"المستهلك ليس شخصاً أحمق، إنه مثل زوجتك، أنت تهين ذكاءها إذا افترضت بأن مجرد شعار وعدد من الصفات المبتذلة قادرة على إقناعها بشراء شيء ما، يجب أن تمنحها كل المعطيات اللازمة".
كانت هذه العبارة بمثابة شعار الثورة التي غيّر بها البريطاني "ديفيد أوجيلفي" واقع ومستقبل صناعة الإعلان في الولايات المتحدة والعالم بأكمله.
كثير من التقلبات
لكن مؤسس فن الدعاية والإعلان الحديث لم يسلك في بداياته خطاً مباشراً في طريقه للنجاح، لكنه مر بمنعطفات كثيرة في رحلة الوصول للقمة.
الرجل الذي ولد في إنجلترا في عام 1911 لم يحقق نجاحاً دراسياً بعد فشله في الحصول على شهادة جامعية من "أكسفورد"، قبل أن يتوجه إلى باريس ليعمل في وظيفة مساعد طاه في فندق.
وبعد عام واحد، عاد الشاب إلى إنجلترا واتجه لبيع أفران الطهي الجديدة من خلال الانتقال إلى الضواحي والمنازل لإقناع الناس بالشراء.
بالفعل، نجح "أوجيلفي" في هذه الوظيفة لدرجة دفعت صاحب العمل لمطالبته بكتابة دليل إرشادي لزملائه الحاليين والمقبلين، وهو الدليل الذي كان أبرز نصائحه ضرورة معرفة الحقائق عن المنتج وكيفية إقناع العميل بها.
أرسل "أوجيلفي" الدليل لشقيقه "فرانسيس" الذي كان يعمل مديراً تنفيذياً في وكالة إعلان بريطانية تحمل اسم "ماذر آند كراولي"، والذي شعر بالإعجاب تجاه طريقة العرض ليساعد شقيقه على الالتحاق بوظيفة لكتابة الإعلانات في الوكالة.
سيطر الشغف بهذا العالم الجديد على "أوجيلفي" الذي اتجه لقراءة ودراسة كل ما يتعلق بصناعة الإعلان، قبل أن يقدم رؤيته لزملائه والتي تلخصت في ضرورة إحلال الأرقام والحقائق والعروض الجذابة بدلاً من الادعاءات الرومانسية والشعارات والنصائح الواهية.
لكن رغم نجاحه في الترقي وتضاعف راتبه سريعاً، فإنه كان يرغب في النجاح بعيداً عن رعاية شقيقه، بالإضافة إلى اهتمامه بعالم الإعلان النابض بالحياة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي.
أرض الأحلام ترحب بكم
أقنع الشاب شركته بإرساله إلى الولايات المتحدة لرصد تطور صناعة الإعلان، وبعد منح رؤسائه التقرير المتفق عليه استقال "أوجيلفي" واتجه لمزيد من دراسة طبيعة الحياة الأمريكية.
ومع سعيه لمعرفة تفضيلات وطريقة تفكير الأمريكيين، قرر الفتى البريطاني العمل لدى "جورج جالوب" في شركته المتخصصة في استطلاعات الرأي، والتي كان لها أكبر الأثر في نجاح "أوجيلفي" لاحقاً.
لم تكن الخبرة التي حصل عليها من خلال العمل لدى "جالوب" تقدر بثمن، لقد عرف "أوجيلفي" أنه يمكن التكهن بتفضيلات المستهلكين من خلال ردود فعلهم على أسئلة معدة بعناية، كما فهم الكثير عن الأذواق الأمريكية.
وقال "أوجيلفي" لاحقاً: "إذا أردت أن تجرب حظك في بلد أجنبي، فإن أفضل شيء يمكن القيام به هو العمل في فرع محلي لمؤسسة جالوب للاستطلاعات، عندها سيمكنك معرفة ماذا يريد الناس وما هي أفكارهم وعاداتهم".
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، عاد "أوجيلفي" مجدداً لعالم الإعلان في عام 1948، وبدعم مالي مباشر من شركته السابقة "ماذر أند كراولي" أرسى الأساس لإطلاق وكالة إعلانية ستعرف لاحقاً باسم "أوجيلفي آند ماذر".
لكن عندما بدأت وكالة "أوجيلفي" عملها في السوق الأمريكي كان الاتجاه السائد يقتصر على أسلوب البيع السريع والخاطف، وهو ما كان يخالف القناعات الأولية للبريطاني الذي اتجه لنهج البيع على المدى الطويل وتعريف وتعميق أسس العلامة التجارية والاعتماد على استطلاعات الرأي العلمية.
ومنذ اليوم الثاني من افتتاح الوكالة، حدد "أوجيلفي" خمس شركات يجب أن تصبح ضمن عملائه وهي: جنرال موتورز، وبريستول مايرز، وكامبل سوب، وليفر برذرز، وشل أويل، وهي الشركات التي اعتبرها بنفسه لاحقاً "أهدافاً كانت تمثل ضرباً من الجنون في حينها".
تراكم النجاحات الصغيرة
في البدايات، ارتكب "أوجيلفي" ما اعتبره لاحقاً "خطأً كبيراً"، باستخدام ممثلة شهيرة في إعلان تلفزيوني، لأنه بعيداً عن المقابل المادي الكبير الذي حصلت عليه فإن الناس تذكروا السيدة المشاركة في الإعلان أكثر من المنتج نفسه، وهو ما لخصه لاحقاً بقوله: "الناس يتذكرون المشاهير لكن المنتج يُنسى".
كان أول نجاح تشهده الوكالة الإعلانية الجديدة مع حملة لشركة ملابس صغيرة تدعى "هاثاواي"، بعد أن استخدم الصورة للحصول على انتباه العملاء من خلال ابتكار شخصية "رجل يرتدي قميص هاثاواي" في سلسلة من الإعلانات، وهو ما أثار ضجة كبيرة آنذاك وقفز بمبيعات الشركة الصغيرة.
في عام 1955 حصلت الوكالة على العميل الثاني الأكثر أهمية "شويبس" التي كانت ترغب في تأمين موطأ قدم لها في الولايات المتحدة، وعبر حملات إعلانية جعلت رئيس الشركة "إدوارد وايتهيد" نفسه بطلاً لها، رسخ "أوجيلفي" الانبهار الأمريكي بالشخصية البريطانية الواثقة.
نجحت الحملة الإعلانية لـ"شويبس" لترتفع المبيعات في الولايات المتحدة بنسبة 500% في السنوات التسع التالية لبداية الحملة، كما أن الرغبة في الحفاظ على الصورة الذاتية للعلامة التجارية دفعت "وايتهيد" للظهور في الإعلانات لمدة 18 عاماً متتالية.
في عام 1963 حققت شركته إيرادات سنوية بنحو 55 مليون دولار من تسعة عشر عميلاً، لكن الأهم أن هذه الشركات كانت تتضمن الخمس الكبرى التي استهدفها "ديفيد" في بداية إطلاق الوكالة.
وفي نفس العام نشر "أوجيلفي" كتاباً بعنوان "اعترافات رجل إعلان" والذي كان يستهدف ترسيخ الصورة الذهنية المطلوبة عن الرجل والشركة، بكثير من الإطراء على الذات ليطابق النموذج السائد للبريطانيين في أذهان الأمريكيين.
وقال "أوجيلفي" عن ذلك: "لقد كان ذلك ضرورياً، لو اتخذت مسلكاً أكثر مهنية لاستغرق الأمر مني عشرين عاماً حتى أصل للشهرة المطلوبة، لم يكن لدي الوقت ولا المال للانتظار".
لكن الأمر الأهم هو أن "أوجيلفي" اعترف لنفسه بأنه لا يحسن أو يفضل الإدارة، وبالتالي تخلى طوعاً عن كل المهام الإدارية لشركته لمسؤولين متمرسين واتجه لرئاسة وحدة الإبداع وكتابة الإعلانات.
الحقيقة تتفوق على الشعارات
كان "ديفيد" رجلاً صريحاً وواضحاً للغاية، وهو ما ظهر جلياً في إيمانه بأن الحقيقة والمعلومة المباشرة والصورة الجذابة هي الطرق الأقصر لإنشاء علاقة ناجحة بين الشركة والعميل المحتمل.
ويقول الرجل: "قل الحقيقة دائماً لكن اجعلها رائعة، في عالم الأعمال الحديث من غير المجدي أن تكون مفكراً مبدعاً ما لم تتمكن من بيع ما تصنعه".
اهتم "أوجيلفي" دائماً بأن تظهر المزايا والمعلومات والخدمات التي يقدمها المنتج بجانب اسم الشركة والعلامة التجارية في كل الإعلانات المطبوعة، مع إمكانية ظهور اقتباس من عميل راض أو سرد قصة ملهمة.
تظهر الحملة التي كتبها "أوجيلفي" في عام 1958 بشعار "عند سرعة 60 ميلاً في الساعة، ستكون الضوضاء الأعلى في سيارة رولز رويس الجديدة صادرة عن الساعة الكهربائية" التوجه الدائم لتوضيح المميزات بشكل مباشر، وهي الحملة التي ساعدت في مضاعفة مبيعات الشركة في عام واحد.
وكان من ضمن قواعد "أوجيلفي" أنه يستخدم منتجات عملائه دائماً، كما أنه ابتعد عن الترويج لمنتجات عندما فقد الثقة في أدائها مثلما كان الحال بالنسبة لـ"رولز رويس" والتي كانت حجر الزاوية في إمبراطوريته الوليدة لكنه تخلى عن الإعلان عنها مع تراجع مستوى سياراتها.
ومع مغادرة "أوجيلفي" منصبه كمدير للإبداع في الوكالة في عام 1975، كانت "أوجيلفي آند ماذر" تحتل المرتبة الخامسة في قائمة أكبر الوكالات الإعلانية في العالم.
وبحلول عام 1981 كانت الوكالة قد تضخمت لتشمل 100 مكتب منتشر في 25 دولة بإجمالي إيرادات تتجاوز 1.7 مليار دولار.
وبعد عامين ألف "أوجيلفي" كتابه الأشهر بعنوان "أوجيلفي والعملية الإعلانية" والذي شكل ملخصًا لخبرة نصف قرن من العمل في مجال الإعلان.
ورغم انتقاد الرجل موجة الاستحواذات التي طالت قطاع الإعلان في الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي، فإن شركته تعرضت لعملية استحواذ من جانب "دبليو بي بي" في عام 1989 بقيمة 864 مليون دولار.
وعندما توقفت شركة "أوجيلفي" عن العمل بوصفها كياناً مستقلاً، كان عالم الإعلان قد تغير كثيراً مقارنة بالبداية التي شهدها "أوجيلفي" قبل 40 عاماً، لكنه كان جزءاً رئيسياً لن ينسى في تاريخ تطور هذه الصاعة.
ومع وفاة "ديفيد أوجيلفي" في عام 1999، فإن الكثيرين ما زالوا يعتبرونه أحد مؤسسي صناعة الإعلان الحديثة القائمة على المعلومة والحقيقة والصورة الجذابة والأهم من كل ذلك هو احترام عقلية المستهلك.
المصادر: نيويورك تايمز –فاينانشال تايمز - إنترتينر
كتاب: forbes greatest business stories of all time
كتاب: Ogilvy on Advertising
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}