يبدو أن السيناريو الكابوس الذي لطالما خشاه كبار منتجو النفط حول العالم في طريقه ليصبح واقعًا: مواقع التخزين ممتلئة ولا مكان للاحتفاظ بالفائض الهائل في المعروض من الخام بالسوق. وعلى عكس الحليب، لا يمكن تفريغ النفط أو رميه في الحقول أو حتى في البحر.
مع تحول فيروس كورونا إلى جائحة، دخل الاقتصاد العالمي في حالة غيبوبة أغلق على أثرها النشاط الصناعي حول العالم وتحولت المدن العالمية الرئيسية إلى مدن أشباح بعد أن اضطر الناس للجلوس في منازلهم. وفي وسط هذه الظروف لا يحتاج أحد إلى هذا المعروض الهائل من النفط.
ورغم كل ذلك لا يزال النفط يتدفق من الآبار بنفس الوتيرة تقريبًا، والآن لا يجد هذا النفط مكانًا ليذهب إليه بعد أن اقتربت كافة مواقع التخزين حول العالم من الوصول إلى طاقتها الاستيعابية الكاملة. هذا الوضع يثير التساؤلات المنطقية التالية: ما مصير الفائض من المعروض؟ وما العائق أمام إغلاق الآبار إلى حين تعافي الطلب؟
أحوال لا تسر
في العشرين من أبريل الماضي انهارت أسعار النفط الخام الأمريكي إلى ما دون الصفر لأول مرة في التاريخ، بينما تراجع سعر خام برنت إلى أدنى مستوياته في عقدين، وذلك على أثر الضغوط التي يتعرض لها حاليًا سوق النفط الذي شهدت مستويات الطلب به في الأسابيع الأخيرة انخفاضًا يقترب من الثلث أو 35 مليون برميل يوميًا.
هذا الانهيار لم يحدث فجأة، حيث تسبب التأثير الاقتصادي لجائحة كورونا في تدمير استقرار صناعة النفط على مدار عدة مراحل بها الكثير من الدراماتيكية. ففي البداية، دُمر الطلب بعد أن أغلقت المصانع أبوابها وجلس الناس في بيوتهم، ثم ارتفع الإنتاج إلى مستويات قياسية في مارس وأبريل، ثم امتلأت مواقع التخزين وتحولت ناقلات النفط إلى خزانات عائمة وهو ما تسبب في ارتفاع أسعار الشحن.
الآن يبدو أن خيارات كبار المنتجين حول العالم نفدت ولم يعد هناك بد من البدء في خفض الإنتاج من خلال غلق بعض الآبار أو تقليل حجم إنتاجها. هذا الخيار المر تنبأت به دول "أوبك+" وحاولت من خلال اتفاقها في 11 أبريل الماضي أن تتجنبه بأي ثمن، ولكن للآسف لا يتجاوز إجمالي التخفيضات المتفق عليها ثلث الفائض الذي يعاني منه المعروض من الخام حاليًا.
وأول من اضطرتهم ظروف السوق إلى خيار الإغلاق المر هم المنتجون الأمريكيون والذين حوصروا في الزاوية مع هبوط الأسعار إلى مستويات لا يمكنهم التعايش معها. وهذا ربما يوضحه انخفاض عدد منصات النفط الأمريكية من نحو 650 منصة قبل بداية الأزمة الحالية إلى ما يقرب من 378 منصة فقط خلال الأسبوع الماضي، لتسجل بذلك أدنى مستوى لها في أربع سنوات.
الخيار المر
في تمام الساعة الواحدة من مساء يوم الإثنين الذي شهد انخفاض أسعار الخام الأمريكي إلى ما دون الصفر، أمر "ريتشاردكيركلاند"، الرئيس التنفيذي لشركة النفط البحري الأمريكية "كانتيوم إل إل سي" بإيقاف الإنتاج بالكامل لمدة شهرين على الأقل. وبحلول السادس من صباح الثلاثاء تم إغلاق كل الحقول تقريبًا والتي تنتج نحو 20 ألف برميل في اليوم.
"الخزانات ممتلئة، والمصافي ممتلئة ولا أحد يريد النفط" هكذا صرح "مات ماكارول"، الرئيس التنفيذي لشركة "فيلد وود إنرجي" أثناء إعلانه قرار الشركة بالإغلاق الفوري للغالبية العظمى من إنتاجها البالغ نحو 100 ألف برميل يوميًا، بعد أن أصبح التجار والمنتجون يدفعون للمشترين لكي يأخذوا النفط منهم.
من جانبها، توقعت شركة استشارات الطاقة "ريستاد إنرجي" أن يؤدي الانهيار الحاد للأسعار إلى انخفاض الإنتاج الأمريكي من الخام بنحو 4 ملايين برميل يوميًا بنهاية عام 2021 وذلك مقارنة بمستوى قياسي تجاوز الـ31 مليون برميل يوميًا في وقت سابق من العام الجاري.
ولن تقتصر إجراءات الإغلاق القسري للآبار على الولايات المتحدة فقط، فقد رجح الخبراء أن يحذو الكثير من كبار منتجي الخام حول العالم حذوها خلال الأسابيع القادمة بعد احتراق كارت التخزين. فقد راهن المنتجون في البداية على قدرة مواقع التخزين حول العالم على استيعاب الفائض في المعروض إلى حين انتعاش الطلب مرة أخرى، ولكن هذا لم يحدث.
اتسع الخرق على الراقع
بعد فترة من الشد والجذب، اتفقت مجموعة "أوبك+" في الحادي عشر من أبريل الماضي على خفض إنتاجها الإجمالي بنحو 20% أو 9.7 مليون برميل يوميًا. ورغم كونها الأكبر في التاريخ إلا أن هذه التخفيضات لا تكفي لعدل ميزان السوق في ظل فقدان الطلب لنحو 30% من مستوياته الطبيعية ودخول نحو 50 مليون برميل بشكل أسبوعي إلى مواقع التخزين حول العالم.
ومن بين الأسباب التي تضعف من تأثير تخفيضات "أوبك+" التي دخلت حيز التنفيذ اعتبارًا من الأول من مايو هو أن الكثير من النفط الذي تم إنتاجه على مدار الشهرين الماضيين لم يدخل السوق بعد. فجزء كبير من النفط المنتج في مارس وأبريل لا يزال في عرض البحر على متن خزانات عائمة أو في ناقلات إما ترسو الآن أمام أحد الموانئ وإما لا تزال تشق طريقها إلى وجهة معينة قد لا تصل إليها إلا بعد أسابيع.
الطلب العالمي على الخام يراوح الآن بين 65 و70 مليون برميل، وذلك مقارنة بنحو 100 مليون برميل قبل اندلاع الأزمة. لذا، في أسوأ السيناريوهات سيضطر المنتجون إلى إغلاق الآبار المسؤولة عن ثلث الإنتاج العالمي.
وسط هذه الظروف القاسية والصعبة، من المرجح ألا يصمد صغار المنتجين، خصوصا المنتجين المستقلين في الولايات المتحدة، ولكن حتى المنتجين الكبار سيجدون أنفسهم في غضون أيام في مواجهة خيارين أحلاهما مر. فإما أن يغلقوا الآبار ويخاطروا بسلامة الخزان النفطي، وإما أن يلجأوا لبناء مواقع تخزين جديدة لاستيعاب الفائض، وهي عملية مكلفة وتستغرق الكثير من الوقت.
كل شركات النفط حول العالم تقريبًا، ترغب في تجنب خيار الإغلاق الكامل للآبار لأنه خيار مؤلم للغاية وتبعاته خطيرة، ولذلك غالبًا ما يفضل المنتجون وخاصة الكبار منهم الاستمرار في تشغيل البئر ولو بخسارة بدلًا من إغلاقه تمامًا. فطالما أن الأسعار أعلى من الصفر، فإن البئر سيستمر في جلب بعض المال الذي يمكنه تغطية ولو جزءا بسيطا من التكاليف الثابتة للشركات.
الشركات هنا تتطلع إلى المستقبل، وتضع نصب عينيها حقيقة أنه مهما طال الزمن سيتعافى الطلب في النهاية وترتفع الأسعار مجددًا.
كيف تعمل الآبار؟
مشكلة آبار النفط هي أنها لا تغلق وتفتح بسهولة أو من خلال الضغط على زر معين، بل إن العملية أعقد من ذلك بكثير. ففي أغلب الأحيان يتسبب إغلاق البئر في الإضرار بالخزان النفطي، وتطلب عملية فتحه مجددًا وإعادة إنتاجه إلى نفس المستوى استثمار الكثير من الأموال، وقد لا يرجع أبدًا إلى نفس المستوى.
في الصورة التالية تظهر الصمامات الخارجية الخاصة بأحد آبار النفط الخام. للوهلة الأولى قد تبدو لك عملية إغلاق البئر سهلة نسبيًا مع وجود هذا الكم من الصمامات التي تستخدم في تنظيم عمل البئر، وهذا صحيح، غير أن المشكلة هي أن الكثير من الآبار لا يمكن إغلاقها دون الإضرار بالإنتاج المستقبلي للبئر.
هذا هو السبب في أن الإغلاق عادة ما يكون هو الخيار الأخير بالنسبة لشركات النفط، والتي تفضل التحمل والاستمرار في الإنتاج ولو بخسارة على أن تغلق البئر وتخاطر بتراجع إنتاجه مستقبلًا. وفي الأيام القادمة سيكافح الكثير من المنتجين حول العالم لتجنب خيار الإغلاق، ولكن قدرتهم على التحمل مرهونة بموعد انفراج الأزمة الحالية. البعض قد ينهار ويستسلم في النهاية.
إذا كانت الشركة ترغب في إغلاق البئر بشكل مؤقت ستقوم فقط بقطع التيار عن المضخة. وأكثر الآبار تنتج النفط باستخدام ضغطها الخاص أو باستخدام الرفع الاصطناعي، وفي هذه الآبار لن تحتاج الشركة إلى أكثر من أن يقوم أحد العمال بالتحكم في الصمامات الموجودة في الجزء العلوي من البئر أو يقوم ببساطة بقطع تيار المضخة.
ولكن بعض الآبار تعمل بطريقة أكثر تعقيدًا، حيث إنها لا تنتج إلا تحت مستويات معينة من التحفيز، وعندما تغلق من خلال إيقاف التحفيز يتأثر الإنتاج المستقبلي للبئر سلبًا. والمشكلة هي أن هذه الآبار عادة ما تكون هي الأفضل والأكثر إنتاجية، وتستغرق الشركة سنوات لكي توصلها إلى هذا المستوى باستخدام مستويات من التحفيز تم ضبطها بعناية لكي يصل الإنتاج إلى أقصى حد. إغلاق البئر يتسبب في اختلال هذا التوازن الدقيق.
وما يجعل خيار الإغلاق أكثر صعوبة بالنسبة لعدد كبير من المنتجين هي التزاماتهم القانونية، بعض المنتجين يستخدمون الآبار وفق عقود تأجير تلزمهم بالحفر في أماكن معينة. وإذا أغلق هؤلاء تلك الآبار فقد يواجهون خطر تعرض تلك العقود للفسخ وخسارتها ربما لصالح منافسين. وحينها سيضطرون إلى إعادة شرائها مجددًا.
أخيرًا، إذا لم ينتعش الطلب وترتد الأسعار ولو قليلًا إلى الأعلى في الأسابيع القادمة فسيضطر عدد كبير من المنتجين إلى إغلاق آبارهم قسرًا بعد أن تسبب امتلاء مواقع التخزين في تقليل مساحة المناورة التي لعب عليها الجميع في شهري مارس وأبريل. باختصار، لقد خرجت الرصاصة من البندقية، فهل سيتمكن الجميع من تفاديها؟
المصادر: أرقام – بلومبرج – وول ستريت جورنال – كورا – فايناشيال تايمز
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}