التغيرات التي شهدتها اقتصادات النمور كانت ناتجة عن النجاح وليس الفشل، فقد دافعت هذه البلدان عن حصتها في الصادرات العالمية لسنوات رغم الزيادة المطردة في تكاليف العمالة والأراضي، كما حققت تقدمًا تقنيًا كبيرًا، على مستوى الديمقراطية أيضًا.
- البعض يرى أن الحياة السياسية النشطة في تايوان وكوريا الجنوبية، إلى جانب الكشف العلني عن قضايا الفساد البارزة والخلافات البرلمانية والإعلام الحزبي، أعاقت النمو، لكن تاريخ البلدين لا يدعم هذه الحجة، في حين أصبح من الواضح حجم الخطر الذي يمثله غياب الديمقراطية في هونغ كونغ.
- كما أن هشاشة مستويات الرفاهية شكلت عائقًا أيضًا، حيث كان يشعر زعماء هذه البلدان بأن إعادة توزيع الثروة والإنفاق الاجتماعي سيستنزفان دوافع شعوبهم للعمل، لكن انعدام الأمن الاجتماعي يهدد بالحد من استعداد السكان لاحتضان التغير التكنولوجي.
إرث النمو القوي
- تلعب بلدان النمور دورًا مهمًا في ضبط البوصلة الاقتصادية لبقية العالم، نظرًا لارتباطها الوثيق بالدورات العالمية العميقة في التقنية والتمويل والجيوسياسة، حيث سيطرت على أجزاء من سلسلة التوريد التكنولوجية، كما أصبحت هونغ كونغ وسنغافورة مركزين ماليين عالميين.
- ازدهار قطاعي التمويل والتقنية يركز الثروة في أيدي عدد قليل من السكان، وعلى مدار ربع القرن الماضي تعرضت النمور لأزمتين ماليتين، ومع انحسار طفرة الطلب على أشباه موصلات الجوالات والحواسيب تعرض اقتصادا كوريا الجنوبية وتايوان لضغوط حادة.
- رغم الاختلافات الكبيرة بين بلدان النمور في الجوانب السياسية والجغرافية والديموغرافية، يوجد بينها قواسم كثيرة مشتركة، فهي من بين أكثر اقتصادات العالم التجارية انفتاحًا.
- وقعت هذه البلدان (بدرجات متفاوتة) في فخ الاستقطاب بين أمريكا والصين، وأكثر ما يقلقها في الوقت الراهن هو الحرب التجارية، كما أنها جميعًا تواجه مشاكل اجتماعية تنبع من النمو القوي خلال نصف القرن الماضي، لكن تظل حاجتها الأساسية الآن هي إعادة ابتكار أنفسها.
- مع تقدم السكان في العمر، تواجه الحكومات ضغوطًا لزيادة الإنفاق على المعاشات والرعاية الصحية، كما أنها بحاجة لتخفيف الأعباء الاقتصادية التي تثني الشباب عن إنجاب الأطفال، وباختصار يجب تحول تركيز بلدان النمور من الهوس بالنمو إلى الرفاهية.
المصادر: الإيكونوميست، بلومبيرغ، ذا إيبوك تايمز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}