على عكس الجرائم الجنائية المعروفة كالسطو المسلح مثلًا، لا تستطيع أن تضبط مرتكبي جرائم الاحتيال المالي على المساهمين في سوق الأسهم وهم يلوحون بالبنادق أو يحملون حقائب الأموال على ظهورهم، ورغم ذلك نجد أن عمليات الاحتيال هذه أسوأ بكثير وأشد تدميرًا لثروة الناس من عمليات السطو الشائعة.
وربما أكثر ما يثير الغيظ تجاه هذا النوع من الاحتيال هو أن مرتكبيه عادة ما يكونون من ميسوري الحال الذين لديهم كل ميزة اجتماعية يمكن تصورها، ولكنهم رغم ذلك يتورطون في سرقة أموال المساهمين التي ربما لم يجمعوها إلا بشق الأنفس، لتتهاوى الشركة إلى الحضيض حين يكتشف الأمر، ويبدأ حينها الضحايا في البحث عن حقوقهم المسلوبة ويتوهون في شباك الإجراءات البيروقراطية التي قد تستمر لسنوات.
هذا بالضبط ما فعله مديرو شركة الألبان الإيطالية "بارمالات" وعدد كبير من موظفيها؛ فهؤلاء بدلاً من أن يقوموا بمعالجة المشاكل التي أدت إلى تراجع الـداء المالي للشركة في فترة من الفترات، فضّلوا إخفاءها من خلال الاحتيال والتواطؤ ضد المساهمين الذين فقدوا كل شيء في نهاية المطاف بعد أن ضاعت الشركة التي كانت تعد أكبر شركة ألبان في العالم.
ما الذي حدث؟ وكيف تمكّن هؤلاء من فعل ذلك؟ ولماذا فعلوا ذلك أصلاً؟ وهل كان بإمكان المستثمر المحترف الشك في أمر الشركة ومديريها قبل الكشف عن الفضيحة؟ عن هذه الأسئلة وغيرها سيحاول هذا التقرير الإجابة.
كيف بدأ كل شيء؟
في العام 1961 قامت عائلة تسكن في شمال إيطاليا بتأسيس مزرعة أطلقت عليها اسم "بارمالات"، وفي السنوات التالية توسعت المزرعة لتصبح واحدة من أكبر شركات الألبان والأغذية في إيطاليا، قبل أن تتحول في نهاية المطاف إلى تكتل متعدد الجنسيات يضم 214 شركة تابعة تعمل في 48 دولة حول العالم.
بدأت قصة "بارمالات" مع الاحتيال في عام 1991، وتحديدًا حين بدأ الأداء المالي للشركة في التراجع، ولكن بدلاً من حل المشاكل التي أدت إلى ذلك التراجع، فضّل مديروها علاج الأمر من خلال إطلاق مخطط احتيالي استمر لمدة 13 عامًا ولم يكتشف إلا قبل انهيار الشركة بفترة بسيطة.
لأكثر من 11 عامًا مرّت الأمور بسلام على مديري الشركة ولم يكتشف أحد أمرهم، ولكن بداية من منتصف عام 2002 بدأت المشاكل. في الفترة ما بين شهري يوليو وديسمبر من عام 2002، ارتفعت الفائدة على الديون المصدرة من قبل الشركة بما يصل إلى 300 نقطة أساس.
هذا التدهور الائتماني السريع دفع محللين من بنك "ميريل لينش" للنظر في الملاءة المالية للشركة ومدى قدرتها على إصدار الديون في الأسواق العامة، وفي ديسمبر من عام 2002 أصدرا تقريرًا تحت عنوان "القشة التي قصمت ظهر البعير" عدلا فيه التوصية بخصوص سهم الشركة إلى "بيع"، مشيرين إلى اعتمادها المستمر على التمويل بالديون رغم أن الميزانية تشير إلى امتلاكها لكميات هائلة من الكاش.
أكد المحللان عدم منطقية اكتناز الشركة لأموالها الرخيصة وعدم اقترابها منها، وذهابها بدلًا من ذلك إلى الاستدانة من السوق بمعدلات فائدة مرتفعة، وهو ما يضر بالميزانية وبالتبعية أموال المساهمين، هذه الملاحظة لا تحتاج إلى مستثمر خارق أو عبقري لكي يستدل منها على وجود شيء ما خاطئ بهذه الشركة.
الكاش .. ممنوع اللمس أو التصوير
وفقًا للبيانات المالية الواردة بالميزانية العمومية، كانت قيمة الحيازات النقدية للشركة وأصولها قصيرة الأجل في ذلك الوقت تقترب من 4 مليارات يورو، ورغم ذلك أصر مديرو "بارمالات" على عدم الاقتراب منها أو استخدامها بأي شكل لسبب غير معلوم. وتأكيدًا لهذا النهج، أعلن المدير التنفيذي للعمليات "فاستو تونا" في يناير 2003 عن عزم الشركة إصدار سندات بقيمة 300 مليون يورو.
بعد أن زادت هذه الخطوة من شكوك الجميع، قام المدير التنفيذي للشركة بطرد "تونا" بزعم أنه اتخذ هذه الخطوة دون الرجوع إليه، واستبدله بـ"ألبيرتو فيراريس" الذي أعلن على الفور تراجع الشركة عن ذلك القرار، وعلى إثر هذا التخبط هبط سهم الشركة سريعًا بأكثر من 30%.
وبعد عدة شهور، وتحديدًا في 11 نوفمبر 2003 رفضت شركة المراجعة "ديلويت" التوقيع على البيانات النصف سنوية لـ"بارمالات" بعد أن أشارت إلى عدم قدرتها على التأكد من حقيقة مكاسب بقيمة 135 مليون يورو، تقول الشركة الإيطالية إنها ربحتها من خلال عقود مشتقات مملوكة لإحدى شركاتها التابعة.
ولم يمهلهم القدر كثيرًا قبل أن تأتي الضربة القاصمة؛ ففي الثامن من ديسمبر 2003 وعلى الرغم من أن بياناتها تشير لامتلاكها 4 مليارات يورو من الكاش تخلفت "بارمالات" عن سداد ديون بقيمة 150 مليون يورو، وفي اليوم التالي، تم تخفيض التصنيف الائتماني لسندات الشركة إلى فئة "الخردة"، لينخفض سعر السهم المتهاوي أصلًا 40% إضافية.
اختفاء 4 مليارات يورو في ظروف غامضة!
في هذه الأثناء تدخلت الجهات التنظيمية في إيطاليا وطلبت من "بارمالات" كشف الحساب البنكي الخاص بذراعها الاستثمارية في جزر الكايمان، شركة "بونلات" والتي من المفترض أنها هي من تضع يدها على الكاش، وبالفعل بعثت الشركة الإيطالية للمنظمين بالأوراق التي تثبت حيازة شركتها الفرعية "بونلات" لـ3.95 مليار يورو من النقدية، موقعة من البنك الذي تستقر فيه هذه الأموال، وهو "بنك أوف أمريكا".
ولكن حدثت لاحقًا صدفة عجيبة. خرج مسؤولو "بنك أوف أمريكا" في 19 ديسمبر 2003 ليصرحوا بأن "بولانت" لا يوجد لديها أصلًا حساب لدى البنك! واتضح أن مسؤولي "بارمالات" قاموا بتزوير كشوف الحسابات الخاصة بالبنك التي أرسلوها إلى الجهات التنظيمية، وزوّروا كذلك توقيع أحد كبار الموظفين في بنك أوف أمريكا، إلى هذا الحد وصلت جرأة وحماقة أو بالأحرى يأس مديري "بارمالات" الذين وجدوا أنفسهم فجأة محاصرين من كل جانب.
من أين جاءت الأرقام الموجودة في الميزانية إذن؟ اتبعت الشركة تكتيكات ملتوية كثيرة لتضخيم الأرباح، من بينها على سبيل المثال أسلوب "الفوترة المزدوجة"، وفقًا لهذا الأسلوب والذي ابتكره المديرون التنفيذيون للشركة، كان المحاسبون يقومون بإعادة تسجيل بعض الفواتير أكثر من مرة مما خلق مبيعات وهمية.
أدت الفواتير المكررة إلى زيادة غير حقيقية في قيمة بندي النقدية والحسابات المستحقة في الميزانية العمومية للشركة، وإمعانًا منهم في الاحتيال، أخذ مديرو "بارمالات" الحسابات المستحقة المزيفة وذهبوا بها إلى البنوك لكي يقترضوا بضمانها، وفي الفترة ما بين عامي 1998 و2003 اقترضت الشركة ما لا يقل عن 7 مليارات دولار.
توصيات المحللين .. شراء .. شراء .. شراء
تشير بيانات الشركة إلى أنها حققت أرباحًا إيجابية ومتنامية في كل عام من الأعوام الممتدة بين 1990 و2002. ولكن كشفت التحقيقات لاحقًا أنها حققت خسائر في 12 عامًا من هذه الأعوام الثلاثة عشر، وأن عملية الاحتيال بدأت من عام 1990 كمحاولة للتغطية على خسائر شركة تابعة في أمريكا الجنوبية.
المدهش في هذه القصة ليس "بارمالات" أو مديريها المحتالين وإنما تقارير المحللين وبيوت الخبرة التي اتضح أن قيمتها أقل من قيمة الورق الذي كتبت عليه. فمن بين 29 تقريرًا بحثيًا صدر عن "بارمالات" في عام 2002 أوصى 21 تقريرًا بشراء السهم، فيما رجح 7 الاحتفاظ به. تقرير واحد فقط هو من كانت توصيته بالبيع.
للوهلة الأولى يشعرك هذا الإجماع من جانب المحللين على جودة السهم بأنه أحد أفضل الأسهم التي قد تضع فيها أموالك، وهو ما فعله بعض الناس قبل أن يكتشفوا لاحقًا أن الشركة غارقة لأذنيها في الاحتيال منذ أكثر من عقد من الزمان.
وبالمناسبة، كان ممكناً استمرار احتيال "بارمالات" مخفيًا عن الأنظار لعشرين عامًا وربما ثلاثين بدلًا من 13 لو كان بإمكانها الاستمرار في العمل مع شركة المراجعة "جرانت ثورنتون الدولية" والتي تواطأت معها في إخفاء الكثير. ولكنها لم تستطع فعل ذلك بسبب القانون الإيطالي الذي يجبر الشركات المدرجة بالبورصة على تغيير شركات المراجعة كل 9 سنوات، لتحل "ديلويت" محل "جرانت ثورنتون" بداية من عام 1999 وتبدأ مشاكل "بارمالات".
في نفس اليوم خرج فيه "بنك أوف أمريكا" ببيانه الصادم، أعلنت "بارمالات" اختفاء 3.95 مليار يورو في ظروف غامضة، وعلى الفور سارع الموظفون لتدمير أجهزة الكمبيوتر بالشركة وتمزيق وحرق المستندات المتعلقة بمعاملات خارج الميزانية العمومية، وبالطبع، انهار سعر السهم إلى الصفر تقريبًا، كما يوضح الرسم البياني التالي الذي لم يكن بالتأكيد مناسبًا أبدًا لضعاف القلب من مساهمي الشركة المنكوبة.
في السابع والعشرين من ديسمبر 2003 تم إعلان تعسر "بارمالات" رسميًا، ووجهت تهم النصب والاحتيال إلى الرئيس التنفيذي للشركة "كاليستو تانزي" الذي تمت مصادرة ثروته البالغة 1.3 مليار دولار وصدر ضده عدة أحكام بالسجن.
المصادر: أرقام – نيويورك تايمز – إيكونكريسس – بلومبرج
كتاب: Financial Shenanigans: How to Detect Accounting Gimmicks & Fraud in Financial Reports
كتاب: The High Engagement Work Culture: Balancing Me and We
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}