بعد خمسة أيام فقط من تجمع أكثر من نصف مليون شخص في برلين الشرقية في احتجاج جماهيري ضخم، وتحديدًا في التاسع من نوفمبر 1989 انهار الجدار الذي يفصل ألمانيا الشرقية الشيوعية عن ألمانيا الغربية، وهو الحدث الذي تسبب بشكل أو بآخر في إعادة تشكيل النظام العالمي الذي تصدرته الولايات المتحدة بمفردها تقريبًا منذ ذلك الحين.
ولكن بالمقارنة مع وباء "كورونا" الجديد الذي نعيش تداعياته اليوم، تبدو أحداث مثل سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفييتي وأزمة 2008 المالية شديدة الضآلة. فالأزمة الحالية عمقها وحجمها هائلان، كما أنها ليست كأي حدث شهدناه من قبل أو قرأنا عنه في كتب التاريخ.
هناك اليوم 7.8 مليار إنسان على وجه الأرض يواجهون خطرا صحيا جادا جدًا، من المرجح أن تمتد آثاره لتخلق أزمة مالية واقتصادية تتجاوز بكثير تلك التي عايشها العالم في 2008، وهو ما يجعلها قادرة على تغيير شكل النظام الدولي القائم وقلب توازن القوى العالمية الحالي رأسًا على عقب.
دفع الفيروس الذي ظهر في الصين في ديسمبر الماضي قبل أن يخرج منها لينتشر في جميع أنحاء العالم تقريبًا كثيراً من الدول إلى حظر وعزل وتحديد حركة مئات الملايين من مواطنيها في غضون عدة أسابيع فقط، وهي إجراءات لم يلجأ إليها الكثير من البلدان من قبل حتى في حالات الحرب.
التخبط الأمريكي
يعيش حاليًا الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" أصعب أيامه على الإطلاق بعد أن اتضح للرأي العام الأمريكي أن إدارته فشلت في التعامل مع أزمة فيروس كورونا في بدايتها وهونت منها وقوضت جهود الجهات الحكومية المسؤولة عن إدارة الأزمات من ذلك النوع، وهو ما أفقد العالم وفي القلب منه الشعب الأمريكي الثقة في قدرة وكفاءة إدارة "ترامب".
تغريدات "ترامب" والبيانات الصادرة عن البيت الأبيض ساهمت إلى حد كبير في بث الارتباك وتعزيز الشكوك لدى الأمريكيين الذين بدأ الرعب يسيطر عليهم بعد أن اتضح أن القطاعين العام والخاص غير مستعدين بما يكفي لإنتاج وتوزيع الأدوات اللازمة لإجراء اختبارات الفيروس أو تلك الضرورية للاعتناء بالمصابين.
وما زاد الأمور سوءًا انكفاء الولايات المتحدة على نفسها منذ بداية الأزمة وتخليها عن مسؤولياتها كقوى عظمى عالمية، وهو ما بدا جليًا حين اكتشف الألمان سعي "ترامب" سرًا للحصول على عقار محتمل لـ"كورونا" تطوره شركة ألمانية بشكل حصري للولايات المتحدة بعد أن عرض عليها كمًا كبيرًا من الأموال.
ما يجهله "ترامب" -أو ربما يتناساه- أن الولايات المتحدة بنت مكانتها كقوة عظمى عالمية في العقود السبعة الأخيرة ليس على ثروتها وقوتها العسكرية فقط ولكن أيضًا على أساس عنصر لا يقل أهمية عن السابقين وهو تصرفها كقائد للعالم من خلال السعي لتوفير الدعم للدول التي تحتاج إليه وحشد الصفوف لتنسيق استجابة عالمية للأزمات.
على الرغم من أنه من المستحيل تحديد عدد الأمريكيين الذين قد يتسبب فيروس كورونا الجديد في موتهم إلا أن أكثر الافتراضات تفاؤلاً تشير إلى أنه قد يتسبب في أن يلقى نحو 480 ألف شخص في الولايات المتحدة حتفهم، بينما تشير الدكتورة "كاثلين نوزيل" مديرة مركز تطوير اللقاحات في كلية الطب بجامعة ميريلاند إلى أنه قد يقتل الملايين في جميع أنحاء البلاد.
الصين تتقدم الصفوف
في الوقت الذي تبدو فيه الولايات المتحدة متعثرة داخليًا وخارجيًا في مكافحة كورونا، تتحرك الصين في المقابل بسرعة وبراعة لاستغلال الأخطاء والثغرات التي تسبب فيها التعامل الأمريكي الضعيف مع الأزمة، وبدأت في تقديم نفسها كزعيم عالمي يمكن الوثوق به والاعتماد عليه.
اعتمدت الصين في خطتها على عنصرين أساسيين، الأول هو الترويج لنجاحها الساحق في مكافحة الفيروس والتصدي له في وقت قصير رغم أنها كان حتى وقت قريب البؤرة الرئيسية للمرض ومصدر انتقاله إلى جميع أنحاء العالم، وذلك من خلال فرض قيود شديدة على حركة ما يقرب من 760 مليونا من مواطنيها.
أما العنصر الثاني فهو مبادرة بكين إلى مساعدة عدد من الدول المتضررة وفي مقدمتها إيطاليا التي أصبحت الآن البؤرة الرئيسية للمرض في أوروبا لدرجة أن عدد الوفيات الناتجة عن الفيروس لديها تجاوز نظيره لدى الصين. وسيظل مشهد الخبراء الصينيين وهم ينزلون من طائرة ممتلئة بالمساعدات الطبية في أحد المطارات الإيطالية راسخًا في الأذهان لسنوات قادمة.
في الوقت الذي لم تستجب فيه أي دولة أوروبية لنداء إيطاليا العاجل لتزويدها بالمعدات والمستلزمات الطبية، قامت الصين بإرسال ألف جهاز تنفس صناعي ومليوني قناع للوجه و100 ألف قناع تنفس و20 ألف بدلة واقية و250 ألف جهاز اختبار.
كما حرصت بكين على إرسال فرق طبية إلى إيران بالإضافة إلى 250 ألف قناع للوجه. نفس الأمر حدث مع صربيا التي وصف رئيسها التضامن الأوروبي بأنه "حكاية خرافية" وقال إن "الدولة الوحيدة التي يمكنها مساعدتنا هي الصين".
في هذه الأزمة، تمتلك الصين ميزة لا يمتلك مثلها أي من دول العالم بما في ذلك الولايات المتحدة تتمثل في أن الكثير من المستلزمات والمعدات الطبية اللازمة لمكافحة الفيروس هي المصنع العالمي الرئيسي لها أصلًا.
فالصين هي أكبر منتج للأقنعة الطبية بكافة أنواعها في العالم، حيث تنتج وحدها أكثر من نصف الإنتاج العالمي من قناع التنفس "إن 95" الضروري لحماية الفرق الطبية.
هذا طبعًا بخلاف حقيقة أكثر خطورة وهي أن كافة المضادات الحيوية التي يمكن استخدامها في علاج الالتهابات والمشاكل الصحية الثانوية الناتجة عن الإصابة بكورونا يتم تصنيعها من مواد فعالة تعتبر الصين هي المنتج الرئيسي لمعظمها. ببساطة أصبح العالم كله فجأة رهينة للصين بما في ذلك أمريكا.
عودة مذهلة
تدرك القيادة الصينية أن نظر العالم إليها في هذا المشهد كقوة عظمى تدعم الدول المحتاجة إلى المساعدة في نفس الوقت الذي تتقاعس فيه الولايات المتحدة عن القيام بدورها تجاه شعبها ناهيك عن غيرها من الدول من شأنه أن يرجح حظوظها في سباق قيادة العالم في القرن الواحد والعشرين.
المثير للاهتمام هو أن الصورة تغيرت تمامًا في غضون عدة أسابيع. فعلى مدار شهري يناير وفبراير رجح كثير من الخبراء والمراقبين أن يتسبب الفيروس وتداعياته في إضعاف قبضة الحزب الشيوعي على السلطة في الصين التي ستعاني الأمرين اقتصاديًا وصحيًا. بل وصل الأمر إلى حد تسمية بعضهم للأزمة بـ"تشيرنوبيل" الصينية.
ولكن فجأة تبدلت المقاعد في بداية مارس بعد أن أعلنت الصين تمكنها من السيطرة على الفيروس، وذلك بفضل إجراءات الحظر الضخمة التي فرضتها على الجزء الأكبر من البلاد لعدة أسابيع. وزار الرئيس الصيني "جين بينج" ووهان في العاشر من مارس ليعلن من البؤرة الأصلية للمرض تمكن بدلاده من السيطرة على الأمر.
نجاح الصين يبرزه الكثير من المقالات والتغريدات الدعائية بكافة اللغات، وما يعزز من انتشار هذه السردية هو فشل الدول الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة في مساعدة نفسها فضلًا عن مساعدة الآخرين. تواجه أمريكا حاليًا خطر عدم كفاية المخزونات والأجهزة الطبية للتعامل مع الأزمة حال تفاقمها.
بذكاء اغتنمت الصين الفرصة وبدأت في التسويق لنفسها مستفيدة من حالة الفوضى في الداخل الأمريكي، وهو ما ركزت عليه وسائل الإعلام الصينية التابعة للحكومة والتي تعمل على إبراز تفوق الجهود الصينية في مواجهة ما سمته وكالة الأنباء الصينية شينخوا "اللا مسؤولية وضعف الكفاءة التي اتسمت بها النخبة السياسية في واشنطن".
أخيرًا، يبدو أن الأزمة لا تزال في بدايتها ولذلك من المستحيل التنبؤ بتداعياتها المحتملة أو ما قد تؤول إليه لكن المؤكد هو أن العالم بعد كورونا لن يكون هو العالم الذي نعرفه اليوم.
المصادر:أرقام -فورين أفيرز – نيويورك تايمز– بلومبرج – سي إن بي سي –ناشونالإنترست– فورين بوليسي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}