تتسبب المخاوف بشأن استقلالية البنوك المركزية في اضطرابات عديدة على أصعدة مختلفة، مثلما هو الحال منذ سنوات مع البنك المركزي التركي، والذي تسببت الخلافات بين إدارته والقيادة السياسية في تداعيات سلبية.
كثيرًا ما طالبت المؤسسات الدولية تركيا بالحفاظ على استقلالية البنك المركزي، وحذرت من أن التدخل السياسي يخلق حالة من عدم اليقين لدى المستثمرين ويتسبب في ضغوط هبوطية على العملة المحلية، التي انحدرت بشدة في السنوات القليلة الماضية.
أقالت أنقرة محافظ البنك المركزي "مورات ستنكايا" في يوليو عام 2019، بعد معارضته خفض معدل الفائدة بشكل كبير، وكان القرار مفاجئًا للأسواق وتسبب في انخفاض قيمة الأصول التركية. وتمت إقالة المحافظ "مراد أويصال" أيضًا في نوفمبر من العام الماضي لأسباب مشابهة.
في الحقيقة، معضلة استقلال البنوك المركزية ليست قضية تركية، وإنما عالمية، وتحاول مؤسسات مثل صندوق النقد والبنك الدوليين الضغط في أماكن متفرقة من أجل ضمان حرية السياسة النقدية، لكن ضغوط الجائحة ربما تجعل الأمر أكثر صعوبة، حتى أن أكثر البنوك المشهود لها بالاستقلال ستخضع لاختبار حقيقي في هذا الصدد.
مشكلة عالمية
- استقال محافظ البنك المركزي الهندي "أورجيت باتيل" في ديسمبر عام 2018، بعد نزاع مع الحكومة حول استقلالية المصرف، حيث طالب رئيس الوزراء بخفض القيود على الإقراض وتمكينه من الاحتياطي النقدي.
- قررت البرازيل للتو فقط منح بنكها المركزي بعض الاستقلال، بعد جدال دام 3 عقود، عندما مرر المشرعون الشهر الماضي، قانونًا يمنح المصرف حكمًا ذاتيًا، في خطوة تهدف إلى تحسين سمعة البلاد بين المستثمرين الدوليين من خلال إزالة مخاطر التدخل السياسي في الإدارة النقدية.
- بموجب القانون، سيظل رئيس البنك يتم ترشيحه من قبل السلطة التنفيذية ويخضع لتأكيد مجلس الشيوخ، لكن ستتم حمايته قانونيًا من الإقالة بسبب الخلافات حول السياسة النقدية، في خطوة تأتي بعد ضغوط شديدة تعرضت لها المؤسسة في عهد الرئيسة "ديلما روسيف".
- في تجربة أخرى، تعكس التداعيات السلبية للتدخل في عمل البنوك المركزية، حذرت مديرة صندوق النقد الدولي، "كريستينا جورجييفا" السلطات الأوكرانية، الصيف الماضي، من الضغوط السياسية التي تمارس على البنك المركزي في البلاد.
- تحدثت "كريستينا" مباشرة مع الرئيس "فلاديمير زيلينسكي" حول ما قالت إنها مخاوف بشأن الضغوط التي يتعرض لها البنك الوطني الأوكراني، وألمحت إلى أن المساعدة التي يقدمها الصندوق للبلاد قد تكون في خطر.
- استقال رئيس البنك "ياكيف سمولي"، منتصف العام الماضي، بعد هجوم حاد من المشرعين ومن الحزب الحاكم بالتحديد، وقال إن "الضغط السياسي المنتظم جعل من المستحيل عليه أداء واجباته".
- عادة ما تضع مشاكل النمو والعقبات الاقتصادية ضغوطًا سياسية على البنوك المركزية، وحذرت وكالة "فيتش" قبل عامين من أن التباطؤ العالمي يهدد استقلالية البنوك المركزية حول العالم، وطالبت المستثمرين بتقييم الضغوط السياسية، وهي مشكلة يبدو أنها تعود للواجهة مرة أخرى الآن.
التجربة الأمريكية
- يصادف الرابع من مارس الذكرى السبعين لاتفاق "الخزانة والاحتياطي الفيدرالي" في أمريكا، وهو الاتفاق الذي رسّخ استقلالية البنك المركزي، وفي السنوات اللاحقة، انتشرت فكرة استقلال البنك المركزي في جميع أنحاء العالم المتقدم.
- من عام 1942 حتى عام 1951، التزم بنك الاحتياطي الفيدرالي رسميًا بمساعدة وزارة الخزانة من خلال تحديد سعر الفائدة على السندات الحكومية الأمريكية طويلة الأجل بنسبة 2.5%، وذلك للسماح للحكومة الفيدرالية بتمويل الحرب بتكلفة أقل.
- بعد بداية الحرب الكورية في عام 1950، أدت الضغوط التضخمية إلى تضارب بين هذا الالتزام والتدابير اللازمة للوفاء بمهمة بنك الاحتياطي الفيدرالي للسيطرة على التضخم، وزادت التوترات بينه وبين وزارة الخزانة.
- بعد سلسلة من الخلافات المريرة والعلنية بشكل متزايد، فشل الجانبان في التوصل إلى اتفاق، ورفض الكونجرس التدخل بشكل مباشر. لكن في 22 فبراير 1951 دعا سيناتور إلى تخفيف سياسة وزارة الخزانة سياساتها والتنازل عن قضيتها، ومحافظة الفيدرالي على حقه القانوني للوفاء بالتزاماته.
- بعد أيام جاء الإعلان الذي قال: توصلت الخزانة ونظام الاحتياطي الفيدرالي إلى اتفاق كامل فيما يتعلق بإدارة الديون والسياسات النقدية التي يتعين اتباعها لتعزيز هدفهما المشترك لضمان التمويل الناجح لمتطلبات الحكومة، وفي الوقت نفسه، تقليل تسييل الدين العام.
- ضمنت الاتفاقية استقلال الاحتياطي الفيدرالي فيما يتعلق بالسياسة النقدية، ومهدت الطريق لـ"بول فولكر" لاتخاذ إجراءات جذرية في أوائل الثمانينيات لخفض التضخم. (لم تكن هذه نهاية محاولات التدخل: وصف الرئيس "ترومان" رئيس المجلس "ويليام ماكيسني مارتن" بأنه خائن لعدم استجابته للضغوط).
اختبار للعالم
- الفرق اللافت للنظر بين الماضي والحاضر هو أن الضغط لإبقاء أسعار الفائدة منخفضة يأتي من البنوك المركزية نفسها الآن، مع انخراط البعض في "التحكم في منحنى العائد" لوضع حد أعلى للفائدة، مع توسيع عرض النقود بسرعة بالتزامن مع عجز موازنات الحكومات.
- من المدهش أن المسؤولين لا يرون التضخم حتى على أنه خطر؛ قال كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، تعليقًا على التحفيز المالي الضخم الذي اقترحه الرئيس الأمريكي جو بايدن، إن التضخم "لا يدعو للقلق"، في تعليقات مشابهة لما قاله كبير الاقتصاديين في المركزي الأوروبي العام الماضي.
- قد يكونون على حق، لكن من الصعب تخيل أن ارتفاع التضخم إلى مستويات أعلى من المستهدف سيكون موضع ترحيب من قبل البنوك المركزية التي أخفقت في تحقيق أهداف التضخم في السابق.
- عند هذه النقطة، قد يكون من الضروري إجراء قفزة في أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم، مما يؤدي إلى تصحيح حاد في السوق (بخلاف توقعات البنوك المركزية باستمرار الفائدة منخفضة لوقت طويل)، فالثقة المفرطة في التنبؤات والنماذج المتعلقة بها أمر خطير.
- يقول كبير الاقتصاديين السابق للبنك المركزي الأوروبي "أوتمار إيسينج": عندما يُظهر الواقع أن البنوك المركزية لا تستطيع الوفاء بالتوقعات التي تواجهها، أو حتى أنها بالغت في الثقة بنفسها، فستفقد مصداقيتها.
- إذا تسببت البنوك المركزية في تضخم مفرط بسبب سوء الإدارة، فإنها تفقد مصداقيتها كوصي على استقرار العملة، وقد يكون لذلك تداعيات خطيرة وتدخلات مربكة، كما أن تسببها في حالات الانكماش أو انغماسها في معارك سياسية، يفقدها شخصية المؤسسة المستقلة القادرة على إدارة الأزمة.
- فهل سيحتاج العالم إلى اتفاق آخر، سواء في الولايات المتحدة أو في أي مكان آخر، للحفاظ على مصداقية البنوك المركزية واستقلاليتها؟
المصادر: أرقام- بلومبيرغ- فايننشال تايمز- فرانس برس- منتدى المؤسسات النقدية والمالية (منظمة بحثية مستقلة)
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}