في الرابع والعشرين من يناير 1848 عثر نجار أمريكي يدعى "جيمس مارشال" على بضع حبيبات من الذهب بالقرب من ورشة "جون سوتر" لنشر الأخشاب في منطقة كولوما بولاية كاليفورنيا الأمريكية.
حاول "مارشال" في البداية إبقاء الأمر سراً ولكن سرعان ما انتشر الخبر ليصل إلى نحو نصف مليون شخص من جميع أنحاء العالم إلى المنطقة في غضون فترة قصيرة بحثاً عن المعدن النفيس لتبدأ ما يسميها المؤرخون "حمى ذهب كاليفورنيا".
وبعد مرور نحو 152 عاماً على تلك الحادثة وتحديداً في عام 2000 شهد العالم حمى ذهبية جديدة ولكنها لم تكن في كاليفورنيا بل في منجم قديم يدعى "ريد ليك" يقع شمال غرب مقاطعة أونتاريو الكندية، والمختلف هذه المرة هو أن الباحثين عن الذهب في ذلك المنجم لم يستخدموا الفؤوس والمعاول بل استخدموا برامج النمذجة الجيولوجية لتحديد مواقع الذهب بدقة.
حدث هذا في إطار تحدٍ غير مألوف لكل المختصين بالجيولوجيا حول العالم أطلقه "روب ماكين" الرئيس التنفيذي لشركة "جولد كروب" التي تتخذ من تورنتو مقراً لها، والتي تحولت بفضل ذلك التحدي من شركة تعاني إلى أكثر الشركات ربحية في الصناعة.
أين الذهب؟
في عام 1999 واجهت شركة تعدين الذهب الكندية "جولد كروب" مشكلة خطيرة، وهي أنها لم تعد قادرة على العثور على كميات معقولة من الذهب في مناجمها وهو ما أضر كثيراً بأرباحها، وأصبح الرئيس التنفيذي للشركة "روب ماكين" محبطاً؛ بسبب استمرار الأداء الإنتاجي الضعيف للمناجم.
وعلى الفور عقد "ماكين" اجتماعاً مع الجيولوجيين في الشركة وأمرهم ببذل كل جهد ممكن للعثور على مزيد من الذهب في منجم الشركة في منطقة "ريد ليك"، خصوصاً أن ذلك المنجم لم ينتج سوى 3 ملايين أوقية في حين أنتج المنجم المجاور له 10 ملايين أوقية، بالإضافة إلى أن نفس المنطقة يوجد بها 13 منجماً سابقاً أنتج كل منها ما متوسطه 18 مليون أوقية.
كان "ماكين" يؤمن بأن الذهب موجود في مكان ما في باطن المنجم الذي يمتد على مساحة 55 ألف فدان، وأنه يحتاج فقط لطريقة للعثور عليه، لكن عاد خبراء الجيولوجيا بشركته إليه قائلين إنهم يعتقدون أن المنجم يحتوي على ما يعادل 30 ضعف إنتاجه السنوي البالغ في ذلك الوقت 50 ألف أوقية غير أنهم غير قادرين على تحديد مكانه بالضبط.
عدم تمكن الجيولوجيين من تحديد مكان الذهب بالضبط كان من المرجح أن يتسبب في إطالة أمد عملية الاستكشاف وتكبيد الشركة لمصروفات هائلة لتغطية مصروفات الحفر والاستكشاف.
خرج "ماكين" من الاجتماع محبطاً من فشل الجيولوجيين بشركته خصوصاً أنهم من الأفضل في مجالهم. ولكن إحباطه لم يدم طويلاً؛ حيث تسببت مصادفة غريبة في إرشاده إلى طريقة بإمكانها مساعدته في العثور على الذهب.
وجدتها!
شاءت الأقدار أن يحضر "ماكين" في عام 1999 ندوة لرواد الأعمال الشباب بمعهد ماساتشوسيس للتكنولوجيا تتحدث حول قصة نظام التشغيل الحر ومفتوح المصدر "لينكس" الذي أسس نواته مهندس البرمجيات الفنلندي "لينوس تورفالدس".
لينكس هو نظام تشغيل مجاني ومفتوح المصدر يتيح لأي شخص أن يطلع على الشفرة أو الكود المصدري الخاص به ويتيح كذلك إمكانية مشاركة مستخدميه في تطويره. وتفضل الكثير من الشركات والأفراد استعمال "لينكس" لخوادمهم بدلاً من "ويندوز" لأنه أكثر آماناً، وفي نفس الوقت يمكنهم من الحصول على الدعم من مجموعة كبيرة من المستخدمين.
انبهر "ماكين" بكيفية قيام "تورفالدس" بمساعدة مجموعة من المتطوعين ببناء نظام "لينكس" عبر الإنترنت وكشف الكود المصدري الخاص به للعالم أجمع وبالتالي السماح لآلاف المبرمجين المجهولين بتقديم مساهمات قيمة في بناء نظام التشغيل وتحسينه.
"وجدتها".. قفزت هذه الكلمة فجأة في ذهن "ماكين" الذي ألهمته قصة "لينكس" فكرة مجنونة وهي إتاحة البيانات الجيولوجية الخاصة بشركته لكل المختصين والمهتمين بالجيولوجيا حول العالم؛ لكي يبحثوا معه عن الذهب في منجمه.
سارع "ماكين" إلى تورونتو وأخبر كبار الجيولوجيين في الشركة بخطته، وطلب منهم تجهيز كل البيانات الجيولوجية التي تمتلكها الشركة حول منجم "ريد ليك" والتي تبدأ من عام 1948 لكي يتم وضعها جميعاً في ملف واحد قبل أن تتم إتاحتها عبر الإنترنت للعالم لكي يبحث معهم عن الذهب.
فكرة وضع البيانات الجيولوجية السرية جداً للشركة بين أيدي الجمهور بهذه البساطة أذهلت الجيولوجيين بالشركة خصوصاً أن صناعة تعدين الذهب تحديداً دائماً ما تحاط كواليسها بقدر هائل من السرية، والأكثر خطورة هو أن ذلك يعرض الشركة لخطر عمليات الإستحواذ العدائية.
6 مليارات دولار من الذهب
لم يأبه "ماكين" باعترضات خبراء الشركة وأمر بالمضي قدماً في الخطة على أي حال. وفي مارس من عام 2000 أطلق ما أسماه "تحدي جولد كروب" والذي تعهد خلاله بدفع جائزة مالية قدرها 575 ألف دولار لأي شخص يمكنه تحديد مكان الذهب بأكبر دقة ممكنة في منجم الشركة بمنطقة "ريد ليك".
تم وضع 400 ميجابايت من البيانات الجيولوجية للشركة على موقعها على الإنترنت مع التنويه على الجائزة. وكانت الاستجابة فورية ومثيرة للإعجاب.
قام أكثر من 1400 شخص ما بين مهندسين وجيولوجيين ورياضياتيين واستشاريين وعلماء وضباط عسكريين بتنزيل البيانات قبل أن ينهمكوا في عملية البحث عن الذهب، هؤلاء جميعاً طبقوا الرياضيات والفيزياء المتقدمة والأنظمة الذكية ورسومات الكمبيوتر وغيرها من الأساليب والطرق التي لم تعهدها صناعة التعدين من قبل.
ذهلت لجنة التحكيم المكونة من 5 من كبار الجيولوجيين بالشركة من براعة التحليلات المقدمة من قبل الفرق المشاركة التي بلغ عددها نحو 125 فريقاً، ولكن بعد مرور عام انتهى الأمر وفاز بالمركز الأول فريق متعاون يتكون من مجموعتين من أستراليا هما "فراكتال جرافيكس" و"تايلور وول آند أسوشيتس".
قدم الفريق الفائز نموذجاً ثلاثي الأبعاد يوضح بدقة مكان الذهب في المنجم، يقول "ماكين" إنه عندما رأى هذا النموذج المصمم باستخدام رسومات الكمبيوتر كاد يسقط من على كرسيه من شدة الفرح.
تمكن المتسابقون جميعاً من تحديد 110 مواقع بالمنجم يتواجد بها الذهب منها 50% لم تكن الشركة على دراية بها من قبل، وتم العثور لاحقاً على أكثر من 80% من الذهب الموجود في الأماكن التي تم تحديدها.
بعد أن كان منجم الشركة في "ريد ليك" لا ينتج سوى 53 ألف أوقية سنوياً في عام 1996 بتكلفة تقدر بنحو 360 دولاراً للأوقية، تضاعف الإنتاج السنوي للمنجم 10 مرات بحلول عام 2001 ليصل إلى نحو 504 آلاف أوقية بتكلفة لا تتعدى 59 دولاراً للأوقية.
حصل المتسابقون الفائزون على الـ575 ألف دولار في حين وضعت الشركة يدها على ذهب تقدر قيمته بنحو 6 مليارات دولار في السوق الحرة، وفي نفس الوقت وفرت على نفسها عامين أو ثلاثة كان من الممكن أن تستغرقها في الحفر والاستكشاف إذا لم تستعن بهؤلاء.
المصادر: أرقام – فاست كومباني – كتاب " Strategic Innovation" – كتاب " Wikinomics" – مجلة " Harvard Business School"
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}