في ديسمبر من عام 1985، ألقى الاقتصادي والرياضياتي الأمريكي "فيشر بلاك" خطابه الأشهر على الإطلاق في جمعية التمويل الأمريكية التي كان يرأسها تحت عنوان "الضوضاء". وتكمن أهمية ذلك الخطاب في أن "بلاك" تحدى خلاله بلا خوف الأطروحة المقبولة على نطاق واسع في الحقل الأكاديمي والتي تشير إلى أن أسعار الأسهم عقلانية.
أشار "بلاك" في ذلك الخطاب إلى أن المعلومات الرائجة في السوق ليست معلومات مجردة من شأنها أن تقود إلى أسعار عقلانية كما يعتقد الجميع، بل على العكس إن معظم ما يسمعه متداولو سوق الأسهم هو مجرد ضوضاء لا تؤدي إلى شيء سوى إرباك المستثمرين وتشويش تفكيرهم وحساباتهم والتأثير سلباً على عقلانية قراراتهم.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل هناك حل للضوضاء في السوق؟ بعبارة أخرى هل يمكننا التمييز بين الأسعار المتأثرة بالضوضاء والأسعار التي تعكس بشكل صحيح حالة الأساسيات؟
في الحقيقة إن أفضل ما يمكننا فعله حول هذا الشأن هو محاولة تقليل آثار الضوضاء وليس إزالتها تماماً. لذلك ما يحتاجه المستثمرون فعلاً هو عملية تسمح لهم بتقليل آثار الضوضاء والتوصل إلى المعلومات الدقيقة مما يجعل من السهل عليهم اتخاذ قرارات أكثر عقلانية.
"نظرية رياضية في الاتصال"
في يوليو من عام 1948 نشر عالم الرياضيات الأمريكي "كلود شانون" في مجلة "ذا بيل سيستمز تيكنيكال جورنال" ورقة بحثية شهيرة تحت عنوان "نظرية رياضية في الاتصال". وفي هذه الورقة أشار "شانون" إلى أن المشكلة الأساسية للاتصال هو التحريف الذي تتعرض له المعلومة أثناء انتقالها بين نقطتين.
بعبارة أخرى، تدور نظرية الاتصال حول كيفية انتقال المعلومة من النقطة "أ" إلى النقطة "ب" بشكل صحيح ومتكامل. وفي الحقيقة إن انتقال المعلومة أو الرسالة كما هي بين نقطتين تعتبر تحديا هندسيا وقبل ذلك هي تحد نفسي.
وفقاً لـ"شانون" يتكون نظام الاتصال من 5 أجزاء:
1: مصدر المعلومة: وهو المصدر الذي ينتج رسالة أو سلسلة من الرسائل.
2: جهاز إرسال: وهو الجهاز الذي يحول الرسالة إلى إشارة يمكن إرسالها عبر قناة.
3: قناة: وهي الوسيلة المستخدمة لنقل الإشارة من جهاز الإرسال إلى جهاز الاستقبال.
4: جهاز استقبال: ووظيفته هي فك الإشارة وتحويلها إلى رسالة مرة أخرى في عملية عكسية لما يقوم به جهاز الإرسال.
5: الوجهة: وهو الشخص أو الجهة المراد إرسال الرسالة إليها.
ولكن، كيف يمكننا تطبيق ذلك على الاستثمار بسوق الأسهم؟ أو كيف يبدو نظام الاتصال الخاص بسوق الأسهم؟
في سوق الأسهم.. أطراف اللعبة
كمستثمرين عادة ما يكون مصدر المعلومات لدينا هو سوق الأوراق المالية أو الاقتصاد. وكلاهما ينتج باستمرار معلومات أو سلسلة من المعلومات التي تكون عند هذه النقطة في حالتها الأصلية وخالية من أي تحريف.
هذه المعلومات أو الرسائل التي ينتجها المصدر يرسلها إلينا كل من إدارات الشركات والكتاب والصحفيين والمحللين والوسطاء ومديري المحافظ أو أي شخص آخر يتطوع لنقل المعلومة كسائق الأجرة او الطبيب أو الجار. هؤلاء كلهم يلعبون في هذه الحالة دور أجهزة الإرسال.
قد تكون القناة التي يتم إرسال هذه الرسائل إلينا عبرها هي الصحف أو المجلات أو الإذاعة والتلفزيون أو المواقع الإلكترونية أو تقارير المحللين أو التقارير المالية الفصلية الصادرة عن الشركات أو حتى المحادثات الشفهية مع الغير.
أما جهاز الاستقبال فيمثله عقل الفرد وهو المكان الذي تتم فيه معالجة المعلومات وإعادة بنائها. وأخيراً، نصل إلى الوجهة النهائية والمحطة الأخيرة في هذه الرحلة وهي المستثمر ذاته الذي يأخذ المعلومات التي قام عقله بمعالجتها وإعادة بنائها ويتخذ قراره بناء عليها.
كل ما سبق عظيم جداً، ولكن المشكلة هي أن المعلومة نادراً ما تصل إلى وجهتها النهائية بنفس حالتها الأصلية التي كانت عليها حين خرجت من المصدر. وهو ما حذر منه "شانون" حين أشار إلى أن هناك عدة نقاط يمكن أن تتعرض خلالها المعلومة للتحريف بعد خروجها من المصدر وقبل وصولها للوجهة النهائية.
كيف تصل المعلومة محرفة إلى المستثمر؟
وفقاً لـ"شانون"، إن الخطر الأكبر الذي يهدد سلامة وصحة المعلومة بعد خروجها من المصدر وأثناء تسليمها عبر القناة أو أثناء معالجتها في محطتي الإرسال والاستقبال هو الضوضاء الموجودة داخل النظام.
لذلك لا يجب أن نفترض تلقائيًا أن أجهزة الإرسال (من المحللين وإدارات الشركات وغير ذلك) قامت بتجميع المعلومات من المصدر (السوق أو الاقتصاد) بشكل صحيح قبل إرسالها إلينا عبر القناة. ولكن حتى لو كانت المعلومات المرسلة صحيحة تماماً فمن الوارد جداً أن يعالج جهاز الاستقبال (عقل المستثمر) هذه المعلومات بشكل خاطئ، وهو ما سيؤدي حتماً إلى وصول معلومات خاطئة إلى الوجهة النهائية (المستثمر).
هذا بالنسبة لمعلومة واحدة، فما بالك لو أن النظام يعالج سلسلة من المعلومات في وقت واحد. بالتأكيد سيؤدي التسليم والاستقبال المتزامن لمجموعة كبيرة من المعلومات عبر نفس القناة إلى رفع مستوى الضوضاء وهو ما سيزيد من صعوبة عملية المعالجة.
تلك هي المشكلة، ما الحل إذن؟ يقترح "شانون" الاستعانة بما سماه "جهاز تصحيح" ووضعه في المنتصف بين جهاز الاستقبال والوجهة النهائية. ومهمة ذلك الجهاز هي أخذ الرسائل من جهاز الاستقبال وإزالة أثر الضوضاء عنها ثم إعادة بنائها حتى تصل المعلومات بشكل صحيح إلى وجهتها النهائية.
بنفس الطريقة يمكن لمستثمري سوق الأسهم معالجة المعلومات التي تتلقاها طوال الوقت أجهزة الاستقبال الخاصة بهم. ببساطة يجب علينا كمستثمرين وضع جهاز تصحيح (عقلي) في منتصف نظام الاتصال الخاص بنا مهمته الأولى هي الحفاظ على سلامة المعلومات الواردة من المصدر.
الحل .. جهاز تصحيح
جهاز التصحيح في هذا السياق هو كناية عن العملية الذهنية التي يحتاج المستثمر للقيام بها بشكل واع لتصفية المعلومات غير الصحيحة الواردة من المصدر وإعادة تكوين الإشارة بشكل صحيح إذا وجدها مشوهة أو محرفة. هذه العملية ليست بالصعوبة التي قد يتصورها البعض ويمكن لأي مستثمر القيام بها ولكن بشرط أن يكون لديه أصلاً الوعي بأنه يحتاج للقيام بها.
أغلب مستثمري سوق الأسهم وخصوصا قليلي الخبرة منهم يتعاملون طوال الوقت مع الرسائل والمعلومات الواردة إليهم سواء من المحللين أو من إدارات الشركات أو حتى من العامة باعتبارها حقيقة لا تقبل الشك ويتصرفون مباشرة على أساسها دون أن يكبدوا أنفسهم عناء التأكد من صحة تلك المعلومات أو من مدى منطقيتها واتساقها.
المهمة الأخرى لجهاز التصحيح الموجود بين جهاز الاستقبال (العقل) وبين الوجهة النهائية (المستثمر) هو التحقق من أن المعلومات الواردة إلى جهاز الاستقبال يتم نقلها بدقة وبشكل صحيح دون تدخل أي تحيزات نفسية. فالكثير من الأخطاء التي يرتكبها مستثمرو سوق الأسهم هي نتاج تأثير العاطفة على قرارات المستثمرين التي قد تكون مبنية على أساس معلومات صحيحة.
أخيراً، إن نجاح المستثمر في القيام بتلك العملية يجنبه بشكل كبير تأثير الضوضاء المنتشرة في السوق والتي تؤثر على جودة المعلومات، وهو ما يعني تحسينه لقدرته على جمع المعلومة وتحليلها واستخدامها لتعزيز فهمه من أجل اتخاذ قرارات استثمارية أكثر استنارة.
المصادر: أرقام A Mathematical Theory of Communication
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}