في عام 1926 كتب المستثمر الأمريكي الشهير "بنيامين جراهام" رسالة إلى شركة خطوط الأنابيب "نورثن بيب لاين" – التي كان يمتلك فيها حصة صغيرة – يطلب فيها من مجلس الإدارة أن يقوم بتسييل حيازات الشركة من الأوراق المالية وتوزيعها كأرباح على المساهمين، موضحًا أنه لا جدوى من اكتناز هذا الكم الكبير من الأوراق المالية.
المديرون التنفيذيون للشركة الذين لم تسعدهم رسالة "جراهام" ردوا عليه قائلين: "إن تشغيل وإدارة خطوط الأنابيب هو عمل معقد ومتخصص للغاية، وأنت لا تعرف عنه سوى القليل، ولكننا في المقابل نعمل به منذ عقود".. بعبارة أخرى، نحن أدرى منك بما تحتاج إليه الشركة وما لا تحتاجه.
لكن "جراهام" لم يتراجع؛ فعلى مدار عام التقى مع أكبر عدد ممكن من مساهمي الشركة لإقناعهم بالانضمام إليه، بما في ذلك مؤسسة روكفلر التي كتب إليها قائلًا: "إن تحديد ما إذا كانت الشركة من الأفضل أن تحتفظ أو لا برأس المال الزائد عن احتياجها هو أمر يحدده في المقام الأول أصحاب رأس المال وليس أولئك الذين يديرونه".
في النهاية وبفضل استجابة عدد كبير من المساهمين لحملته رضخت إدارة الشركة لطلب "جراهام" وقامت بتوزيع رأس المال الزائد عن احتياجاتها على المستثمرين في صورة توزيعات أرباح، وهذه تقريبًا كانت المرة الأولى التي تشهد فيها وول ستريت مستثمرًا مهتمًا بطريقة إدارة الشركة لرأس مالها ويتدخل فيها بشكل مباشر.
بداية الاهتمام بالأساسيات
كان نهج "جراهام" الذي يركز على القيمة لا يزال غريبًا على سوق الأسهم والذي كان ينظر إليه باعتباره مجرد ساحة يضارب فيها الأثرياء؛ ففي ذلك الوقت كانت فكرة شراء سهم شركة بناءً على إمكانات أرباحها المستقبلية أو قيمة أصولها أو قوة ميزانيتها العمومية لم تكن معروفة، كان الجميع مضاربين يراهنون على أسهم الشركات التي يأملون أن يرتفع سعرها بمجرد أن تكتشف حقل نفط جديدًا أو منجم ذهب ولا أحد يكترث بجودة الأساسيات.
عندما تدخل إلى السوق وتشتري سهم أي شركة فأنت في واقع الأمر تشتري حصة في نشاط تجاري حقيقي له منتجات أو خدمات يبيعها للناس، وهو ما يمنحك الحق في مشاركة الشركة في أرباحها المستقبلية، وبناء على هذا تحقق الشركات الجيدة أرباحًا لمساهميها وتعظم من رؤوس أموالهم في حين تخسف الشركات السيئة بثروة المساهمين.
ومن هنا تبرز أهمية التحليل الأساسي والذي يعطي المستثمر فكرة عن جودة الموقف المالي والتجاري للشركة والذي تستمد قيمتها من مدى جودته. أشياء مثل الميزانية العمومية وقائمة الدخل وقائمة التدفقات النقدية سيعطيك التحليل الشامل لها فكرة عما إذا كان السهم جديرًا بالاقتناء أم لا.
بدون فهم البيانات المالية للشركة والأرقام الواردة بها لا يمكنك فهم أعمال الشركة ولا تحديد مدى جاذبيتها كاستثمار مهما ادعيت من معرفة بها وبأحوالها. لا يوجد عاقل يذهب ليشتري بيتاً دون أن يتأكد مما إذا كان مرهونًا للبنك كضمان لقرض أو متنازعاً على ملكيته أو من جودة أساساته، وبالمثل لا يستثمر عاقل في شركة لا يدري شيئًا عن موقفها المالي.
الأركان الثلاثة
إن الأركان الأساسية الثلاثة التي يقوم عليها أي استثمار ناجح بحسب "جراهام" هي: التحليل الشامل ثم سلامة رأس المال وأخيرًا العائد المرضي، عند التفكير في أي استثمار يجب أن تؤخذ الأركان الثلاثة السابقة بعين الاعتبار، وبالمناسبة، إن ترتيب هذه العوامل لتكون على النحو السابق مقصود.
فمن المنطقي جدًا أن تكون خطوتك الأولى قبل الإقدام على شراء أي سهم هي إجراء تحليل دقيق وعميق لأساسيات الشركة، ثم قبل أن تفكر في مقدار الأموال التي ستجنيها أو العائد المتوقع يجب عليك أولًا أن تنظر في مدى احتمال خسارتك لجزء كبير من رأسمالك.
فإحدى الركائز الأساسية التي يقوم عليها استثمار القيمة هي أن الحفاظ على رأس المال مقدم على تعظيمه، والمقصود هنا هو محاولة قياس المخاطرة وعدم التعرض لقدر كبير منها قد لا تقدر كمستثمر على احتماله، فكما تقول القاعدة الشرعية المشهورة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح".
هذا يدركه جيدًا كبار المستثمرين وفي مقدمتهم المستثمر الأمريكي الشهير "وارن بافيت" والذي قال في خطاب أرسله إلى مستثمري شركته في عام 1961: "أنا أرى أن أداءنا في السنة التي نخسر فيها 15% من قيمة استثماراتنا في نفس الوقت الذي يتراجع فيه المؤشر (داو جونز) بنسبة 30% أفضل من السنة التي نربح فيها نحن والمؤشر 20%".
هامش الأمان
الحديث عن أهمية الحفاظ على قيمة رأس المال يقود إلى ما يسمى بهامش الأمان؛ وجود هامش أمان لاستثمارك يعني أنك لا تشتري السهم إلا عندما يكون سعره أقل من قيمته العادلة المحسوبة بفارق معتبر، هذا الفارق سيحميك بشكل ما من الخسارة لو كانت افتراضاتك حول مستقبل السهم غير دقيقة.
ليس هناك نسبة محددة لهامش الأمان، فالأمر يعتمد في النهاية على تفضيلات كل مستثمر، هناك من يكفيه هامش أمان قدره 15%، وفي نفس الوقت هناك مَن لن يشتري أي سهم إلا إذا أشارت حساباته إلى أن قيمته العادلة أعلى من سعره بنسبة 40%، فكلما زاد الهامش زادت مساحة الأمان التي يوفرها المستثمر لنفسه.
وبالمناسبة، لا يتعلق هامش الأمان بحماية رأس المال فقط بل يتعلق أيضًا بتحسين العائد المتوقع عليه. فالمستثمر الذي يشتري سهمًا متداولًا بأقل من قيمته العادلة هو في الواقع يشتريه على أمل أن يرتد سعر السهم إلى الأعلى في المستقبل القريب ليتساوى مع قيمته العادلة، وحينها سيحقق ربحًا مساويًا لهامش الأمان الذي منحه لنفسه.
وأخيرًا، لا تذهب وتشتري سهمًا سعره 50 ريالًا لمجرد أن قيمته العادلة أعلى من ذلك بخمسة ريالات مثلًا، بل اترك لنفسك هامشًا أوسع يحميك من خطأ حساباتك، فتحديد القيمة العادلة للسهم هو أمر نسبي في النهاية.
هذا بالضبط ما قصده "وارن بافيت" حين قال: "عندما تبني جسرًا فأنت تبنيه لكي يتحمل 30 ألف رطل على الرغم من أنك لن تقود عليه سوى الشاحنات التي تبلغ حمولتها 10 آلاف رطل فقط، نفس الفكرة تنطبق على الاستثمار".
المصادر: أرقام
كتاب: The Business of Value Investing
كتاب: Fundamental Analysis For Dummies
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}