في العلوم والهندسة يوجد هناك مفهوم يسمى "نسبة الإشارة إلى الضوضاء" يعبر عن نسبة المعلومات المفيدة التي يتم استقبالها (الإشارة) إلى البيانات الخاطئة أو غير المفيدة (الضوضاء). هذا المفهوم ربما يكون مستثمرو سوق الأسهم في حاجة لفهمه واستيعابه أكثر من دارسي العلوم والهندسة.
في السنوات العشر الأخيرة، أصبح المستثمر محاصرًا بكم هائل من البيانات والمعلومات التي يخرج بها عليه كل يوم وعلى مدار الساعة الكثير من الصحف والمواقع والمحللين وشركات البحوث وبيوت الخبرة والبرامج التلفزيونية والإذاعية، ناهيك عن المنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي، المستثمر بسوق الأسهم اليوم يقف في الطرف المستقبل لكل هذا الجنون، هذه المعلومات الوفيرة قد تبدو كميزة، ولكنها في الواقع تضرك أكثر مما تنفعك.
كيف يضيع المستثمر بين المعلومات والبيانات؟
في مقابل عدد قليل من الحقائق المهمة والبيانات والمعلومات المفيدة فعلًا يتم خنق المستثمر بمعلومات أقل ما يمكن وصفها به هو أنها عديمة القيمة، وأمام هذا السيل العرم من البيانات ينتهي الأمر عادة بالبيانات المهمة مدفونة ببيانات لاحقة تأتي خلفها بسرعة، لتختفي في لمح البصر من أمام عين المستثمر الذي يجد صعوبة في الانتباه إليها، المستثمر البطل هذه الأيام هو ذلك الذي يمتلك القدرة على غربلة هذا الكم الهائل من المعلومات الذي تتم محاصرته به كل يوم.
وفي الحقيقة، ربما يحتاج المستثمر إلى معلومات أقل بكثير مما هو متاح حاليًا من أجل اتخاذ قرار استثماري مستنير، والأهم من ذلك هو أن المستثمر يحتاج فعلًا إلى معلومات أقل من تلك التي يعتقد أنه بحاجة إليها. للأسف، كثير من القرارات الاستثمارية السيئة عادة ما يكون سببها توافر المزيد من المعلومات أمام المستثمر مما يساهم في تشتيته ويضعف من قدرته على تصنيفها وفق أهميتها.
الواقع يقول إن المستثمرين يتخذون كل يوم قرارات استثمارية مبنية على الضوضاء، وليس لها أسس ولا مبررات استثمارية ذات معنى، ومع الوقت، حلت الشائعات والتسريبات والمنتديات وغرف الدردشة وتوقعات الأرباح غير الرسمية محل التخطيط الاستراتيجي والتحليل الأساسي والنهج الاستثماري المنضبط وتحليل المخاطر.
والمشكلة لا تكمن في المعلومات عديمة القيمة أو البيانات غير المفيدة بحد ذاتها بقدر ما تكمن في أن هذا النوع من المعلومات والبيانات أصبح له شعبية كبيرة بين جمهور المستثمرين، الذي بات مدمنًا للبيانات بغض النظر عن جودتها لأنه ببساطة يخشى أن تفوته معلومة يمكنه الاستفادة منها في تحقيق ربح أو تلافي خسارة.
والمثير للسخرية أن المستثمر عادة ما يجهد نفسه في ملاحقة ومتابعة أكبر قدر ممكن من الأخبار بحثًا عن البيانات والمعلومات ثم ينسى أو لا يجد وقتًا لفهم وتدقيق هذه البيانات والمعلومات، وبالتالي لا يستطيع تحديد أيها مهم وأيها غير ذلك، ومن المستحيل أن يستطيع المستثمر استخلاص المعلومات المهمة إذا لم يأخذ الوقت الكافي في تدقيق ما يتلقاه ويستقبله.
قد تضرك المزايا!
حياتنا اليومية عبارة عن سلسلة من القرارات، تحدد كيفية اتخاذنا لها شكل الحياة التي نعيشها، أنت على سبيل المثال قد تجبر طفلك الصغير على القيام بأشياء يكرهها مثل تناول الخضراوات، بالنسبة له مذاق الخضراوات سيئ، ولكنك تحبه وتعرف أنه يجب عليه تناول الخضراوات لكي يحصل جسمه على الفيتامينات اللازمة، وفي نفس الوقت تمتنع عن إعطائه الحلوى والمشروبات الغازية رغم حبه لطعم السكر بها لعلمك مدى ضررها عليه.
أنت ببساطة كأب تعرف أن الأشياء التي تبدو جيدة بالنسبة له في بعض الأحيان قد تكون في الحقيقة عكس ذلك، وأن تلك التي قد يراها هو سيئة يمكنها أن تكون مفيدة بالفعل، نفس المنطق يمكنك سحبه إلى سوق الأسهم والاستفادة منه كمستثمر.
ففي الواقع إن كثيرًا من الأمور التي قد تنظر إليها كمزايا قد تكون أحد الأسباب الرئيسية وراء أخطائك الاستثمارية، في السنوات الأخيرة سهلت التكنولوجيا كثيرًا عملية الاستثمار من الناحية الإجرائية وأصبح بإمكان المستثمر شراء وبيع الأسهم بضغطة زر عبر جواله أو جهاز الكمبيوتر.
ولكن السهولة والسرعة التي أصبحت عليها عملية الاستثمار من ناحية والكم الهائل من البيانات المتاحة التي يختلط فيها الغث بالسمين من ناحية أخرى ساهما في نزوع المستثمرين ناحية المضاربة وسيطرة التسرع والتهور على قراراتهم، بدلًا من الحكم التحليلي السليم والذي عادة ما يستغرق الوصول إليه وقتًا وجهدًا غير قليلين.
هذا التسرع غالبًا ما يقود المستثمر لارتكاب أخطاء لا يمكن وصفها إلا بالساذجة، على سبيل المثال، في 30 يونيو من عام 2000 ذكرت محطة تلفزيونية أمريكية أن إحدى شركات الوساطة قامت بترقية توصيتها لسهم الشركة التي تحمل رمز التداول "MACC" إلى "شراء"، على الفور اندفع جمهور المستثمرين إلى شراء السهم، قبل أن يكتشفوا لاحقًا وقوع المحطة التلفزيونية في خطأ، حيث اتضح أن رمز التداول الصحيح للشركة المقصودة هو "AMCC".
كان الرمز الخاطئ أو "MACC" يخص شركة صغيرة تدعى "ماك برايفيت إيكويتي" لا تزيد قيمتها السوقية في ذلك الوقت على 17 مليون دولار، في حين كان رمز التداول الصحيح أو "AMCC" يعود لشركة "أبلايد مايكرو سيركتس كوبوريشن" البالغة قيمتها السوقية حينها نحو 20 مليار دولار، شركتان مختلفتان تمامًا تعملان في صناعات لا علاقة لها ببعضها.
دون أن يكلف أي منهم نفسه عناء التأكد من المعلومة التي عرضتها المحطة التلفزيونية وما إذا كانت دقيقة أو لا هرع كثير من المستثمرين إلى شراء السهم الخطأ، مما أدى إلى ارتفاع سعره بشكل مفاجئ بأكثر من 80%، فيما وصل عدد أسهم الشركة المتداول عليها من قبل هؤلاء إلى نحو 344 ألف سهم، وذلك مقارنة مع بضع مئات من الأسهم فقط في الأيام العادية، وبعد أن أدركوا اللبس، سارعوا إلى الخروج منه ليهبط السهم مرة أخرى إلى سعره الأصلي.
هؤلاء الذين تداولوا تلك الأسهم البالغ عددها 344 ألفًا فعلوا ذلك بناءً على الضجيج فقط، رغم أن التأكد من المعلومة التي أوردتها المحطة قبل اتخاذ قرار الشراء لم يكن ليستغرق أكثر من بضع دقائق، ولكن رغبتهم الجامحة في التعامل السريع على أساس أي معلومة مهما كانت دقتها سيطرت عليهم.
خلاصة الكلام، أكثر المعلومات المتاحة في السوق غير مفيدة وبالتالي قد يكون الجهل بها نعمة لأنها لن تزيد المستثمر إلا تشتتًا، ولكن يظل الكلام أسهل من الفعل.
من الصعب جدًا على أكثر المتواجدين بسوق الأسهم هذه الأيام والمتأثرين بثقافة عصر السرعة أن يتوقفوا عن ملاحقة الأخبار والبيانات بهذا الشكل، وبمجرد أن نحاول ذلك سنشعر بالملل والخوف من تفويت شيء ما مهم، لأن سنوات من المتابعة اللصيقة للأخبار والبيانات جعلتنا أكثر ضعفًا وهشاشة من الناحية العقلية لدرجة أن أكثرنا أصبح لا يصبر على البعد عن شاشة جواله لبضع ساعات.
المستثمر: أرقام – واشنطن بوست
كتاب: Navigate the Noise: Investing in the New Age of Media and Hype
كتاب: The Markets and the Media: Business News and Stock Market Movements
التعليقات {{getCommentCount()}}
كن أول من يعلق على الخبر
رد{{comment.DisplayName}} على {{getCommenterName(comment.ParentThreadID)}}
{{comment.DisplayName}}
{{comment.ElapsedTime}}