"أحمق، فقد لمسته الاستثمارية، عاجز عن رؤية المستقبل"، كانت هذه الاتهامات وغيرها تطلق قبل 20 عاماً على أحد أشهر المستثمرين في العالم.
تعرّض "وارن بافيت" المستثمر الشهير والذي يعتبره الكثيرين أيقونة في عالم الأسهم إلى موجة من السخرية والهجوم في تسعينيات القرن الماضي؛ بسبب ابتعاده عن طفرة شركات التكنولوجيا آنذاك وتفضيله الاستثمارات الأكثر تقليدية.
الجنون يسود
كانت فترة تسعينيات القرن الماضي بمثابة "سيادة لعصر الجنون" في سوق الأسهم الأمريكي فيما أطلق عليه "عصر الدوت كوم".
وظهرت المئات من شركات التكنولوجيا الصغيرة لشباب يملكون أفكاراً تبدو براقة وجديدة، لكن معظمها لا يحقق إيرادات أو حتى يمتلك مقراً مادياً يمارس فيه أنشطته.
لكن مع الحلم الجديد بانطلاقة تكنولوجية ستغير وجه العالم بأسره، شهدت أسهم هذه الشركات الصغيرة قفزات قياسية في أوقات سريعة للغاية مع رهان الجميع على المستقبل وما سيأتي به لهذه الكيانات.
كان الناس يستقيلون من وظائفهم لاستثمار كل ما يملكونه في أسهم هذه الشركات، والتي كانت بالتبعية تواصل صعودها الحاد بفضل الطلب المتزايد والتفاؤل اللامتناهي.
وفي هذا الوقت الحماسي للجميع، كان "وارن بافيت" الشهير يكتفي بالمشاهدة ويمتنع عن الدخول والحصول على نصيب من هذا الربح المتاح السهل.
وبينما كان مندوب المبيعات أو عامل البريد الذي لا يعلم الكثير عن أساسيات الاستثمار في سوق الأسهم يضاعف أمواله في غضون أشهر قليلة بفضل شركات الإنترنت، كان "بافيت" يفضل الابتعاد عن هذا القطاع مواصلاً استثماره في "كوكاكولا" و"جيليت" وغيرهما من الشركات التي يفضلها.
"ماذا حدث لك يا بافيت؟"، كان عنوان أحد المقالات التي هاجمت سلوك "حكيم أوماها" في ديسمبر عام 1999، متسائلة: "هل فقد بافيت لمسته الاستثمارية، لماذا يترك السوق يتجاوزه بهذا الشكل؟".
لكن في غضون بضعة أشهر انهار كل شيء، والفرص الاستثمارية العظيمة التي راهن عليها الكثيرون تحولت إلى هبوط حاد تسبب في إفلاس مئات الشركات الصغيرة واختفائها مع تبخر أموال المستثمرين الحالمين بالثراء السريع.
لقد تحوّلت طفرة شركات التكنولوجيا إلى ما تطلق عليه كتب التاريخ الآن اسم "فقاعة الدوت كوم"، مع انخفاض مؤشر "ناسداك" بنحو 75% من الذروة.
لا تخشى أن تبدو غبياً
مَن يرغب في أن يبدو فاشلاً أو أقل فهماً ممن حوله؟ الإجابة دائماً لا أحد، بالطبع يرغب الجميع في الظهور بشكل جيد أمام نظرائهم والأهم أمام أنفسهم.
إذا رأيت سهماً يحقق صعوداً متواصلاً فإن الإغراء سيكون كبيراً للدخول في هذا الاستثمار، حتى لو كنت لا تعلم عنه الكثير من المعلومات أو كنت على يقين أن قيمته الحقيقية لا تساوي هذا السعر أبداً.
والإغراء هنا لا يتعلق فقط بالاستفادة من الربح، ولكنه أيضاً يرتبط بشكل كبير بتفادي شعور "الحماقة" وأنك أضعت فرصة سهلة لتحقيق مكاسب نجح الآخرون في الاستيلاء عليها وحدهم بينما أنت تقف مكتفياً بالمشاهدة.
لكن أن "تبدو" غبياً يظل خياراً أفضل كثيراً من أن "تصبح" غبياً.
وكما يقول "ميسون هوكينز" المستثمر الأمريكي الشهير: "لكي تنجح في الاستثمار على المدى الطويل، يجب أن تكون مستعداً لأن تبدو غبياً على المدى القصير".
فالخوف من فقدان الفرصة والسعي للانضمام للحشود الظافرة قد يكلفك الكثير غالباً.
كان من الممكن بالفعل أن تستمر طفرة التكنولوجيا في تسعينيات القرن الماضي لأعوام أخرى، أو حتى أن يقرر "بافيت" الدخول لفترة وجيزة استغلالاً للصعود غير المبرر قبل أن يخرج مجدداً في أقرب فرصة.
لكن الرجل قرر الالتزام بنهجه الاستثماري المنضبط، واستمر في دائرة الشركات التي يعرف كل تفاصيلها ويدرك أبعاد القطاعات التي تعمل بها جيداً حتى لو كان على حساب فقدان فرصة لتحقيق ربح كبير.
بل أن الإصرار على نهج الالتزام وصل بـ"بافيت" ورغم صداقته الوطيدة والقديمة بمؤسس مايكروسوفت "بيل جيتس" لرفض الاستثمار في أسهم الشركة لأنه لا يعلم عن القطاع قدر ما يعلمه عن الأنشطة التي يفضلها.
الآن، من المؤكد أن هذه الرؤية تسببت في فقدان المستثمر المخضرم أرباحاً كبيرة كان يمكن تحقيقها، وساهم في اتهامه المبرر من قبل كثير من المتابعين بالحماقة والعناد.
لكن القيمة الحقيقية هنا لهذا الانضباط في الاستثمار تظهر إذا قمت بتحويل الموقف للعكس تماماً.
فرغم أن النهج الملتزم كلفه فقدان بعض الفرص الاستثمارية الرابحة، فإنه أيضاً كان وراء نجاته من خسائر ضخمة لعل أبرزها ما حدث في فقاعة "الدوت كوم" مثلاً.
نهم الربح أم تفادي الخسارة؟
ومع الاعتراف بأن نهج "الالتزام بما تعرف" يمكن أن يمنعك من تحقيق أرباح تبدو سهلة وفي متناول الجميع، فإنه أيضاً سيكون سبباً في تفادي خسائر فادحة قد تتجاوز كثيراً الربح الذي لم يتحقق.
وكما أن المستثمر المنضبط لا يتخلى عن استثماره مع أول إشارة على ظهور مشكلة، فإنه أيضاً لا ينجرف وراء استثمار اكتسب شعبية فجأة، لأنه في الحالتين يسير وفقاً لخطة ونهج محدد.
ربما لن يكفي الالتزام والانضباط الاستثماري في عزلك تماماً عن العواقب المؤلمة للجشع الأوسع في السوق، لكنه سيكون عاملاً مؤثراً في نجاحك كمستثمر طويل الأجل.
لكن الأهم، هو أنه في بعض الأوقات سيكون الالتزام بأهدافك ورؤيتك هو الفارق بين النجاة والخسارة التامة.
وإذا كنت ترغب في أن تصبح مستثمراً طويل الأجل تبحث عن الأسهم المتداولة بأقل من قيمتها الحقيقية، استعد لتلقى اتهامات بـ"الحماقة" في بعض الأوقات.
المصادر: أرقام – بارونز – وول ستريت جورنال
كتاب: The Business of Value Investing
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}