منذ بداية العام الجاري وبالأخص في الأسابيع الأخيرة، تستمر الأحداث والتطورات في التلاحق بسرعة كبيرة تفوق قدرة الكثيرين على الفهم والاستيعاب، وهو ما تسبب في حالة من الإرباك للجميع، سواء حكومات أو شركات أو أسواق أو جهات تنظيمية أو حتى الأفراد.
هناك حالة من عدم الارتياح تسود المشهد الآن في ظل عدم اتضاح معالم أزمة فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19) الآخذة في التطور والاتساع. فالأزمة التي بدأت قبل 3 أشهر في الصين، اعتقد كثيرون أن بكين ستنجح في السيطرة عليها وتحجيم نطاقها بسرعة كما فعلت من قبل مع فيروس "سارس" في عام 2003.
ولكن هذا لم يكن هو الحال، وانفجرت الأزمة في وجه الصين ومن ورائها العالم أجمع. هناك الآن ما يقرب من 200 دولة وإقليم حول العالم تجاهد للسيطرة على التداعيات الصحية والاقتصادية للفيروس الذي قتل حتى لحظة كتابة هذا التقرير أكثر من 36 ألف إنسان، وتسبب في تحجيم وإيقاف النشاط الاقتصادي في أكثر دول العالم.
خسارة مؤلمة للجميع
على وقع هذه التطورات، عانى السوق كغيره من الأسواق العالمية من نوبات ذعر كبيرة فقد خلالها جزءًا غير ضئيل من قيمته. ولسوء الحظ، سرعان ما تحولت الأزمة بالسوق إلى أزمة مركبة في ظل الصعوبات التي يواجهها حاليًا سوق النفط، الذي يشهد لأول مرة صدمة على جانبي العرض والطلب في نفس الوقت.
الخسائر التي عانى منها السوق حتى الآن ليست ضئيلة أبدًا، ولدى المستثمرين وبالأخص الأفراد منهم كل الحق في القلق بشأنها والتفكير في كيفية تعويضها وإنقاذ ما تبقى من رأس المال. ولكن في سعيهم لتحقيق ذلك يرتكب المستثمرون أحيانًا أخطاءً فادحة لا تزيد مواقفهم إلا سوءًا، وذلك لأنهم يتخذون قراراتهم بينما يشعرون بمزيج من الخوف والقلق والغضب والندم والألم.
الألم الذي يشعر به كثير من المستثمرين في السوق الآن فعلًا كبير، ولا يمكن لأحد التقليل من شأنه أو وصفه بأنه مبالغ فيه. ففي دراسة نشرها في عام 2014 تحت عنوان "تأثير الخسائر المالية القاسية" أشار الأستاذ بالجامعة الوطنية الأسترالية "أرون برون" إلى أن الآثار العاطفية والجسدية للخسارة المالية الكبيرة تشابه إلى حد كبير تلك التي يشعر بها الشخص تجاه فقدان أحد أفراد أسرته.
ولكن ما الذي يمكن لمستثمري سوق الأسهم فعله الآن وسط هذه الأجواء لكي يتمكنوا من تعويض خسائرهم والحفاظ على رؤوس أموالهم ومن قبلها صحتهم واستقرارهم النفسي؟ وما الذي لا يجدر بهم فعله؟ هذا هو موضوع التقرير.
الشاشة والمحفظة
في أكتوبر من عام 2017 أعلنت الأكاديمية السويدية الدولية للعلوم فوز الاقتصادي الأمريكي "ريتشارد ثالر"، أحد الآباء المؤسسين لعلم الاقتصاد السلوكي، بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية بفضل إسهاماته في دمج الافتراضات الواقعية النفسية في التحليلات المتعلقة بصنع القرار الاقتصادي.
أصبح "ثالر" ملء السمع والبصر منذ ذلك الحين، ولكنه يحظى بالأساس بشهرة كبيرة بين مستثمري سوق الأسهم منذ عام 1995، وتحديدًا منذ نشره ورقته البحثية الشهيرة "النفور قصير المدى من الخسارة ولغز علاوة مخاطر الأسهم" التي تعاون خلالها مع الاقتصادي "شلومو بينارتزي".
درس الرجلان في الورقة تأثير ما يسمى بقصر النظر الاستثماري أو "النفور قصير المدى من الخسارة" (Myopic Loss Aversion) على عوائد المستثمرين بسوق الأسهم، وخلصا إلى أن أداء المستثمرين الذين يفحصون محافظهم بشكل متكرر وعلى مدار الساعة كان أضعف بكثير مقارنة مع أداء المستثمرين الذين ابتعدوا عن محافظهم ولم يفحصوها إلا على مدى فترات زمنية متباعدة.
أشارت الورقة إلى أن المستثمرين الذين لا يبعدون أنظارهم أبدًا عن محافظهم وخصوصًا وقت الأزمات غالبًا ما يزداد إحساسهم بالخطر ونفورهم من الخسارة وهو ما يقودهم إلى التفاعل بشكل سلبي مع الخسائر في المدى القصير، ويدفعهم إلى اتخاذ قرارات تكون محصلتها في النهاية أن يبيع المستثمر بالرخيص ما اشتراه بالغالي.
ما ذهب إليه "ثالر" و"بينارتزي" أكدته دراسة نشرت في عام 2016 تحت عنوان "هل يفسر النفور قصير المدى من الخسارة لغز علاوة مخاطر الأسهم؟". وفي هذه الدراسة وجد الباحثون أن المستثمرين الأقل تعرضًا للأخبار وبالتالي الأقل استقبالًا للمعلومات حققوا أرباحًا أعلى بنسبة 53% مقارنة مع أولئك الذين يتابعون تدفقات المعلومات على مدار الساعة.
نفس الأمر أشار إليه أستاذ الاقتصاد السلوكي بجامعة كاليفورنيا "تيرينس أوديان" في ورقة بحثية نشرها في 1998 تحت عنوان "هل يتداول المستثمرون أكثر من اللازم؟" والتي قام خلالها بدراسة سلوك أكثر من 10 آلاف من المستثمرين الأفراد بالسوق الأمريكي الذين تم انتقاؤهم بشكل عشوائي خلال السنوات السبع الممتدة بين عامي 1987 و1993.
اكتشف "أوديان" أن هؤلاء المستثمرين باعوا واشتروا 78% من محافظهم كل عام. وبعد أن قارن أداء هذه المحافظ مع أداء المؤشرات الرئيسية بالسوق توصل إلى نتيجتين مثيرتين للاهتمام، الأولى هي أن أحدث الأسهم التي اشتراها هؤلاء المستثمرون كانت عوائدها أقل من عوائد السوق، أما الثانية فهي أن الأسهم التي قاموا ببيعها حققت عوائد أعلى من السوق.
الدخول والخروج في الوقت الخاطئ تمامًا
في ظل تسارع التطورات المتعلقة بفيروس كورونا الجديد وسوق النفط الخام، يشعر الكثير من المستثمرين بحاجتهم الشديدة لمتابعة أكبر قدر ممكن من الأخبار بغرض العثور على معلومات تمكنهم من تعديل مراكزهم على أساسها قبل فوات الأوان. ولكن ما لا يدركه هؤلاء هو أن ذلك السلوك يصيبهم بقصر النظر الاستثماري.
للأسف يقع هؤلاء ضحية مفارقة مثيرة للاهتمام وهي أنهم بينما يسعون للتعامل مع الخسائر العارضة على المدى القصير ينتهي بهم الحال بحرمان أنفسهم من كسب المزيد على المدى الطويل، أو التسبب في تفاقم خسائرهم وخروجها عن نطاق السيطرة.
أشارت دراسة أجراها الذراع الاستثمارية لبنك "جي بي مورجان" في عام 2015 إلى أن المستثمرين الذين هرعوا إلى الخروج من السوق في كل مرة شهد فيها مؤشر "إس آند بي 500" هزة خلال الفترة ما بين يناير 1995 وديسمبر 2014 ضيعوا على أنفسهم فرصة الاستفادة من أفضل 60 يومًا مر بها السوق، لتتحول في النهاية كل 10 آلاف دولار استثمروها إلى 4570 دولارا، وما يمثل عائدا سنويا سالبا قدره 3.84%.
أما أولئك الذين فوتوا 20 من أفضل أيام المؤشر خلال تلك الفترة فقد تحولت الـ10 آلاف دولار الخاصة بهم إلى 20.35 ألف دولار، في حين بلغت قيمة الاستثمار الأولي للمستثمرين الذين أضاعوا فرصة الوجود في السوق خلال أفضل 10 أيام له حوالي 33 ألف دولار بنهاية عام 2014، محققين عائدًا سنويًا قدره 6.1%.
في المقابل، أصبحت العشرة آلاف دولار الخاصة بأولئك الذين صمدوا وبقوا في السوق في أيامه الجيدة والسيئة إلى 65.453 ألف دولار بحلول الحادي والثلاثين من ديسمبر 2014. هؤلاء كل ما فعلوه هو أنهم تعايشوا مع دوراته المختلفة.
أما المعلومة الأكثر إثارة للاهتمام في هذه الدراسة فهي أن 6 من الأيام العشرة الأفضل لمؤشر "إس آند بي 500" خلال تلك الفترة حدثت في نطاق أسبوعين من أسوأ 10 أيام مر بها المؤشر. وهو ما يعني أن كل من خرج في أسوأ أيام المؤشر فوت على نفسه فرصة الاستفادة من أفضل أيامه، والتي لم تكن بعيدة بأي حال.
خطورة المتابعة اللصيقة للأخبار
في ضوء ما سبق، فإن أفضل ما يمكن للمستثمر فعله في خضم الأزمة الحالية هو أن يتوقف عن فحص محفظته باستمرار وعلى مدار الساعة، لأن هذا سيزيد من إحساسه بالخسائر وانزعاجه منها وسيدفعه إلى تعديل المحفظة بشكل غير مدروس تحت وطأة الضغوط النفسية التي تزاداد كلما زادت متابعته للأخبار.
أشارت دراسة نشرت خلاصتها عالمة النفس الأمريكية "إلين بيترز" في "نيويورك تايمز" قبل نحو أسبوعين إلى أنه على عكس ما يعتقد الناس، فإن مطاردتهم للأخبار والإحصاءات المتعلقة بفيروس كورونا هو أمر عديم الجدوى وربما يعود عليهم بنتائج عكسية، وخاصة على المستثمرين في سوق الأسهم الذين يبيعون ويشترون على أساس الضوضاء الحالية.
بالتعاون مع عالم النفس "بار بجالكيبرينج" تم سؤال 1279 أمريكيًا في فبراير الماضي عما إذا كانوا قد تابعوا بشكل يومي التطورات والإحصاءات المتعلقة بفيروس كورونا. وقال حوالي نصفهم أو 47.5% منهم إنهم فعلوا ذلك، في حين أشار 52.5% منهم إلى أنهم لم يفعلوا.
وجدت الدراسة أن أولئك الذين طاردوا الإحصاءات وتابعوها عن كثب كانوا أكثر قلقًا مقارنة مع من لم يفعلوا ذلك، كما اتضح أن هؤلاء يعتقدون أنهم أكثر عرضة للإصابة بالفيروس. ولاحظت الدراسة أن أولئك الذين يلاحقون الأخبار يميلون للتركيز على الأشياء المخيفة كأعداد المصابين الوفيات، وهو ما يزيد من خوفهم ويعزز إحساسهم بمدى خطورة الوضع ويشوه في النهاية قدرتهم على التفكير بمنطقية.
تعديل المحفظة .. لا للترقيع
باختصار من مصلحة المستثمر أن لا يغرق نفسه في متابعة الأخبار، وأن يفحص محفظته على مدار فترات متباعدة. ولكن هل هذا يعني أنه لا ينبغي على المستثمر تعديل محفظته بأي شكل خلال الأزمة؟ بالتأكيد لا، فهي بالنهاية ليست شيئًا مقدسًا، ولكن المشكلة هي أن يكون التعديل غير مدروس أو أن يتم تحت وطأة حرارة اللحظة في السوق.
يمكن للمستثمر بالتأكيد الاستفادة من التقلبات الحالية التي يشهدها السوق، ولكن أي خطوة تتم في هذا الاتجاه يجب أن تكون في إطار تحليلي مناسب. للأسف، كثير من التعديلات التي تشهدها محافظ المستثمرين خلال الأزمة ليست تغييراً في الاستراتيجية وإنما هي شكل من أشكال الترقيع.
الأزمة الحالية أثرت حتى الآن على مختلف الصناعات والقطاعات الاقتصادية، ورغم ذلك تختلف درجة التأثر من قطاع إلى آخر ومن شركة إلى أخرى. ولكن هل هذا يعني أن الشركة "س" التي تراجع سهمها بنسبة 5% فقط أفضل من الشركة "ص" التي فقدت منذ بداية الأزمة وحتى الآن حوالي 15% من قيمتها؟
قطعًا لا، ولا يمكننا تقرير ذلك بناءً على تلك المعلومة فقط. ولكن للأسف في خضم الأزمة يجد كثيرون صعوبة في إدراك تلك الحقيقة، وتحت وطأة مزيج من الخوف والارتباك وقصر النظر يتخلى هؤلاء عن أسهمهم التي من المفترض أنهم اختاروها من البداية بعد دراسة متأنية، ويدخلون في شركات لا يعرفون عنها ولا عن القطاعات التي تعمل بها سوى اسمها.
هذا من المفترض أنه مستثمر، ولكنه في الحقيقة ليس أكثر من مضارب يحاول الاستفادة من التقلبات السعرية. وإذا سألته لماذا تتصرف كالمضارب، يقول لك: أنا مستثمر على المدى القصير! في واحدة من أشد العبارات تناقضًا. فكيف تكون مستثمرا وفي نفس الوقت تلعب على المدى القصير؟ هذا بالضبط كمن يقول: "تقديراتي دقيقة" (أو متزوج سعيد).
انتبه لموضع قدميك
لو كان المستثمر قد استثمر الوقت والجهد الكافيين في اختيار الأسهم التي تضمها محفظته حاليًا فعلى الأغلب لن يحتاج إلى إجراء تغييرات جوهرية كبيرة عليها. فالسهم الجيد جيد في أيام السوق الصعبة قبل السهلة. ولا يجدر بك أن تتخلى عن سهم جيد إلا في حالة واحدة، وهي حاجتك للسيولة لاقتناص سهم أكثر جودة تعرفه جيدًا (ويا حبذا لو كنت تراقبه منذ زمن) يوجد حاليًا عند مستوى سعري جذاب.
نعود مرة أخرى ونكرر، بالتأكيد لا يوجد شيء أصعب على المستثمر من الجلوس في مكانه بينما يشاهد أمواله التي ربما لم يكسبها إلا بشق الأنفس تتناقص قيمتها، ولكن العلم ومن قبله التجربة يشيران إلى أنه ليس من مصلحة المستثمر أن يكون قصير النظر أو أن يتخلى عن خطته ويتصرف بعشوائية أثناء سعيه للتعامل مع الخسائر العارضة التي يعاني منها السوق بالكامل.
خلاصة الكلام: اجتهد في اختيار أسهم ذات أساسيات جيدة، ثم حاول أن تنسى أنك موجود في سوق الأسهم أصلًا، وسيكون من الجيد لو عدت بعد عام لكي ترى أين وصلت.
هذا النهج أفضل من الناحية الاستثمارية بالنسبة لك، والأهم من ذلك هو أنه سيحد من قلقك وتوترك وسيساعدك على أن تنام ليلك هانئًا دون أن تجلس تنظر إلى سقف الغرفة بينما تنظر في جوالك إلى شاشة الأسعار التي لن تستفيد منها سوى حرق أعصابك.
وما أجمل أن يختم التقرير بالاقتباس التالي: "تقليديًا، كان المستثمر هو ذاك الرجل الذي يتحلى بالصبر والشجاعة والقناعات الراسخة التي تدفعه لشراء ما يبيعه المضارب المتحمس أو المحبط. فإذا كان المستثمر سيتراجع الآن إلى أن يشجعه السوق نفسه على الدخول، فكيف سيميز نفسه عن المضارب، ولماذا قد يستحق مصيرًا أفضل من المضاربين العاديين" ... بنيامين جراهام
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – ماركت ووتش – بيزنيس إنسايدر – جيه بي مورجان أسيت مانجمنت
دراسة: Myopic Loss Aversion and the Equity Premium Puzzle
دراسة: Can Myopic Loss Aversion Explain the Equity Premium Puzzle? Evidence from a Natural Field Experiment with Professional Traders
دراسة: Do Investors Trade Too Much?
كتاب: Investing: The Last Liberal Art
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}