لا يزال وباء "كوفيد-19" يكشف عن الكثير من التغيرات على صعيد الاقتصاد العالمي والأسواق المالية والتي يشكل بعضها مفاجأة للكثير من المتابعين.
وتدفع القدرة الفائقة والسهلة لبعض الدول الأكثر مديونية والأقل جدارة ائتمانية على الاقتراض الرخيص لظهور تساؤلات حول مدى تغير الوضع التقليدي وإمكانية استدامة هذه التحولات.
قروض بلا حساب
- في الأسبوع الماضي، طرحت إيطاليا سندات لأجل ثلاث سنوات بمعدل عائد بلغ صفرا، ما يعني أن المستثمرين الذين اشتروا هذه السندات لن يحصلوا على أي مقابل مادي حتى أجل السداد في عام 2024.
- جمعت الحكومة الإيطالية 3.75 مليار يورو بكوبون صفري في أول عملية من نوعها لسندات طويلة الأجل، وهو ما تزامن مع بيع ديون لأجل سبعة سنوات وكذلك ثلاثين عاماً أيضاً بعائد متدن تاريخياً.
- وفي السوق الثانوي، انخفض العائد على السندات الإيطالية لآجل 10 أعوام إلى مستوى قياسي متدن بلغ 0.638% بنهاية يوم السادس عشر من أكتوبر الجاري، مقابل 2.4% تقريباً في شهر مارس الماضي.
- لكن الهبوط التاريخي في تكلفة اقتراض الحكومة الإيطالية لا يعكس فعلياً الواقع السيئ للاقتصاد الذي يعاني انكماشا حادا وتسارعا ضخم للديون السيادية.
- وحتى قبل ظهور الوباء، كانت إيطاليا تعاني أحد أعلى مستويات الديون حول العالم، مع نمو اقتصادي ضعيف بلغ 0.3% في إجمالي عام 2019.
- وكانت إيطاليا تمتلك بالفعل أكبر معدل للديون نسبة للناتج المحلي الإجمالي في الاتحاد الأوروبي بنحو 134.8% بنهاية العام الماضي، لتحتل المرتبة الخامسة عالمياً بعد اليابان وفنزويلا والسودان واليونان.
- ومع تداعيات أزمة الجائحة على الاقتصاد، شهد ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو ركوداً تاريخياً مع تسارع الإنفاق بالعجز في مسعى لدعم الشركات والأسر في مواجهة الوباء.
- وخفضت وكالة "فيتش" في شهر أبريل الماضي التصنيف الائتماني لإيطاليا إلى (BBB-)، لتصبح على بعد درجة واحدة من التصنيف غير الاستثماري (الخردة).
- الوكالة بررت خفض التصنيف الائتماني بالأثر الكبير لفيروس "كوفيد-19" على الاقتصاد الإيطالي والمالية العامة للدولة مع تسارع مستويات الديون السيادية وانكماش الناتج المحلي.
- وتوقع صندوق النقد الدولي انكماش اقتصاد إيطاليا بنسبة 10.6% في العام الجاري، لتكون ثاني أسوأ دولة في الاتحاد الأوروبي أداءً بعد إسبانيا التي تتجه لتراجع يتجاوز 12%.
- كما تشير تقديرات الصندوق إلى وصول الدين الحكومي في إيطاليا إلى 161.8% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول نهاية هذا العام مقارنة بنحو 135% في 2019.
- لكن رغم الركود الحاد والديون الضخمة وقرار خفض التصنيف الائتماني، تمكنت الدولة الأوروبية من الاقتراض مجاناً من الأسواق الدولية.
- وبالرغم من تسارع الديون وانخفاض التصنيف الائتماني، تشير بيانات "موديز أنلاتيكس" إلى أن السندات الإيطالية تتداول وكأنها تمتلك تصنيفا ائتمانيا (A2) مثلما هو الوضع بالنسبة لإيرلندا مثلاً، وليس بما يعبر عن واقعها الفعلي بتصنيف (Baa3).
كيف تفعلها إيطاليا؟
- يتدافع المستثمرون حول العالم على أسواق السندات الحكومية للاقتصادات المتقدمة، في مسعى للتحوط ضد مخاطر الركود الاقتصادي والتوترات السياسية خاصة مع ترقب الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل.
- لكن السبب الأبرز يظهر في قيام البنوك المركزية الكبرى وعلى رأسها المركزي الأوروبي بضخ تريليونات الدولارات في أسواق السندات من خلال زيادة وتيرة مشترياتها من الأصول مع خفض معدلات الفائدة لمستويات قياسية متدنية.
- لم يقتصر الهبوط في تكاليف الاقتراض للدول الأكثر ديونا على إيطاليا، حيث انخفض العائد على الديون الحكومية لليونان لأجل 10 سنوات لمستوى قياسي متدن بلغ 0.783%، مقابل 3.8% في مارس الماضي، ومقارنة بقمة بلغت 44.2% في ذروة أزمة الديون في عام 2012.
- تشير قدرة الدول الأوروبية الأكثر مديونية على الاقتراض الرخيص إلى مدى التدخل الذي قامت به البنوك المركزية في الأسواق، والذي تسبب في انفصال حاد بين الأسواق المالية والاقتصاد الحقيقي.
- أقر البنك المركزي الأوروبي عمليات شراء للأصول بقيمة 1.35 تريليون دولار ضمن برنامج للتيسير الكمي، مع إبقاء معدلات الفائدة على الودائع عند مستوى تاريخي غير مسبوق يبلغ - 0.5%.
- لا يزال المستثمرون يتوقعون مزيداً من التدابير من جانب المركزي الأوروبي، حيث تشير تقديرات "جولدمان ساكس" إلى أن البنك قد يضيف 400 مليار يورو (470 مليار دولار) لمشترياته من الأصول في اجتماع ديسمبر المقبل.
- قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي "كريستين لاجارد" إن البنك مستعد لفرض المزيد من التدابير الطارئة لمواجهة التداعيات الاقتصادية الناجمة عن أزمة "كورونا"، وسط تسارع مفاجئ في انتقال العدوى في أوروبا.
- وبشكل خاص، تبرز استفادة إيطاليا من برنامج التيسير الكمي للمركزي الأوروبي من خلال حقيقة امتلاك البنك نحو خُمس حجم السندات الإيطالية المصدرة، وهو ما يوفر مصدراً للطلب المستمر على الديون.
- كما تستفيد الدول الأكثر تضرراً من ضربة الوباء في الاتحاد الأوروبي من خطة إنقاذ مالي بقيمة 750 مليار يورو (880 مليار دولار) والتي أقرها الأعضاء بشكل مبدئي قبل أسابيع.
- وبحسب الخطة المعلنة، قد تحصل إيطاليا على 209 مليارات يورو (246 مليار دولار تقريباً) في شكل منح وقروض من الاتحاد الأوروبي، ما قد يقدم الدعم للدولة للحصول على قروض ميسرة من الأسواق المالية.
هل يستمر الانفصال؟
- تشهد أوروبا تزايدا لحالات الإصابة والعدوى الجديدة بفيروس "كورونا" بما يمثل بوادر للموجة الثانية من الوباء، وهو ما يهدد بصعوبات إضافية للاقتصاد وتسارع لمعدلات الديون.
- ورغم ذلك، يرى بعض المحللين أن تكاليف اقتراض إيطاليا تمتلك مساحة إضافية لمزيد من الهبوط في الفترة المقبلة، رغم تزايد عبء الديون.
- تقدم اليابان مثالاً على قدرة الدول المثقلة بالديون على الاقتراض بمعدلات فائدة تقارب الصفر، حيث يبلغ العائد على ديونها لأجل 10 سنوات نحو 0.028% رغم حقيقة أن ديونها تتجه لتعادل 266% من الناتج المحلي الإجمالي بنهاية هذا العام.
- يقدم صندوق التعافي الأوروبي حلاً مهماً لتجاوز أو تأجيل مشاكل استدامة الديون التي تواجه إيطاليا وباقي الدول الأكثر مديونية في القارة العجوز.
- لكن هناك خطرا يتمثل في أن صندوق التعافي الأوروبي قد لا يدخل حيز التنفيذ الفعلي، ما سيمثل تهديدا صريحا لسوق السندات الإيطالية.
- إذا دخلت الأسواق شهر ديسمبر بدون إحراز تقدم فعلي فيما يخص صندوق التعافي أو مسار واضح لسياسات المركزي الأوروبي خلال العام المقبل، فإن الأسواق قد تعيد تسعير الموقف بشكل أكثر واقعية.
- تعتقد شركة "أفيفا إنفستورز" أن علاوة الديون الإيطالية لأجل 10 أعوام مقارنة بنظيرتها الألمانية قد تهبط أدنى 100 نقطة أساس، وهو مستوى لم تشهده منذ عام 2016 ومقارنة بأكثر من 300 نقطة أساس خلال الموجة البيعية في مارس الماضي ومقابل نحو 120 نقطة حالياً.
- على الجانب الأخر، قد تمثل عملية الخفض المحتملة للتصنيف الائتماني السيادي لإيطاليا إلى فئة "الخردة" ضربة فعلية للقدرة على الاقتراض، حيث ستؤدي لخروج السندات من مؤشرات رئيسية ما قد يتسبب في موجة بيعية.
- من المقرر أن تصدر وكالة "موديز" تقييمها للتصنيف الائتماني لديون إيطاليا في السادس من شهر نوفمبر المقبل، على أن تعلن "فيتش" رؤيتها للتصنيف في الرابع من ديسمبر.
- لا تزال الديون الإيطالية تستفيد من برامج الدعم المالي والنقدي للسياسات في منطقة اليورو، لكن التعافي البطيء من الأزمة الاقتصادية وتوقف عجلة التحفيزات قد يتسبب في إنهاء حالة الانفصال بين الأسواق والاقتصاد الحقيقي.
المصادر: أرقام – وزارة المالية الإيطالية – فيتش –صندوق النقد الدولي - سي إن إن –فاينانشال تايمز –بلومبرج
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}