في السادس والعشرين من أبريل من عام 1986، أجرى المشغلون للمفاعل النووي الروسي في تشيرنوبل اختبارًا للأمان لرصد الفترة الزمنية التي يمكن أن يستمر فيها العمل حال فقدان الطاقة الكهربية الطارئة.
ومع ضغط الوقت الذي كان لابد فيه من عمل التجربة والشعور بالأمان والثقة للعاملين في المفاعل بشأن الاختبار ونتائجه المتوقعة، وقعت الكارثة في المفاعل الرابع في المحطة النووية وحدث الانفجار الذي أودى بحياة العشرات وأصاب الآلاف بأمراض خطيرة وجعل الحياة مستحيلة في المناطق المحيطة لمدة 200 عام مقبلة.
لقد تسببت الثقة الزائدة مرة أخرى في كارثة إنسانية وبيئية لن تُنسى في التاريخ.
التحيز الأكثر خطورة
يقول "دافيد بروكس" في كتابه الحيوان الاجتماعي: "العقل الإنساني عبارة عن آلة للثقة الزائدة".
وتحيز الثقة الزائدة والتفاؤل المفرط هو تصور زائف وخادع للقدرات الشخصية والذكاء وحسن الحكم على الأمور، إنه اعتقاد داخلي يُشعر الكثيرين بأنهم أفضل مما هم عليه في الواقع، وأنهم قادرون على التحكم في الأمور والسيطرة عليها لصالحهم.
وتعتبر الثقة الزائدة ووهم السيطرة من أبرز التحيزات المعرفية الإنسانية وأكثرها خطورة؛ لأنها تقدم الأساس والدعم لظهور التحيزات الأخرى.
ومشكلة الثقة الزائدة هي أنها تجعلنا أكثر عُرضة لارتكاب الأخطاء وأقل اهتمامًا بالحذر الواجب اتخاذه، فكيف تأتي الحيطة من شخص واثق جدًا في قراره ويرى أنه أذكى وأفضل وأكثر معرفة وخبرة من الآخرين؟.
بالطبع يمكن ربط تحيز الثقة الزائدة ووهم السيطرة على الأمور بالكثير من الحوادث الكارثية عبر التاريخ بداية من غرق سفينة تيتانك التي كان يُنظر إليها على أنه من المستحيل أن تغرق وبالتالي لم يتم وضع هذا الاحتمال في الحسبان أو فقدان مكوك الفضاء "كولومبيا" أو حتى أزمة الرهن العقاري في عام 2008 والتي أدخلت العالم بأسره في ركود حاد.
وحتى على الجانب الحياتي اليومي، تبرز أزمة الثقة الزائدة والتفاؤل المفرط في الكثير من الآراء والتقديرات وبالتبعية القرارت للكثير من الناس.
فمثلاً، أظهرت دراسة أن 93% من السائقين الأمريكيين يدعون أنهم أفضل من المتوسط، وهو ما يعتبر بالطبع مستحيلاً من الناحية الإحصائية.
بينما يروي الأستاذ في جامعة شيكاغو "ريتشارد ثالير" أنه في أول يوم دراسي توقع كل الطلبة في مادته الدراسية أن يحصلوا على معدل أعلى من المتوسط.
إذن تحيز الثقة الزائدة ووهم السيطرة والتفوق والأفضلية ترتبط بكل نواحي الحياة وتؤثر على قراراتنا الحياتية والمهنية عبر أشكال مختلفة.
ويصف "دانيال كانيمان" في كتابه "التفكير السريع والبطيء" الثقة الزائدة بأنها أكثر التحيزات المعرفية خطورة.
وهم السيطرة في الأسواق والأعمال
"هل تعتبر نفسك أفضل من المتوسط الطبيعي في المهنة؟".. كان هذا أحد الأسئلة التي شملها استطلاع للرأي أجراه "جيمس مونتير" بين 300 من مديري صناديق الاستثمار المحترفين.
وكما يمكنك أن تتوقع، أجاب 74% من المدراء بالإيجاب معتبرين أنهم أفضل من المتوسط في الاستثمار، بينما معظم النسبة الباقية والبالغة 26% اعتبروا أنهم أقرب إلى المتوسط، بينما لم يعتقد أي شخص تقريباً أنه أقل من المتوسط.
وعلى صعيد الأعمال، أظهر مسح شارك فيه 300 من أصحاب الشركات الجديدة أن 81% منهم يعتقدون أن أعمالهم لديها فرصة تتجاوز 70% للنجاح، بينما ذكر 33% أنهم سينجحون بلا شك.
في حين أن الواقع يظهر أن 75% من الشركات الجديدة ينتهي بها الحال للفشل والإغلاق تماماً قبل مرور خمس سنوات على الأكثر.
وفي الأسواق المالية، يميل المستثمرون للاعتقاد بأنهم أكثر قدرة على الاستثمار ولديهم فرص أفضل لتحقيق ثروة أكثر من غيرهم.
ومع وهم السيطرة والتفاؤل المفرط، يعتقد المستثمرون غالباً أنهم سيحصلون على عائد محقق على الأصول يتجاوز المتوسط، بينما يميليون للتقليل من تقديرات عدم اليقين المرتبط بهذا العائد المتوقع.
وأظهر مسح شارك فيه 15 ألف مستثمر أن الرجال قدروا العائد على الاستثمار الخاص بهم بنحو 3% أعلى من متوسط السوق، بينما جاءت النسبة للنساء أقل قليلاً عند 2%.
وتربط الأبحاث العلمية شعور الثقة الزائدة لدى المستثمرين بظهور فقاعات السوق وتزايد التقلبات من خلال عملية منطقية تتابعية من زيادة عمليات التداول والإقبال على المخاطرة وصعود عمليات الرافعة المالية والإنفاق المبالغ فيه للأفراد والرؤساء التنفيذيين للشركات.
والأمر ببساطة يتمثل في استثمار أوّلي يحقق عوائد جيدة للشخص، فيبدأ في اكتساب ثقة زائدة تتحول لتفاؤل مفرط وتركيز على الجانب الإيجابي للاستثمار فقط، ما يجعله يقبل على استثمارات أكثر خطورة بدون الاهتمام بالجوانب السلبية المحتملة.
وفي ربيع عام 2008، أكدت دراسة أن المحللين قبل أزمة الرهن العقاري وقعوا فريسة للثقة الزائدة والتفاؤل الحاد في توقعاتهم بالنسبة لنصيب السهم من الأرباح للشركات المقيدة في مؤشر "ستاندرد آند بورز 500" للأسهم الأمريكية.
قليل من الحذر واجب
بالطبع هذه ليست دعوة للخوف وعدم الثقة في النفس والتقليل من قيمة الحدس والمهارات الشخصية، لكنها تذكير بخطورة الثقة الزائدة وتبعات عدم وضع الواقع والاحتمالات السلبية في الاعتبار في عملية اتخاذ القرار.
فمن الضروري التوصل لحل وسط بين الكثير من الثقة وعدم وجود ما يكفي منها، وهذا الوسط يكمن في نقطة الالتقاء بين التوقعات العقلانية والواقع الفعلي أو التقديرات التي يمكنك تبريرها بدلائل حقيقية.
ويقول "راي داليو" مؤسس أكبر صندوق تحوط في العالم "بريدج ووترد أسوشيتس" إن الثقة الزائدة قد تقود لنتائج كارثية.
ويوضح أن جزءًا كبيرًا من نجاحه يرجع إلى تجنب الوقوع فريسة لتحيز الثقة الزائدة مع الاعتراف دومًا باحتمالية عدم صحة تقييمه للأمر وبالتالي النظر في أسوأ السيناريوهات المحتملة واتخاذ الخطوات المناسبة لتقليل خطر الخسارة.
وبالتالي، من المهم أن تتخذ مزيدًا من الخطوط الدفاعية تحسبًا لفشل توقعاتك الاستثمارية أو ظهور عوامل مفاجئة تغير المشهد وتضيف عوائق غير متوقعة.
كما يجب اختبار مدى صحة هذه التوقعات بدليل من الحقائق الحالية والتجارب التاريخية وعدم الاكتفاء بالتقديرات المبنية على مشاعر وتفضيلات غير عقلانية أو لم تخضع للتجربة مسبقاً.
وفي عملية صنع القرار، يجب السماح بسماع وجهات النظر الأخرى وخاصة تلك التي تحمل انتقادات أو رؤى مخالفة لأنها قد تقدم قطعة ناقصة في المشهد الكلي للوضع.
وإذا ثبت عدم صحة وجهة نظرك بشأن قرار أو استثمار ما، فإنه من المهم الاعتراف سريعًا بالخطأ وتصحيح الأمر بدلاً من الاستمرار في نفس الاتجاه.
وفي النهاية، إذا كانت عدم الثقة والتشاؤم أمورًا غير مستحبة في التفكير الإنساني، فإن الثقة الزائدة والتفاؤل المفرط يمثلان النقيض الذي قد يؤدي إلى تبعات غير مرغوبة.
المصادر: ناشيونال جيوغرافيك - سي إف إي – جامعة كاليفورنيا بيركلي – يو إس نيوز
دراسة Overconfidence in Financial Markets and Consumption over the Life Cycle
دراسة The psychological impact and overconfidence in financial markets
دراسة The Effect of Overconfidence on Stock Market Bubbles, Velocity and Volatility
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}