قبل 503 أعوام، كتب المحامي والفيلسوف الاجتماعي الإنجليزي "توماس مور" قصته الشهيرة "يوتوبيا" والتي تصف مجتمعًا مثاليًا خياليًا، والذي يتناقض بشكل كامل مع الظروف الاجتماعية غير العادلة التي سادت في العالم الحقيقي آنذاك.
في الرواية يقول البطل: بدلًا من فرض كل هذه العقوبات الرهيبة، سيكون الأمر أفضل بكثير إذا تم تزويد الجميع ببعض سبل العيش، بحيث لا يكون أي شخص مضطرًا ليصبح لصًا، ومن ثم جثة هامدة.
على الأرجح، تمت ترجمة هذا المفهوم إلى الحد الأدنى من الدخل الذي تضمنه الحكومات للمواطنين عبر برامج المساعدة، وكرد فعل على الزيادة الحادة في عدم المساواة والمخاوف من الروبوتات العاملة، أصبحت برامج الدخل الأساسي العالمي أكثر شهرة مؤخرًا.
تجربة قديمة سبق لها الفشل
- في الولايات المتحدة، عاد الحديث عن الدخل الأساسي العالمي لتصدر المشهد بعد إشارة بعض مرشحي الرئاسة الديمقراطيين إليه، أملًا في حصد المزيد من دعم الناخبين، حيث يصورونه كوسيلة لتقليص عدم المساواة في الثروة والحد الأدنى من الدخل المضمون للجميع.
- لكن يقول محللون، إنه رغم أهمية مثل هذه الإشارات في الخطابات السياسية، فإن تطبيقها في الواقع ستكون له عواقب وخيمة، فعلى سبيل المثال، ستحتاج الحكومات لرفع الضرائب حتى تتمكن من سداد مدفوعات البرنامج ومواجهة الرغبة المتراجعة في العمل والتي تعني إنتاجية أقل.
- تم اختبار أحد أشكال هذه البرامج في الولايات المتحدة وفشلت، وخلال الفترة من عام 1968 إلى 1980، طبقت الحكومة الفيدرالية "ضريبة الدخل السالبة"، والتي كانت تعني ضمان الحد الأدنى من الدخل، لكنها تلاشت تدريجيًا مع ارتفاع الأجور.
- نتج عن هذا البرنامج الذي كان يهدف في الأساس إلى تحفيز العمل، انخفاض ساعات العمل في جميع المجالات، والأكثر لفتًا للنظر، انخفاض ساعات عمل الرجال غير المتزوجين (غير المسؤولين عن أسرة) بنسبة 43%، والأسوأ أنها تسببت في إطالة أمد فترات البطالة.
ماذا عن التجارب الحديثة؟
- في أول تجربة أوروبية مدعومة من الحكومة لمنح المواطنين أموالًا مجانية، فشل برنامج دخل مشابه، في تشجيع الفنلنديين على المشاركة بشكل أكبر في سوق العمل، لكن الجانب الإيجابي كان تحسين رفاهية المواطنين.
- بعد تجربة امتدت عامين، حصلت عينة عشوائية من ألفي عاطل تتراوح أعمارهم بين 25 و58 عامًا على 560 يورو شهريًا (620 دولارًا)، دون الحاجة إلى البحث عن عمل، وحتى أولئك الذين حصلوا على وظائف، استمروا في تلقي نفس المبلغ.
- لا تعتبر الحكومة الفنلندية برنامجها "دخلًا أساسيًا" لأن المدفوعات قُدمت لمجموعة محددة من المواطنين ولم يكن المبلغ كافيًا للعيش، لكنها كانت تهدف إلى تسليط الضوء على أمور مثل الحد من القلق وتبسيط نظام الضمان الاجتماعي للتعامل مع سوق العمل سريع الحركة وغير الآمن.
- وفقًا للباحث الرئيسي المسؤول عن البرنامج "أولي كانجاس"، فإن الأموال جعلت المواطنين المشاركين أكثر سعادة وصحة، مضيفًا: سجلنا شعورًا أقوى بالرفاهية لدى المستفيدين من هذا الدخل مقارنة بغيرهم.
التجربة الحكومية الأكبر
- في مارس عام 2016، أعلنت أكبر مقاطعة في كندا "أونتاريو"، نيتها إجراء تجربة لمنح الدخل الأساسي، في محاولة للحد من الفقر وعدم المساواة، وتم تصميم مشروع مدته 3 سنوات لتزويد 4 آلاف فرد بالحد الأدنى من الدخل الشهري دون شرط.
- حصل البرنامج بعد ذلك على دعم غالبية السكان، رغم أن نصف الذين يصب في صالحهم، كانوا يرون الحد الأدنى للدخل السنوي المقترح (13 ألف دولار أمريكي للأعزب و18 ألفًا للمتزوج) ضئيلًا للغاية، لكن البرنامج لم يضع قيودًا أو رقابة على كيفية إنفاق الأموال.
- منع البرنامج المشاركين فيه من الوصول إلى برامج المساعدة الاجتماعية الأخرى باستثناء بعض المزايا الصحية والسكنية، ونص على أنه في حال زيادة أجر الشخص المشارك من عمله، يتم خفض المدفوعات التي تقدم له بنصف مقدار هذه الزيادة.
- على أي حال، أعلنت الحكومة الجديدة في يوليو 2018، إلغاء البرنامج التجريبي، وقال المشرعون إنه مثبط لجهود إعادة الناس إلى الطريق الصحيح، وإنه لا يساعد في جعلهم مساهمين مستقلين في الاقتصاد، ورفض القضاء طلب المستفيدين من البرنامج بتعطيل قرار الإلغاء.
لماذا تفشل برامج الدخل الأساسي؟
- يعني الدخل الأساسي العالمي أشياء مختلفة للناس، فالبعض يرى أنه وسيلة لإعادة توزيع الثروة، وآخرون يرونه آلية لتحسين مجموعة من النتائج المستهدفة، مثل تحسين الحالة الصحية التي ترتبط بالفقر، وتخفيف الضغوط على أنظمة الرعاية الصحية العامة.
- يقول أستاذ الاقتصاد "مارك ستابيل": في حين أن تجربة الدخل الأساسي في أونتاريو وصلت إلى نهاية مفاجئة، نأمل أن يكون هناك المزيد من التجارب المصممة بشكل جيد في المستقبل، لكن مثل هذه التجارب تحتاج أن يسأل مخططوها أنفسهم سؤالين.
- الأول، ما هي المشكلة التي يهدف برنامج الدخل الأساسي إلى حلها؟ فمثلًا في وادي السيليكون هناك مخاوف من الأتمتة، وبالتالي يصبح الدخل هنا ضروريًا لتجنب الاضطرابات الاجتماعية والبطالة.
- لكن عندما يتم استخدام البرنامج كحل لمشكلة لم تقع بعد مثل الأتمتة، فإنه يتعرض لنفس المشكلة التي تواجه السياسات الهادفة لمواجهة تغير المناخ، حيث يقول الرأي الرائج ببساطة "نظرًا لأن المشكلة لا تبدو بهذا القدر من السوء، فإنها ليست حقيقية".
- السؤال الثاني، ما هي الحلول الموجودة بالفعل؟ بعض تجارب الدخل الأساسي تجعل الأمر أسوأ حالًا من قبل، خاصة عندما يتم استبدال برامج الرعاية الاجتماعية بها دون قياس للتأثير الفعلي على حياة المستفيدين.
- على سبيل المثال، إذا تلقى جميع الكنديين مبلغ 1200 دولار كندي (907 دولارات أمريكية) شهريًا، فستتكلف الحكومة 400 مليار دولار كندي سنويًا، أي أكثر من الموازنة الفيدرالية بأكملها والبالغة 340 مليار كندي.
- لا شك أن المستويات العالية من عدم المساواة تحتاج إلى حلول جديدة، لكن كي تكون الإجابات مستدامة، يحتاج المصممون إلى بيانات وقدرة على تحديد المشكلات بوضوح، بما يتجاوز النظريات الفلسفية حول التضامن والعدالة.
المصادر: إنسياد نولدج، الجارديان، إنفستورز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}