في السادس من يونيو 1944 نجح الحلفاء في إنزال قواتهم على سواحل منطقة النورماندي شمال فرنسا في أكبر عملية إنزال في التاريخ العسكري، العملية التي رجحت كفة الحلفاء في الحرب العالمية الثانية وغيرت مجرى التاريخ.
ولكن بعد إتمام عملية الإنزال وجدت قوات الحلفاء صعوبة في التقدم إلى الداخل الفرنسي بسبب المقاومة الألمانية الشرسة، لدرجة أنهم في الأيام الأولى لم يستطيعوا التقدم سوى بضع ياردات رغم اشتباكهم واسع النطاق مع القوات الألمانية.
خطة "باتون"
بعد مرور شهرين، وتحديداً في أغسطس 1944 اعتمد قائد قوات الحلفاء في نوماندي الجنرال الأمريكي "جورج باتون" اعتماداً كبيراً على نظام القرارات اللا مركزية في إمرة قواته، وهو النظام الذي مكنه من دحر القوات الألمانية بعيداً عن سواحل نورماندي بنحو 150 ميلاً في غضون أسبوعين فقط، قبل أن يتمكن في النهاية من تطويق الجيش السابع الألماني.
ففي الأول من أغسطس أمر "باتون" الجيش الثالث الذي تم تشكيله للتو بشن هجوم متعدد الجبهات على القوات الألمانية في جميع أنحاء الريف الفرنسي، وكان الأمر العام الصادر منه لجميع قواته: "ابحث عن العدو وحاصره ثم دمره".
كانت كل الأوامر الصادرة من "باتون" لقواته بهذا الإيجاز والعموم، ونادراً ما كانت تتجاوز بضع جمل، في تناقض صارخ مع أسلوب أقرانه من قادة الحلفاء العسكريين الذين عادة ما يخبرون قواتهم كيف يتصرفون بالحرف وبالتفصيل الممل. ولكن "باتون" في المقابل فضل أن يصدر لقواته أوامر عامة يترك لقادة الوحدات تحديد كيفية تنفيذها.
في الوقت نفسه أصدر "باتون" أوامره بتقليل عدد التقارير المكتوبة المرهقة التي يرفعها قادة الوحدات الميدانية على الأرض إلى القيادة العليا من أجل اتخاذ رأيهم في كيفية التصرف بشأن تطورات الوضع في ساحة المعركة.
أدى اعتماد "باتون" على القرارات اللا مركزية في إدارة المعركة إلى إطلاق طاقة وإبداع رجاله الذين اتخذوا القرارات بأنفسهم بناءً على فهمهم للأحداث على الأرض. ومكن هذا الأسلوب الجيش الثالث من تغطية منطقة جغرافية واسعة بشكل ملحوظ وهو ما جعل "هتلر" يعتقد أنه كان يواجه عدواً ضعف حجمه الفعلي.
فوائد اللا مركزية
تسبب هجوم الحلفاء في فوضى داخل الجيش الألماني الذي اعتاد القتال الاستراتيجي في الشهرين التاليين لإنزال نورماندي. وفي غضون أسبوعين فقط تمكنت قوات "باتون" من محاصرة نحو 100 ألف جندي ألماني وتحرير ما يقرب من 10 آلاف ميل مربع من الريف الفرنسي.
يجمع كل المؤرخين العسكريين تقريباً على أن قرار "باتون" بالسماح لقادة الوحدات الميدانية باتخاذ القرار بأنفسهم دون الرجوع إلى القيادة العليا كان أحد العوامل الرئيسية وراء نجاح الحلفاء في الفكاك من نورماندي إلى العمق الفرنسي.
ببساطة، رأى "باتون" أن كل موقف يواجهه صغار القادة في المعركة يمثل بذاته مجموعة فريدة من التحديات التي لا يستطيع أن يفهمها جيداً سوى الموجودين على الأرض لذلك فوضهم في اتخاذ القرار ووثق في قدرتهم على أداء مهمتهم، وهو النهج الذي ساعد القادة الميدانيين على مجاراة تطور الأحداث بسرعة.
الهيكل التقليدي للإدارة في أغلب الشركات يضمن تركيز السلطة في أيدي عدد قليل من الأشخاص عادة ما يكونون كبار التنفيذيين. وفي هذا النوع من الهياكل الإدارية لا يوجد للعاملين في المناصب الوسطى والدنيا كلمة حول كيفية إدارة الأمور في الشركة.
لكن في الشركات التي يوجد بها قدر معقول من اللا مركزية تقوم الإدارة بتمكين صغار المديرين والموظفين من اتخاذ القرارات التي تؤثر على معايير الإنتاجية والكفاءة والأداء بأنفسهم وتثق في قدرتهم على اتباع أكثر الأساليب فعالية وذلك في إطار الأهداف والرؤية العامة للشركة.
"سميث نيوكورت" لموظفيها: لا تخشوا الخطأ
تمكنت إدارة شركة تداول الأسهم البريطانية "سميث نيوكورت" من الموازنة بشكل محترف بين مخاطر وعوائد صنع القرار اللا مركزي من خلال وضع ثقتها في صغار الموظفين في مقابل التزامهم بالأمانة وحرصهم على تصحيح أي خطأ يقعون فيه على الفور.
مثل أي شركة تداول كبيرة في بريطانيا في منتصف الثمانينيات كان الهيكل القانوني والإداري لـ"سميث نيوكورت" عبارة عن شراكة. وفي ظل هذا الهيكل الإداري إذا دخل أي شخص في الشركة في صفقة سيئة وفشل في الخروج منها سوف يتحمل الشركاء جميعاً مسؤولية الخسارة.
وإذا كانت الخسارة كبيرة فقد تستهلك رأس مال الشركاء وهو ما يعني إفلاسهم جميعاً. وأدت هذه الدرجة العالية من المسؤولية الشخصية إلى قيام الإدارات في كثير من شركات التداول البريطانية بإحكام السيطرة على جميع القرارات التي يتخذها صغار الموظفين، بحيث لا يتخذ الموظف أي قرار بشأن أي صفقة إلا بعد الرجوع للإدارة.
لكن في سوق مثل سوق الأسهم، يجب أن تتخذ قرارات التداول بسرعة وفي بعض الأحيان يجب التعامل بشكل فوري. فعلى سبيل المثال إذا ارتفعت أسعار الفائدة، يجب على المتداولين تخفيض حيازاتهم من السندات طويلة الأجل قبل أن يفعل غيرهم.
ببساطة لم يكن هناك متسع من الوقت لدى صغار الموظفين لكي يطلبوا الإذن قبل اتخاذ القرار، ولذلك كانت هناك حاجة ماسة لأن يثق الشركاء في الموظفين الذين قد يرتكبون في البداية أخطاء بحكم خبرتهم المحدودة تتسبب في خسائر غير صغيرة للشركة. ولكن هذه هي الطريقة الوحيدة لجعلهم متداولين أفضل.
لتحقيق التوازن بين مخاطر وعوائد القرار اللا مركزي وبين عنصري السرعة والسلامة بدأ الشركاء في "سميث نيوكورت" بتشجيع المتداولين بالشركة على اتخاذ القرارات المتعلقة بالصفقات الصغيرة بأنفسهم مع التأكيد على أنه ليس لديهم مشكلة في ارتكابهم للأخطاء بقدر ما لديهم في الجبن وخيانة الأمانة والامتناع عن طلب المساعدة.
في عام 1988 قاطع أحد المتداولين الشباب اجتماعاً هاماً بالشركة وتوجه إلى رئيس قسم تداول الأسهم بالشركة "توني إبراهام" ليخبره بخجل بشأن خطأ ارتكبه قبل بضع ثوان كلف الشركة أموالاً. يحكي "إبراهام" أنه داعب الشاب ووضع يديه على كتفيه وسار به إلى مكتبه وأخبره بكيفية علاج ذلك الخطأ.
هذا المتداول الشاب وجد نفسه في ورطة بسبب افتقاره إلى الخبرة لكنه لم يعاقب لأنه فعل بالضبط ما طلب منه. رأى فرصة وسارع إلى اقتناصها، ولكن عندما انتهى الأمر على نحو غير جيد واتضح له أن قراره كان خاطئًا سارع إلى أحد كبار المتداولين لطلب المساعدة.
كان هذا الحادث مؤشراً على ثقافة الصراحة والثقة المتبادلة في "سميث نيوكورت" والتي جعلتها واحدة من أنجح شركات التداول في بريطانيا.
المصادر: أرقام
كتاب: The Marine Corps Way: Using Maneuver Warfare to Lead a Winning Organization
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}