"حاصر حصارك لا مفر. اضرب عدوك لا مفر. سقطت ذراعك فالتقطها، وسقطتُ قربك فالتقطني، واضرب عدوك بي فأنت الآن حرٌ وحرٌ وحرٌ".. بهذه الكلمات التي تبدو في ظاهرها شديدة البساطة اختصر الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" ما يمكن أن يكتب في مجلدات عن سلاح فتّاك اسمه الإرادة وصلابة العزيمة.
الإرادة هي سر النجاح في كل مجالات الحياة، ولكن للأسف في سوق الأسهم دائمًا ما يشار إلى الذكاء باعتباره العامل الأهم والحاسم في نجاح أي مستثمر، غير أن ذلك يعد إلى حد كبير تصورًا غير دقيق؛ حيث إنه بمجرد امتلاك الواحد منا لمعدل ذكاء متوسط أو فوق المتوسط تتساوى الرؤوس من هذا الجانب، ولا يميز مستثمر عن آخر بعد ذلك سوى مجموعة من السمات النفسية والعقلية.
إلى جانب الذكاء الذي لا يفتقر إلى درجة معقولة من درجاته أغلب المشاركين في سوق الأسهم هناك عناصر ضرورية أخرى تحتاج إليها كمستثمر لكي يزيد تطورك ويكتمل نضجك، وأهم تلك العناصر هو سلوكك العقلي أو الطريقة التي تفكر بها حيال الأمور، هذه هي التربة التي ستنمو وتنضج فيها كل العناصر التي ستساعدك أن تُنمّي حس الصياد بداخلك.
الخيول التي تعدو في مضمار السباق لا تفوز بتلك السباقات دون تدريب، وكذلك هو الحال مع المستثمرين في سوق الأسهم؛ فهم بحاجة دائمًا إلى ممارسة تلك القفزات مرارًا وتكرارًا حتى تصبح تلقائية وغريزية.
هل يمكن أن نصبح أكثر ذكاءً؟
في علم الأعصاب يوجد هناك مصطلح يسمى "اللدونة العصبية" أو مطاوعة الدماغ (Neuroplasticity) وهو يصف مرونة الدماغ وقابليته للتغيير كنتيجة للتجربة، حتى ستينيات القرن الماضي اعتقد العلماء أن التغيرات العصبية للدماغ لا تحدث إلا في مرحلتي الرضاعة والطفولة، ثم ما تلبث أن تصبح البنية الفيزيائية للدماغ ثابتة مع تقدم العمر.
ولكن في النصف الثاني من القرن العشرين ثبت أن هذا الاعتقاد غير دقيق بعد أن بدأ الباحثون يلاحظون تمكّن عدد من كبار السن الذين عانوا من سكتات دماغية شديدة من استعادة وظائفهم الدماغية بعد أن نجحت أدمغتهم في إعادة تنظيم نفسها من إنتاج وصلات عصبية جديدة تتكيف مع الأوضاع القائمة.
هذا الاعتقاد عضدته تجربة أجراها عالم الأعصاب الهندي "مريجانكا سور" وزملاؤه في معهد ماساتشوستس للتقنية في عام 2000 أوضحت القدرة المذهلة للدماغ على إعادة تنظيم نفسه، في إطار هذه التجربة قام الباحثون بإعادة توصيل الوارد العصبي البصري من شبكة العين إلى القشرة السمعية في حيوانات ابن مقرض حديثة الولادة، ليلاحظوا أن القشرة السمعية استطاعت على نحو مذهل معالجة الوارد البصري، أي أن حيوان ابن مقرض استطاع الرؤية بقشرته السمعية.
هذه التجربة إلى جانب تجارب وأبحاث أخرى حديثة أثبتت أن الدماغ يواصل إنشاء مسارات عصبية جديدة من أجل التكيف مع التجارب والمعلومات والذكريات الجديدة، كما أوضحت أن البشر بإمكانهم اكتساب قدرات عقلية أكبر من تلك التي ولدوا بها من خلال تكوين ارتباطات عصبية جديدة بشرط الممارسة والتكرار لنشاط ما.
ما يهم المستثمرين في هذا الإطار هو أن خاصية اللدونة العصبية التي تتمتع بها أدمغتهم بإمكانها مساعدتهم على تطوير قدراتهم العقلية باستمرار ولكنهم يحتاجون أولًا إلى إدراك طبيعة الأخطاء التي يقعون فيها قبل تصحيح المنطق الخاطئ وراءها، ومن ثم نبذل جهدًا مدروسًا وممارسة مركزة للمهارات التي يرغبون في اكتسابها.
ورغم منطقية ما سبق إلا أن الأكثرية تجد صعوبة في فعل ذلك. ولكن لماذا؟
الفيل المسكين .. لا تكن مثله
في حديقة الحيوان يتم ربط إحدى أرجل الفيل الصغير بسلسلة من الحديد لا يمكنه أبدًا التحرر منها، في البداية يحاول الفيل المسكين سحب رجله بقوة كي يتملص منها ويحصل على حريته ولكنه يفشل وينهزم مرارًا وتكرارًا أمام صلابة الحديد.
وبعد فترة يتوقف الفيل عن محاولة قطع السلسلة ويستسلم تمامًا لأنه يعلم أنه لا فائدة من المحاولة، وفي تلك اللحظة يمكن للمدرب ربطه بحبل ضعيف دون أن يخشى هروب الفيل الذي لن يبرح مكانه ولن يحاول حتى قطع الحبل لأنه يعلم من خبرته السابقة أنه لا جدوى من ذلك، ببساطة، لقد تعلم الفيل العجز.
ما حدث للفيل تفسّره نظرية قدمها في العام 1967 عالما النفس الأمريكيان "مارتن سيليجمان" و"ستيفين ماير" تسمى نظرية "العجز المكتسب"، والعجز المكتسب هو إحجام الفرد عن الفعل نتيجة عدم شعوره مسبقًا بالقدرة على التحكم في الفعل الذي سيقوم به.
في سوق الأسهم هناك كثيرون يعلّمون أنفسهم العجز بنفس الطريقة، هؤلاء تجدهم مع كل خسارة جالسين إلى جانب الحائط يندبون حظهم، ثم ما يلبثون أن يقنعوا أنفسهم بأنهم فاشلون في الاستثمار وأنه لا أمل في تطورهم. فبدلًا من محاولة اكتشاف ما وقعوا فيه من أخطاء، يعلّم هؤلاء أنفسهم العجز ويبالغون في الشعور بالهزيمة.
كيف يتجنب المستثمر الوقوع في هذا الفخ؟ الحل يكمن في الكيفية التي نفسر بها الأحداث السلبية، بشكل عام هناك أسلوبان في تفسير الحدث السلبي؛ الأول هو الأسلوب التفسيري المتشائم والذي يميل صاحبه إلى النظر إلى الأحداث السلبية باعتبارها خطأه بالمقام الأول ولذلك يلوم نفسه أشد اللوم عليها، كما يراها دائمة بمعنى أنه لا أمل في تغيرها، وفي نفس الوقت يرى أنه لا يمكنه فعل أي شيء حيالها.
على سبيل المثال، هناك مستثمرون يعتبرون أنفسهم مسؤولين عن الخسائر التي تكبدوها في سوق الأسهم على إثر أزمة فيروس كورونا الحالية، كما يعتقدون أنه لا أمل في أن يتغير الوضع أو أن يعود السوق إلى سابق عهده، نظرة هؤلاء التشاؤمية عادة ما تكون حاجزًا أمام تعلمهم من أخطائهم، وفي نفس الوقت تجعلهم أكثر عرضة للعجز المكتسب والاكتئاب.
أما الثاني فهو الأسلوب التفسيري المتفائل، وصاحب هذا الأسلوب هو ذلك الشخص الذي لا يعتقد بالضرورة أنه هو المسؤول عن الأحداث السلبية، بل على العكس يميل إلى إلقاء اللوم على قوى خارجية، كما يعتقد أن هذه الأحداث سوف تنتهي بسرعة، وفي نفس الوقت يضع تلك الأحداث في حيزها الطبيعي ولا يسمح لها بأن تؤثر على جوانب حياته المختلفة.
المستثمر الذي يتبنى هذا الأسلوب المتفائل في التفسير يرى أن الطابع المفاجئ والمباغت لأزمة كورونا هو السبب فيما تكبده من خسائر، وأن السوق كان مختلفًا هذه المرة وأنه ربما فشل في قراءته، ومن غير المرجح أن يقع في هذا المأزق مرة أخرى لأنه سينتبه في المرة القادمة.
هذا المستثمر لا ينكر بالكلية ارتكابه أي أخطاء، ولكن الفكرة هي أن أخطاءه الشخصية يضعها في حيزها المناسب ولا يبالغ في لوم نفسه عليها، بل يحرص على تجنبها في المستقبل بالتعلم والوعي، مَن يفكر بهذا الأسلوب هو شخص لديه مرونة عقلية، أي أنه يدرب عقله على إدراك الخطأ ومن ثم فعل عكسه مراراً وتكرارًا إلى أن يصبح الفعل الصحيح جزءًا لا يتجزأ من سجيته، وفعلاً لا يحتاج منه بذل أي مجهود.
الذكاء نوعان .. أيهما تمتلك؟
تقول أستاذة علم النفس في جامعة ستانفورد "كارول دويك" إن الذكاء نوعان؛ فهناك أناس أصحاب ذكاء ثابت، وهناك آخرون لديهم ذكاء مرن، هؤلاء الذين يوصف ذكاؤهم بالثابت يعتقدون أن الذكاء مجرد سمة موروثة وغير قابلة للتغيير سواء بالسلب أو بالإيجاب؛ فالذكاء بالنسبة لهم أقرب هو سمة جسدية كقصر أو طول القامة، وهكذا يصبح هؤلاء سجناء عقولهم.
في المقابل يعتقد أولئك الذين يتمتعون بذكاء مرن أنه يمكنهم تعلم مهارات جديدة تساعد على تطورهم ذهنيًا وعقليًا، هؤلاء يرون كل فشل أو حدث سلبي على أنه فرصة للتعلم والتطور، فالبنسبة لهم كل شيء يمكن أن يتغير بما في ذلك مستوى ذكائهم.
كمستثمر في سوق الأسهم يجب أن تسعى إلى أن تكون من أصحاب الذكاء المرن الذين يمتلكون العقلية القادرة على تحويل المخاطر إلى عوائد والفشل إلى نجاحات مستقبلية والأخطاء إلى مكاسب والمشاكل إلى فرص. بالإيجابية والتفاؤل غير المفرط يمكنك أن تنمّي لدونتك العقلية لتمتلك نظرة أكثر شمولية ليس في سوق الأسهم فقط وإنما في الحياة بشكل عام.
بمجرد أن تصبح أكثر وعيًا بذاتك وأفكارك وعواطفك وغرائزك، ستصبح أيضًا أكثر وعيًا بغيرك من المشاركين في سوق الأسهم وهو ما سيمكنك من توقع تحركاتهم وردود أفعالهم قبل أن تقع، هذا حدس لا نمتلكه سوى بالإدراك والممارسة المنتظمة.
لكي تصبح مستثمرًا بالفطرة يجب أن تكون في الميدان دائمًا، تلعب اللعبة بقواعدها، تجري فتقع ثم تقف على قدميك، في الأوقات التي تخسر فيها ستلعب عقليتك دورًا بالغ الأهمية في إنقاذك، فهي التي ستوضح لك ما إذا كان من الأفضل أن تتراجع أم أن تستمر، إذا كان من مصلحتك أن تقبل الهزيمة أم أن تثق في نفسك وتثبت على موقفك.
المصادر: أرقام
كتاب: NeuroInvesting: Build a New Investing Brain
كتاب: The Brain that Changes Itself
كتاب: Evolution: A Theory in Crisis
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}