ينتاب الكثير من الأشخاص لحظات من الغضب الممزوج بالدهشة وربما الاكتئاب كلما تعرضوا للفشل المهني أو المالي مرددين بتساؤل ممزوج بالحسرة: "لماذا لا أنجح رغم ذكائي وقدراتي الجيدة؟".
لكن الواقع أن العلاقة بين النجاح والذكاء تظل محط شكوك واسعة منذ سنوات طويلة، مع شواهد كثيرة تشير إلى أن القدرات العقلية والمعرفية وحدها قد لا تكفي للوصول إلى الهدف دائماً.
الذكاء والدخل والثروة
ربما يكفل امتلاك معدل ذكاء مرتفع للبعض الوصول لدرجة جيدة من الدخل، لكن الأمر يختلف تماماً على صعيد الثروة والنجاح المالي.
وبالفعل، أثبتت معظم الدراسات أن الأشخاص الأكثر ذكاءً يمتلكون معدل دخل أعلى مقارنة بالأقل من حيث القدرات العقلية.
وفي دراسة أمريكية أجريت في عام 2004 وشملت أكثر من 7 آلاف شخص من مواليد الفترة بين عامي 1957 و1964، أظهرت النتائج أن درجات اختبار معدل الذكاء (IQ) ترتبط عادة بالدخل الأعلى، ولكن ليس الثروة.
ومقابل كل درجة أعلى في الاختبار، كان دخل الشخص أفضل بما يتراوح بين 234 إلى 616 دولاراً سنوياً فحسب، ما يعني أن الأكثر ذكاءً كان أفضل حالاً من ناحية الدخل.
لكن على الرغم من الدخل الأعلى، فإنه لم يكن هناك علاقة بين الذكاء وإجمالي الثروة، فامتلاك شخص ما لدرجة ذكاء أعلى لا يجعله في وضع أفضل مالياً من هؤلاء الأقل ذكاءً.
يقول الباحث "جاي زاغورسكي" من جامعة أوهايو: "لا يصبح الناس أغنياء لمجرد أنهم أذكياء"، معدل الذكاء الخاص بك ليس له علاقة بثروتك، وكونك ذكياً جداً بمثابة أمر لا يحميك من الوقوع في ضائقة مالية".
ولم ينقذ الذكاء المرتفع كثيراً من الأشخاص من الوقوع في براثن الأزمات المالية، سواء عبر التعرض لصعوبات في سداد الالتزامات الشهرية أو الاقتراض بشكل مبالغ فيه أو حتى التعرض للإفلاس.
وبالتالي، على أولئك الذين يمتلكون معدل ذكاء منخفض ألا يتوقعوا الأسوأ على الصعيد المالي أو يشعرون بحتمية الفشل، كما أن من يمتلك ذكاءً مرتفعاً لا يجب أن يعتقد حصوله على ضمانة تكفل له الثراء.
الشخصية أولاً
يحب "جايمس هيكمان" الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل أن يسأل الناس وخاصة السياسيين وواضعي السياسات الاقتصادية عن اعتقادهم بشأن فارق الدخل الذي يحدده معدل الذكاء.
وعادة ما تدور الإجابة حول مستوى 25% أو حتى 50% لصالح الأكثر ذكاءً، لكن البيانات تشير إلى أن عامل الذكاء وحده مسؤول عن 1 أو 2% فحسب من فارق الدخل.
لكن إذا لم يكن الذكاء يكفل لصاحبه تحقيق نجاح مالي والوصول إلى الثراء المأمول، فما هي إذن العوامل التي تحقق ذلك؟
يقول رئيس وزراء بريطانيا الأشهر "ونستون تشرشل" إن الجهد المستمر – وليس القوة أو الذكاء – هو مفتاح إطلاق إمكاناتنا الكامنة.
والواقع أن هذه العبارة لها ما يؤكدها على صعيد النجاح المالي، كما أنها تجيب عن السؤال الكلاسيكي: "إذا كنت ذكياً بالفعل، فلماذا لم تصبح ثرياً؟".
وتشير دراسة شارك في إعدادها "هيكمان" إلى أن الوعي وما يتضمنه من سمات الشخصية التي تعبر عن الاجتهاد والمثابرة والانضباط الذاتي بمثابة أحد أسرار النجاح التي تتجاوز أهمية الذكاء.
وتتبعت الدراسة 4 مجموعات مختلفة من البيانات تشمل درجات الذكاء، ونتائج اختبار موحدة، ودرجات نهائية لامتحانات، وتقييمات شخصية لآلاف من الأشخاص في ثلاث دول.
وجاءت النتائج لتوضح أن درجات الاختبارات تعتبر مؤشراً أفضل لتوقع النجاح في الحياة الشخصية بصفة عامة مقارنة بمعدل الذكاء.
لكن أليس الذكاء ونتائج الاختبارات أمراً واحداً، أليس من الطبيعي أن يحقق الأكثر ذكاءً أفضل تقييمات في أي اختبار؟.
الحقيقة أن الإجابة هي لا، فالدرجات التي يحققها الشخص في الاختبارات تعبر ليس فقط عن معدل ذكائه، وإنما عن المهارات غير المعرفية أيضاً مثل المثابرة وعادات الدراسة الجيدة والتعاون، أو بعبارة أخرى "الوعي".
وبالتالي فإن النجاح بشكل عام – والمالي بصفة خاصة – لا يتعلق فقط بقدرات الشخص الفطرية التي ولد بها، وإنما بمهارات يمكنه تعلمها واتقانها.
وبالطبع يعتبر معدل الذكاء أمراً مهماً في المعادلة، ففي النهاية قد تكون بعض الأمور أكثر صعوبة في الاستيعاب والتنفيذ بالنسبة لشخص يتمتع بمعدل ذكاء منخفض، لكن المثابرة والاجتهاد وامتلاك المهارات غير المعرفية ربما تجعله يتجاوز مَن يتمتعون بدرجات عالية من القدرات العقلية.
دور الحظ
يتحدث الكثير من الناس عن التوفيق والصدفة كثيراً لدرجة تدفع البعض لاعتبارها مجرد أعذار واهية لتبرير الفشل المتكرر وعدم القدرة على النجاح.
لكن الواقع أن عامل الصدفة أو ما يطلق عليه البعض "الحظ والتوفيق" يظل أحد العوامل المؤثرة في حياتنا بشكل عام وفي الوصول إلى الثراء من عدمه.
الأمر يظهر أحياناً عند النظر إلى الفائزين بجوائز اليانصيب كل عام، أو صغار المستثمرين الذين قد يحقق بعضهم مكاسب في أسواق الأسهم رغم عدم معرفتهم بأساسيات الاستثمار لمجرد امتلاك حدس جيد أو الاختيار العشوائي أو حتى وجود فقاعة في السوق مثلما حدث إبان فقاعة "الدوت كوم" وغيرها.
وفي عام 2018، أراد ثلاثة علماء إيطاليين من جامعة "كاتالنيا" معرفة ما إذا كان الأثرياء وصلوا للنجاح المالي من خلال الموهبة أم الحظ.
وقام العلماء الثلاثة – اثنان متخصصان في الفيزياء والثالث في الاقتصاد – بتصميم نموذج عبر الحاسب الآلي وإدخال بيانات الجوانب المحيطة بالموهبة البشرية التي تشمل امتلاك الذكاء والمهارات وعقلية السعي للمخاطرة وغيرها، ثم أضافوا معايير خاصة بالحظ ومسارات غير مواتية قد تتسبب في ضرر الحياة المهنية.
وقام الباحثون بعد ذلك بتشكيل عدد من المرشحين الوهميين ومنحهم درجات مختلفة من هذه المواهب والإمكانات وأيضاً عامل الحظ أو عدمه وتتبع مسار كل فرد على مدار 40 عاماً من العمل.
وبعد هذه الأعوام ومع تكرار التجربة الافتراضية عدة مرات، ظهرت نتيجتان بشكل ملحوظ: الأولى هي أن قانون 20–80 لا يزال سارياً، وهو ما يعبر عن امتلاك 20% من الناس لـ80% من الثروة بصرف النظر عن ماهية وحجم الاقتصاد.
لكن النتيجة الثانية والأبرز تمثلت في أن الحظ كان العامل الأهم في تحديد من يمتلك الثروة بين المتنافسين الافتراضيين.
وبينما يعترف العلماء بأننا في بعض الأوقات نميل بالخطأ إلى تبرير نجاح الآخرين بالحظ فقط، فإننا أيضاً نقلل في كثير من الأحيان من أهمية الدور الذي تلعبه القوى الخارجية رغم أنها قد تكون الأكثر أهمية.
وفي حين أن المواهب البشرية تظل أمراً مهماً، فإن معظم هؤلاء الذين يمتلكون الثروة ليسوا الأكثر موهبة لكن معظمهم ضمن الفئة المتوسطة، بالتالي فإن تحقيق النجاح لا يتماشى مع امتلاك أقصى قدر من الإمكانات العالية.
لكن في النهاية، يظل عاملا الذكاء الفطري والصدفة البحتة خارج سيطرة وتحكم البشر، في حين أن أمور مثل المثابرة والاجتهاد والسعي والانضباط هي فقط ما يمكن العمل من خلالها بحثاً عن النجاح المأمول.
المصادر: أرقام –بلومبرج –إينك– بيج ثينك
دراسة: Do you have to be smart to be rich?
دراسة: What Grades and Achievement Tests Measure
دراسة: Talent vs Luck:the role of randomness in success and failure
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}