في الثاني من أبريل أعلنت شركة الأجهزة الطبية السويسرية "مولنليك" أن فرنسا قامت في "عمل مزعج وغير لائق" بالاستيلاء لنفسها على شحنة تضم الملايين من الأقنعة الطبية والقفازات، بينما كانت تمر بأراضيها متجهة نحو كل من إيطاليا وإسبانيا، وهما الدولتان الأوروبيتان الأكثر تضررًا حتى الآن بأزمة فيروس كورونا الجديد.
وقبل تلك الحادثة بأيام، قامت ألمانيا أيضًا بالاستيلاء على شحنة من الأقنعة الطبية كانت قد أرسلتها الصين إلى إيطاليا عبر الأراضي الألمانية. وذاقت ألمانيا من نفس الكأس، حين نجح الأمريكيون في الاستيلاء على شحنة تضم 200 ألف قناع اشترتها برلين لصالح الشرطة، وذلك أثناء شحنها على أرض المطار في تايلاند.
وقبل ما يقرب من أسبوع استولت دولة أوروبية أخرى وهي التشيك على شحنة من المواد الطبية، بينما كانت في طريقها من الصين إلى إيطاليا. أما إيطاليا نفسها، والتي تعد حتى الآن البؤرة الرئيسية للمرض في أوروبا قامت هي الأخرى بالاستيلاء على شحنة تضم 1840 جهاز تنفس صناعي كان من المفترض أن تصل إلى اليونان.
هذا باختصار هو حال دول الاتحاد الأوروبي حاليًا. فجأة انهارت شعارات التضامن والوحدة وداستها أقدام الدول الأعضاء بينما تحاول كل دولة النجاة بنفسها حتى لو كانت ستتجاوز في سبيل تحقيق ذلك أي اعتبارات أخلاقية أو سياسية.
أزمة تضامن
مع انتقال البؤرة الرئيسية لفيروس كورونا الجديد من الصين إلى أوروبا في النصف الأول مارس الماضي أدارت الحكومات الأوروبية المذعورة ظهورها لبعضها البعض، وانهارت الكثير من الركائز التي يقوم عليها مشروع الوحدة الأوروبي، وهرعت كل دولة إلى الاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المعدات والمستلزمات الطبية غير آبهة بمصير جيرانها.
هناك الآن أزمة تضامن كبيرة بين الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، تشعر خلالها الدول الأوروبية غير الغنية بالهشاشة والوحدة في مواجهة الوباء المستمر في الانتشار بسرعة كبيرة، وذلك ليس لافتقارها إلى الإمدادات الطبية اللازمة فقط، وإنما أيضًا لإحساسها بأن تدابير التقشف الصارمة التي تم فرضها عليها خلال العقد الماضي ساهمت في إضعاف قطاعاتها الصحية بشكل جعلها عاجزة الآن أمام تداعيات كورونا.
ومن شأن التصرفات الأنانية الحالية أن تلقي بظلالها على محاولات الاتحاد الأوروبي لبناء قدرات أمنية ودفاعية مشتركة. فإذا كانت الدول الأعضاء لا تستطيع الاعتماد على بعضها البعض في مكافحة مرض، فكيف يمكنها أن تتعاون في مواجهة عدوان خارجي مسلح؟
حالة الانكفاء على الذات هذه، دفعت رئيسة المفوضية الأوروبية "أورسولا فوندير لاين" لإطلاق تصريحات لاذعة نادرة للدول الأعضاء. ففي خلال كلمة ألقتها أمام البرلمان الأوروبي في السادس والعشرين من مارس عبرت عن أسفها من تعامل كثير من العواصم الأوروبية مع الأزمة حتى الآن قائلة: "عندما كانت أوروبا تحتاج حقًا لبعضها البعض، كان الكثيرون يتطلعون لأنفسهم أولًا".
خذلان الطليان
في الأيام الماضية تلقت القوة الناعمة للاتحاد الأوروبي ككيان ضربة كبيرة. فالضجة الإعلامية التي أحدثتها المساعدات الصينية والروسية لإيطاليا التي تقف عاجزة في مواجهة الفيروس كانت أكبر وأوسع نطاقًا من تلك التي صاحبت خطة التحفيز الاقتصادي الضخمة البالغة 750 مليار يورو التي أعلن عنها البنك المركزي الأوروبي.
كانت إيطاليا قد ناشدت وتوسلت إلى الدول الزميلة في الاتحاد الأوروبي من أجل إمدادها بشكل عاجل بالمعدات والمستلزمات الطبية التي كانت في أمس الحاجة إليها مع خروج الفيروس عن نطاق السيطرة، ولكن لم تتطوع أي دولة أوروبية بأن توفر لها ما تحتاجه، بل حرصت كل دولة على تخزين إمداداتها تحسبًا لانتشار الفيروس لديها. وفي انتهاك لقواعد الاتحاد الأوروبي حظرت ألمانيا تصدير الإمدادات الطبية الحاسمة.
حتى الآن لم تكن ألمانيا – صاحبة أكبر وأقوى اقتصادات القارة العجوز – سخية في مساعدة إيطاليا وإسبانيا وهما الأكثر تضررًا ومن الأكثر فقرًا كذلك في أوروبا. هناك شعور ضئيل بالمسؤولية من قبل الألمان تجاه ما يحدث لكثير من شركائهم في الاتحاد الأوروبي. هذا الوضع يثير التساؤل لدى كثيرين حول ماهية الاتحاد الأوروبي إذا كان هذا هو الحال وقت الأزمات الحقيقية.
هل ينهار المشروع الأوروبي؟
خلال العقد الماضي، نجت أوروبا من سلسلة استثنائية من الأزمات شملت أزمة مالية في 2008 وأزمة ديون في 2012 وأزمة أمنية في 2014 بسبب روسيا وأزمة هجرة تغذيها النزاعات في سوريا وليبيا، وأزمة ديمقراطية داخلية بسبب المجر، وأخيرًا وليس آخراً أزمة خروج بريطانيا صاحبة ثاني أكبر اقتصادات القارة الأوروبية من الاتحاد.
لكن رد الفعل الأوروبي الفاشل حتى الآن تجاه أزمة فيروس كورونا يشكل أحد أكبر وأخطر التهديدات التي واجهها الاتحاد منذ نشأته، وخصوصًا وأن الأزمة الحالية تأتي في وقت لا يعيش فيه المشروع الأوروبي أفضل أيامه.
وما يزيد من خطورة الوضع الحالي أن بلدان الشمال الأوروبي الدائنة لا تبدو مهتمة بمصير بلدان الجنوب الأوروبي المدينة. والآن انقسمت فرنسا وألمانيا، الراعيان الرئيسيان للاتحاد الأوروبي، فباريس تدافع عن الجنوب الفقير، بينما تقف ألمانيا بطلة للشمال ميسور الحال الذي يرفض تحمل المزيد من الأعباء المالية للجنوب.
في الوقت الذي يتجه فيه الاقتصاد الأوروبي نحو الركود، يقف زعماء الاتحاد مختلفين بشأن إصدار ما يسمى بسندات "كورونا" التي تهدف إلى تقاسم الدول الأوروبية للأعباء المالية الناتجة عن أزمة كورونا. فألمانيا وهولندا تقودان المعارضين لتلك السندات، بينما تدفع تسع دول من بينها فرنسا وإيطاليا وإسبانيا باتجاهها.
أخيرًا، على الأرجح لن تتسبب أزمة فيروس كورونا في انهيار الاتحاد الأوروبي، لكن المؤكد أنه إذا استمر الافتقار إلى التضامن الملموس بين أعضائه فسوف تتركه الأزمة كيانًا أجوف بلا معنى. والأخطر أن التراجع المتسارع للاتحاد الأوروبي يعني أن أحد الركائز الأساسية للعالم الغربي الديمقراطي تهتز بشدة في نفس الوقت الذي تقدم فيها كل من روسيا والصين رؤى منافسة للمستقبل.
المصادر: أرقام – الجارديان – واشنطن بوست – وول ستريت جورنال – بي بي سي
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}